نظريات البحث العلمي في مجال القانون
مع تطور المجتمعات البشرية الأولى، بدأت القواعد القانونية بالظهور لتنظيم حياة البشر في علاقاتهم ومعاملاتهم مع بعضهم الآخر ودرءاً للفوضى التي يمكن أن تنجم عن ترك الباب مشرعاً أمام الجميع لاستيفاء حقهم بأنفسهم. فكانت شرائع حمورابي ملك بابل أولى القوانين الوضعية المدونة في هذا الصدد. لكن تلك الشرائع لم تعد كافية وحدها فيما بعد مع توسع المجتمعات واختلاف حاجات البشر. فكان لا بد من تعديل وتطوير القواعد القانونية وظهور منظرين قانونيين في المجتمعات الحديثة أمثال هيجل وأوستن وجيني وسافيني وغيرهم.

إن النظم الاجتماعية والقانونية منذ بدايتها نشأت من دون وعي أو جهد متعمد من الإنسان، وكان الإنسان قديماً، يعبر عن حاجاته ودوافعه بشكل فطري يسعى إلى تلبيتها متخذاً نسقاً قانونياً فردياً، وغالباً ما كان يخضع لمنطق القوة العضلية لإشباع رغباته الأساسية من الأكل والشرب.

إلا أنه لابد للإنسان من الاتصال بالعالم الخارجي محتكاً بأناس آخرين وبالبيئة المحيطة به والتي قد تفرض نفسها في بعض الأحيان على نشاطات الإنسان المختلفة وتجعله يدور في فلكها، محددة له الأهداف التي عليه السعي لتحقيقها، ومن ثم فإن المجتمع متغير الأهداف بما لا يدع مجالاً للشك أن النظم الاجتماعية والقانونية متغيرةً معه أيضاً. وبالتالي فإن نظريات البحث العلمي في مجال القانون تنقسم إلى ثلاث أقسام رئيسية هي: النظريات الشكلية، والنظريات الموضوعية، ونظريات ذات طابع مزدوج (شكلية وموضوعية).

القسم الأول: نظريات البحث الشكلية في القانون
يتفرع عن نظريات البحث الشكلية أربع نظريات هي نظرية أوستن، ونظرية كلسن، ونظرية هيجل، ونظرية الشرح على المتون، بالتفصيل التالي:

1- نظرية أوستن (النظرية الوضعية التحليلية): تعود بدايات الفكر الوضعي التحليلي لكل من “بنتام” و “إهرينج”، غير أن القانون لدى هذين المفكرين غلفته استنتاجات فلسفية مما جعل “أوستن” هو المؤسس الحقيقي لهذه النظرية وإعادة النظر في بنائها، وصاغ “أوستن” نظريته الوضعية التحليلية في محاضراته الست الأولى التي ألقاها بجامعة لندن في عام 1833 لطلبة القانون وطبعه في كتاب أسماه (The Province Jurisprudence Determined)، وأساس نظريته أنه لكي يصدر قانون يجب أن توجد هيئة حاكمة تتمتع بالسيادة السياسية وجهة أخرى محكومة تخضع لما تصدره الهيئة الحاكمة من أوامر ونواهٍ، وأن القانون لا بد أن يصدر على هيئة أوامر أو نواهٍ.

فالقانون ليس مجرد نصيحة يدعى الناس إلى اتباعها إن شاءوا أطاعوها وإن شاءوا تركوها، وأن الأمر أو النهي قد يكون صريحاً وقد يكون ضمنياً. كذلك من أساس نظرية “أوستن” أن القاعدة القانونية لابد أن تقترن بجزاء دنيوي، ذلك أن الأمر والنهي الذي تنظمه القاعدة القانونية يحتوي بداية على الجزاء ويتم تنفيذ هذا الجزاء عن طريق السلطة العامة أي أن القانون هو قانون الدولة وكل دولة لابد أن تكون دولة قانون.

2- نظرية كلسن (نظرية القانون البحت): وتعود نشأة هذه النظرية إلى الفيلسوف النمساوي “كلسن” الذي كان يعمل أستاذاً لفلسفة القانون بجامعة فيينا سنة 1917. وقد صاغ نظرية القانون البحت للتعبير عن هدفه في الوصول إلى علم قانون حقيقي لا تشوبه أي عناصر أجنبية عن القانون بالمعنى الحقيقي. ويقصد بالعناصر الأجنبية هنا المبادئ المثالية والأخلاقية والعوامل الإجتماعية والعقائد السياسية باعتبار أن هذه العوامل وتأثيراتها لا تدخل في اختصاص رجل القانون البحت، وإنما تدخل في اختصاص علماء الاقتصاد والاجتماع والفلسفة، وبالتالي فقد كان ينظر إلى العدل بوصفه مفهوماً عقائدياً فيرى أنه مثلاً أعلى يعكس تفضيلاً ذاتياً أو أولوية قيمية لشخص معين أو جماعة معينة.

