مقترحات لتطوير الإجراءات القضائية
بشار بن عمر المفدىع
تشهد السعودية ثورة تنظيمية لامست أغلب جوانب الحياة المدنية، وذلك من خلال إصدار أنظمة تهدف إلى ملء فراغ تشريعي طال انتظاره. القطاعات العدلية أحد الجهات التي تأثرت بهذه الثورة حيث طُورت وعدلت أنظمة عدة ساعدت على نقل إجراءات التقاضي من النمط القديم المتصلب إلى النمط الحديث المرن. وحيث إن الوسائل الإجرائية متجددة ومتغيرة فلابد من تطورها من حين لآخر عبر إضافة وتجديد بعض الأدوات التنظيمية التي تهدف إلى اختصار خطوات الترافع وتسهيل عملية التقاضي.

فيما يلي بعض الاقتراحات لتطوير إجراءات الترافع أمام المحاكم السعودية استمددتها من بعض الدول الغربية والعربية المتطورة إجرائيا:

1. إجراء “المكاشفة” أو “الإفصاح”: مما يتميز به القضاء الأمريكي والبريطاني إجراء قديم معروف يسمى في أمريكا بـ”Discovery” ويعرف في بريطانيا بـ”Disclosure” ويمكن ترجمته بـ”المكاشفة” أو “الإفصاح”. وهذا المبدأ هو إجراء من إجراءات ما قبل المحاكمة ويقصد به أن لكل طرف من أطراف القضية -بقوة قانون المرافعات- الحق في الحصول على جميع الأدلة والبيانات المتعلقة بالقضية من الطرف الآخر قبل بدء الترافع.

ويشمل ذلك الاستجوابات، والوثائق، والشهادات وغيرها وفق أطر قانونية دقيقة منصوص عليها في قانون المرافعات. وبعد إظهار جميع الأدلة للطرف الآخر تجمع ثم ترسل نسخة منها إلى المحكمة. ويهدف هذا الإجراء إلى أمرين:

‌أ- أن كثيرا من القضايا تنتهي بالصلح عند هذه المرحلة بسبب ظهور أدلة قد يجهلها أحد الأطراف وتبين قوة أو ضعف مركزه القانوني. وبعض الدراسات أثبتت أن هذا الإجراء أدى إلى الصلح بنسبة تصل إلى 30 في المائة. ‌

ب- بعد إرسال جميع أدلة وإثباتات القضية إلى المحكمة، لا يحق لأي طرف إضافة أي دليل إلى القضية إلا وفقا لاستثناءات ضيقة. ويهدف هذا القيد إلى سرعة البت في القضايا لاكتمال البيانات أمام القاضي، فلا يمكن لأي خصم المماطلة في القضية وتأجيل الجلسات لإحضارها. كما يهدف إلى عدم إشغال القاضي بمطالبة الخصوم بأمور إدارية أو تكليفية قد لا تتعلق موضوعيا بماهية الدعوى.

2. إجراء “الحكم المختصر” أو “الدفوع المستعجلة”: يتميز القضاء الأمريكي بمبدأ مهم يختصر على القاضي والمترافعين طول جلسات التقاضي غير المفيدة. يعرف هذا المبدأ بـSummary judgment أو Judgment as a matter of law ويمكن ترجمته بـ”الحكم السريع” أو “الحكم في شأن قانوني”.

يعنى هذا المبدأ بمنح أطراف الدعوى الحق في الطلب من القاضي بالنظر بشكل مستعجل في دفع شكلي قبل المضي في نظر الدعوى موضوعا.

