نظام القصاص في الشريعة الاسلامية

المحامية / ورود فخري علي
(ولكم في القصاص حياة ) اية سرمدية من آيات الله لا تفنى تحمل في ثناياها اعجازا تشريعيا تعجز النظم القانونية سواء كانت جنائية ام عقابية عن الدنو منها او حتى التشبه بها فهي تحمل بين طياتها الموت والحياة في آن واحد فالعقوبة التي تودي بحياة الجاني هي في ذاتها حياة لمجتمع كامل ..

يقوم النظام العقابي في الاسلام على مبدا القصاص استنادا الى قول الشارع الحكيم ( ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب لعلكم تعقلون ) ( سورة البقرة – الاية 179 ) ، ومعناه هنا اي القصاص هو : التساوي بين الجرم والعقوبة وتلك غاية تحاول جميع النظم القانونية الوضعية الوصول اليها ، ذلك لأنه نظام يقوم على الرحمة و العدل اللذان هما صنوان متلازمان فاحدهما نتيجة للأخر و ثمرة من ثمراته و كلاهما يهدفان الى حفظ الكليات الخمسة التي هي اساس الحياة و سر كينونتها و دوامها و هي : ( حفظ النفس ، وحفظ الدين ، و حفظ العقل ، و حفظ النسل ، و حفظ المال ) لذلك فان النظام العقابي في الاسلام يقوم على اساس ان العقوبات انما وجدت للمحافظة على هذه الضروريات و المصالح الانسانية الخمسة و بذلك تشترك الشريعة الاسلامية مع بقية النظم القانونية قديمها وحديثها في الحفاظ على هذه الكليات الخمسة و صيانتها بيد ان الاولى نجحت في ذلك كونها تدور في فلك من بديع صنع الخالق بينما الاخرى فشلت وانهارت او في طريقها الى ذلك .

ويقصد بالقصاص في الفقه الإسلامي : (المساواة على الإطلاق و معناه أيضا التتبع و منه تتبع قصص السابقين بمعنى أخبارهم و القصاص مأخوذ من قص الأثر، وهو إتباعه ) .

اما المعنى الاصطلاحي له هو (أن يعاقب المجرم بمثل فعله فيقتل كما قتل و يجرح كما جرح) و هو (عقوبة مقدرة ثبت أصلها بالكتاب ، وثبت تفصيلها بالسنة ، وهو المساواة بين الجريمة و العقوبة) ، ويعتبر القصاص من اهم السمات التي يتميز بها النظام العقابي الاسلامي وهو بذلك يختلف عن الانظمة العقابية الوضعية وهو ثابت مسنود من القران و السنة و الاجماع بل هو جوهر نظرية العقوبة في الشريعة الاسلامية ، و يقسم الفقهاء القصاص الى قسمين : قصاص مادي ( وهو ان ينزل بالجاني عقوبة مادية مماثلة لتلك التي حلت بالمجني عليه ) و هذا هو الاصل في القصاص.

اما النوع الثاني فهو القصاص المعنوي ( وهو دية ما اتلف : وهو عبارة عن عقوبة مالية يؤديها الجاني كتعويض عن الاعتداء على جسم المجنى عليه بالجرح ) و وجد القصاص المعنوي في حالة استحالة الوصول الى القصاص المادي ذاته كجرح لا يمكن المماثلة فيه او في حالة عدم توافر شروط القصاص الحقيقي او في حالة توفر شبهة تدرا بها العقوبة فسقوط القصاص الاصلي ( المادي ) لا يذهب حق المجنى عليه وانما يوجب القصاص المعنوي .

وهناك طائفة من الفقهاء من يقسم القصاص من حيث الجريمة الى نوعين هما : قصاص النفس ( قتل النفس العمد او شبه العمد ) والنوع الثاني هو قصاص دون النفس ( اي الاطراف والجروح ) .

ولا بد لنا من القول هنا ان الشارع الحكيم جل وعلا لم يشرع شيء الا لحكمة بالغة يراد بها صلاح البلاد والعباد فنظام القصاص شانه في ذلك شان اي نظام اخر فرضه الله على عباده وهذه الحكمة تكمن في مغزى الآية ( 179 ) من سورة البقرة الخاصة بنظام القصاص فهي بحسب راي جمهور الفقهاء تحمل حكمة عظيمة تكمن في فائدة القصاص التي هي فائدة عامة لا تقتصر على المجنى عليه و انما يتعدى اثره الى المجتمع فهو ليس انتقاما للمجنى عليه و انما للمحافظ على حياة المجتمع باسره ، كما ان لفظ القصاص ذاته يحمل معنى العدالة لان المعنى اللغوي للقصاص هو المساواة بين شيئين والمساواة هنا تكون بين الجريمة والعقوبة وهذا بدوره يعد رادعا منيعا للجريمة وبالنتيجة فانه ضمان لحياة الجماعة فعدم وجود القصاص يؤدي الى كثرة القتل وسيادة الفوضى في المجتمع وهذا حتما سيهدد حياة الجماعة بالفناء .