من أمثلة الدفوع الشكلية التي يحق لأطراف الدعوى طلبها بشكل مستعجل هي: عدم الاختصاص الزماني، عدم الاختصاص المكاني، عدم الاختصاص الموضوعي، عدم الصفة للمدعي أو المدعى عليه، السبق بالحكم في القضية، عدم وجود صلح أو حكم تحكيمي سابق، وغيرها من الشروط الشكلية المعروفة. ووفقا للإجراءات الحالية في السعودية، لا ينظر القاضي في دفع أحد أطراف الدعوى بعدم توافر أحد الشروط الشكلية “كالاختصاص الموضوعي” إلا بعد تبادل الخصوم المذكرات وتهيئة الدعوى للحكم، التي عادة تأخذ جلسات عديدة.

في المقابل، يحق لأطراف الدعوى في القانون الأمريكي تقديم دفوع مستعجلة للنظر في تحقق الشروط الشكلية قبل المضي في الدعوى. فإذا لم تتحقق أحد الشروط الشكلية، حكم فيها القاضي بصرف النظر في الدعوى قبل النظر في موضوعها. أما إذا تحققت جميع الشروط الشكلية فيمضي القاضي في سماع الدعوى. فهذا الإجراء حفظ على القاضي وأطراف الدعوى وقتا طويلا كاد يضيع لولا هذا الإجراء.

وقد ذكر لي أحد المحامين في السعودية أنه ترافع في قضية، وكان يدفع من أول جلسة بعدم الاختصاص الموضوعي. وبعد ست جلسات من تبادل المذكرات في موضوع الدعوى، حكم القاضي بعدم الاختصاص الموضوعي بنظر الدعوى! فمع تبني هذا المبدأ، سيحكم القاضي من الجلسة الأولى بناء على دفع مستعجل من المدعى عليه بعدم الاختصاص الموضوعي، الذي سيحفظ على القضاء خمس جلسات قضائية.

ذكرت في المقال السابق بعض المقترحات لتطوير الإجراءات القضائية في المحاكم السعودية التي تهدف إلى اختصار أمد التقاضي ورفع الطاقة الاستيعابية للمحاكم. في هذا المقال أكمل ذكر هذه الاقتراحات، وهي كالتالي:

1. الحد من الدعاوى غير المفيدة: لا يخفى على مطلع على الشأن الحقوقي وجود دعاوى لا تهدف إلى معرفة الحق، بل تهدف إلى اكتساب مدة أطول في الظلم والمماطلة في رد الحقوق، ولا يخفى كذلك الفرق بين الدعاوى غير المفيدة وبين الدعاوى الكيدية. ومن أمثلة الدعاوى غير المفيدة – كما ذكر لي أحد المحامين- دعوى مرفوعة من تاجر سعودي على ممثل شركة كورية. وفي اجتماعات محامي التاجر السعودي مع ممثل الشركة الكورية ذكر الممثل صراحة أنه يعلم أن الحق للتاجر السعودي، لكن يريد الممثل أن يستثمر المال وينتفع به إلى أن يحكم القاضي في القضية. المثال الآخر لمستشار في الإدارة القانونية في أحد البنوك السعودية، ذكر لي أنه في كثير من الشكاوى التي تأتي إليهم يعلم البنك أن الحق مع العميل، لكن لا يعطيه حقه إلا بحكم قضائي! في هذين المثالين بيان لبعض القضايا التي تشغل القضاء من غير فائدة.

السؤال هنا: ما الحلول التي انتهجتها الدول لمكافحة أمثال هذه الدعاوى غير المفيدة؟ الحلول التي وجدتها هي كالتالي:

‌أ- فرض فوائد ربوية: وهذا معمول به في أمريكا، ولن أناقشه لحرمته.

‌ب- فرض رسوم إدارية تتناسب مع المبلغ المتنازع عليه في الدعاوى ويتحملها الخاسر: وهذا معمول به في أمريكا وفي الإمارات العربية المتحدة. وهناك قيود مخففة لمحدودي الدخل. ‌

ج- تحمل الخاسر أتعاب المحاماة: وهذا معمول به في المملكة المتحدة. كل هذه الحلول تساعد على الحد ابتداءً من ذهاب المدعي أو المدعى عليه إلى المحكمة وهو يعلم أنه خاسر.