اما وجودها فهو مدعاة لحياة هادئة هانئة ، وقد عدت هذه الاية الكريمة ردا مسكتا على مناهضي عقوبة الاعدام لان الغاءها سيؤدي بالنتيجة الى سفك الدماء الكثيرة دون وجود رادع وبذلك تسود شريعة الغاب ويأكل القوي الضعيف وتعم الفوضى وتنهار المجتمعات ، ومن اجل ذلك فقد جاء نظام القصاص في حكم الفرض الثابت شانه في ذلك شان الصلاة و الصيام و الجهاد فيقول الله تعالى ( كتب عليكم القصاص ) وهي ذات الصيغة المستعملة في الفروض الاخرى حيث يقول ( كتب عليكم الصيام ) و ( كتب عليكم القتال …) و قال تعالى في سورة النساء (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) أي أنه من الفروض الثابتة ، كما ان القصاص من القاتل يمثل حياة للمجنى عليه اي احياء لدمه وعدم ضياعه هدرا وبذلك يتحقق الردع العام للمجتمع ومقاصد الشارع الحكيم في صيانة الانفس و الحفاظ على حياة الافراد .

وهناك قصاص من نوع اخر هو القصاص في الاطراف استنادا الى الآية ( 45 ) من سورة المائدة (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

ورغم ان بعض فقهاء القانون وجهوا انتقادات الى القصاص في الاطراف اهمها : انها تؤدي الى كثرة المشوهين في المجتمع وانه فيه نوع من الانتقام لذلك فهو ضد مقاصد القوانين التي غايتها الاصلاح وليس الانتقام كما انه قد لا تتوفر فيه المساواة اذ يمكن قطع يد قوية مقابل يد ضعيفة ، لكن تلك الانتقادات مردودة على اصحابها كون ان القصاص في الاطراف لا يزيد المشوهين لان غايته الردع فالذي يعلم انه ستقطع يده ان اقدم على قطع يد غيره سوف يرتدع عن العقوبة ولن يقدم عليها نهائيا ، فضلا عن انه يتوفر فيه المساواة بين الجريمة والعقوبة وهو جوهر القصاص وليس فيه انتقام لان تنفيذ العقوبة والحكم بها سيتم من قبل ولي الامر الحاكم او من ينوب عنه وليس من قبل الجاني كما ان تقييم قوة الاعضاء من عدمه مسالة شخصية يرجع فيها الى قيمة اليد المقطوعة عند صاحبها وليس في نظر الناس .

و هناك قصاص من نوع اخر وهو القصاص في غير القتل و الجروح ويكون هذا القصاص في الايذاء بالضرب او اللطم على ان يراعى ان لا يقع في عضو قابل للتلف وهناك ايضا القصاص في اتلاف المال فمن اتلف مال الغير كهدم دار او اتلاف بستان او غير ذلك يقتص منه وهو راي مختلف عليه من قبل الفقهاء فقد قال بعضهم انه لا قصاص في هذه الحال بل يجب التعويض عن قيمة ما افسده او قيمته .. لقد كانت الشريعة الاسلامية تحكم المجتمعات الاسلامية لانها كانت صالحة لها فهي جاءت في وقت كانت فيه الامة تحتاج و بشدة لقانون ينصف الضعيف و ينصر المظلوم ويساوي بين الافراد لذلك جاء النظام العقابي ليحقق الغاية من ايقاع العقوبة وليس اداة للانتقام من الجاني بل هي اداة لردعه وتهذيبه غايته صيانة المجتمع و الحفاظ على الانفس وليس ادل على ان نظام القصاص هو نظام متكامل يحمل في طياته حكمة عظيمة وغاية عميقة انه نظام متبع في الكثير من النظم والتشريعات الوضعية الحديثة لأنه يصب في النهاية في صيانة امن المجتمع والمحافظة على الارواح و دفع المظالم و التقليل من الجريمة.