2. الحد من ظاهرة الغياب عن الجلسات: التغيب عن جلسات المحكمة من المظاهر المزعجة في محاكمنا التي أدت إلى طول القضايا، وكل ذلك يرجع إلى أنه لا يمكن للقاضي أن يحكم في الدعوى قبل أن تتهيأ القضية للحكم، الذي بدوره أدى إلى استغلال البعض لهذا الأمر استغلالاً سيئاً. فما الحل في ذلك؟ من الحلول التي وجدتها – وهو مطبق في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة – أن يُجعل عدم حضور الجلسات لغير عذر مقبول جريمة بحد ذاته يعاقب عليها القانون، لأن فيه إشغال للسلطات وإضاعة لوقت المحكمة. فلو طبق هذا النظام عندنا لحد من عبث بعض الخصوم والمماطلة بالتغيب عن مواعيد الجلسات.

3. اختصار الإجراءات الإدارية المكررة في دعاوى الموضوع ودعاوى التنفيذ: تنطلق إجراءات التقاضي من نقطة الصفر عند رفع الدعوى وتنتهي بالقمة وهي إصدار الحكم واكتسابه للقطعية. ثم بعد ذلك تعود الدعوى عند تنفيذها إلى مرحلة الصفر مجددا وتصعد إلى القمة مرة أخرى وهو تنفيذ الحكم. السؤال: هل يمكن اختصار الإجراءات الإدارية غير الضرورية خاصة عودة الدعوى إلى نقطة الصفر مرة أخرى عند تنفيذ الحكم القضائي؟ نعم، ذلك ممكن، وحله يسير من خلال اختصار بعض الإجراءات الإدارية غير الضرورية التي تبدأ من تقديم طلب التنفيذ وحتى إصدار القرار بتنفيذه.

فالإجراءات الحالية هي: 1) تقديم معاملة جديدة لطلب التنفيذ إلى دوائر التنفيذ. 2) انتظارها حتى ترفع إلى قاضي التنفيذ. 3) انتظارها حتى إصدار خطاب الإبلاغ. 4) إبلاغ المنفذ عليه. 5) إذا كان غير معلوم العنوان يرسل الإبلاغ إلى الحقوق المدنية. 6) الحقوق ترسلها إلى مركز الشرطة الرئيس. 7) المركز يرسلها إلى الفرع القريب من المنفذ عليه. 8) بعد أيام تعود المعاملة إلى مركز الشرطة الرئيس. 9) المركز الرئيس يرسلها إلى الحقوق المدنية. 10) الحقوق المدنية ترسلها إلى دائرة التنفيذ. 11) في حال عدم الإبلاغ يتم الإعلان في صحيفة والانتظار لبضعة أيام. 12) إصدار حكم التنفيذ. والإجراء المقترح هو:

‌أ- عند إصدار قاضي الموضوع الحكم وطلب المنفذ له التنفيذ، فإن قاضي الموضوع يبلغ المنفذ عليه بوجوب التنفيذ خلال ثلاثة أيام من اكتساب الحكم للقطعية، وتبدأ احتساب المدد المتعلقة بذلك. ‌

ب- ثم يحيل قاضي الموضوع المعاملة إلى قاضي التنفيذ، ويطلب قاضي الموضوع من المنفذ له متابعة المعاملة مع قاضي التنفيذ.

‌ج- بعد وصول المعاملة إلى قاضي التنفيذ يبدأ في إكمال التنفيذ من مرحلة إصدار قرارات التنفيذ. بهذه الإجراءات تم إلغاء الإجراءات غير المفيدة أو المكررة، والقفز إلى الخطوة رقم (12) من خطوات التنفيذ، من دون إهدار طاقة المحكمة والجهات ذات العلاقة.
إعادة نشر بواسطة محاماة نت