يؤمن كلسن بأن الهدف الحقيقي للحكومة هو تحقيق أكبر تقدم ممكن في إسعاد وراحة الشعب ويصر على مبدأ النفعية. ويستند في نظريته على مجموعة من الأسس أهمها:

ضرورة التفرقة بين القوانين الطبيعية والقوانين الوضعية، والتي تستند بدورها إلى ضرورة التفرقة بين ما هو قائم فعلاً وما يجب أن يكون. يدخل علم القانون في نطاق ما يجب أن يكون أما القوانين الطبيعية فتدخل في نطاق ما هو قائم فعلاً.
أنه لا مجال لمثاليات ومبادئ القانون الطبيعي باعتبار أن نظرية القانون البحت تنقل القانون من غيبيات القانون الطبيعي إلى حقائق القانون الوضعي.
استبعاد كل ما يتصل بالعقائد السياسية، وهذا يستند إلى المبدأ السابق لأن القانون الطبيعي لم يصل إلى نتيجة واحدة منطقية.
عدم الخلط بين البحث ودراسة ظواهر السلوك الاجتماعي ومشكلاته لأنها تهتم بما يسبق وجوده أو يلحق تطبيقه من ظواهر بينما يهتم القانون البحت بالقواعد والضوابط القانونية في وجودها الشكلي.
يرى “كلسن” أن القانون عبارة عن مجموعة من الضوابط بحيث يتكون كل ضابط من شكل ومضمون. ولا تقتصر نظرية القانون البحت على العنصر الشكلي أو دراسة المضمون بالنقد والتقييم بل تدخل في نطاق علوم أخرى. أما الضوابط فإنها تندرج في إطار وبناء قانوني هرمي بحيث يستمد الضابط الأدنى شرعيته من الضابط الأعلى.
ويرى “كلسن” أن القاعدة القانونية عبارة عن حكم شرطي، أي أن القيام بعمل معين أو الامتناع عن عمل معين سوف يستتبع إجراءً قهرياً من الدولة. أما النظام القانوني فهو يستمد وحدته من كون القواعد المتباينة التي يتكون منها، ويمكن الرجوع بها إلى مصدر أخير هو القاعدة الأساسية حيث يعرِّفها بأنها القاعدة النهائية المسلمة التي تنشأ طبقاً لها قواعد هذا النظام أو تلغى، وتكتسب صحتها أو تفقدها.
3- نظرية هيجل: وتعود نشأة هذه النظرية للفيلسوف الألماني هيجل في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1770-1813). فهو الذي وضع المذهب الجدلي في التطور كعملية مستمرة لظهور الجديد واضمحلال القديم. ويكمن جوهر فلسفته في المثالية المطلقة بمعناها الموضوعي، أي أن فلسفته مثالية المذهب موضوعية المنهج، وقد فسر هيجل القانون بأنه التعبير عن الإرادة العاقلة التي تتحقق بطريقة تدريجبة متخذة الحرية شكلاً لها ورفض الآراء التي نظرت إلى القانون نظرة مجردة خارجة عن التاريخ، وأرجعه إلى مبادئ خالدة عامة.

تتلخص نظرية هيجل بأن القانون يستمد أساسه وشرعيته وقوته الملزمة من صدوره عن الدولة بحيث يعبر عن إرادة الحاكم في الدولة، وبشكل أدق، يعتبر القانون إرادة الدولة في الداخل بالنسبة لعلاقتها بالأفراد وإرادتها في الخارج بالنسبة لعلاقتها بغيرها من الدول.

4- نظرية الشرح على المتون: وتعود نشأة هذه النظرية إلى مطلع القرن التاسع عشر. تختلف هذه النظرية عن غيرها من النظريات في أنها لم تكن رأياً لفقيه واحداً، بل ثمرة لآراء مجموعة من الفقهاء الفرنسيين أشهرهم “أوبري ورو” و “ديمولومب” و “لوران” و “بودري لانكنتزي” والفقيه البلجيكي “لوران”. ويأخذ أنصار هذه النظرية بإعطاء النصوص التشريعية مكانة عليا، وبذلك يتفق هذا المذهب مع نظرية “أوستن” من حيث جعل التشريع هو المصدر الرسمي الوحيد للقانون.

يرجع السبب في تقدير فقهاء الشرح على المتون إلى الاختلاف في النظام القانوني الذي كان سائداً في شمال وجنوب فرنسا حيث كان شمال فرنسا قبل صدور التقنين المدني الفرنسي يخضع لنظام قانوني يستمد أساسه من قواعد العرف والتقاليد، أما جنوب فرنسا فكان يخضع لنظام قانوني مستمد من القانون الألماني.

كذلك فإن أنصار هذا النظرية يرون بوجوب التقيد في تفسير النصوص بإرادة المشرع لكن هذا لا يعني التقيد بحرفية النص بل العبرة في تفسير النصوص بنية المشرع الحقيقية أو المفترضة. ذلك أن النصوص تعبر عن نية المشرع وقت وضع النص لا وقت تطبيقه، ويتم الاعتداد بنية المشرع الحقيقية عبر الاستعانة بالمذكرات الإيضاحية. فإن لم تكن واضحة فإنه يلجأ للنية المفترضة التي يفترض أن المشرع كان يقصدها ويمكن الوصول إليها عن طريق مقارنة النصوص التي تحكم الحالات المشابهة من الروح العامة للتشريع والمبادئ الأساسية للقانون. كما يمكن الوصول إليها بالالتجاء إلى المصادر التاريخية ولا يستمد في ذلك بنية المشرع الإحتمالية.

القسم الثاني: نظريات البحث الموضوعية في القانون
يتفرع عنها أربع نظريات هي نظرية هوجو، ونظرية سافيتي (المذهب التاريخي)، ونظرية الغاية الاجتماعية، ونظرية التضامن الاجتماعي، بالتفصيل التالي:

1- نظرية هوجو: وتعود نشأة هذه النظرية إلى بداية القرن التاسع عشر للفيلسوف الألماني جوستاف هوجو، والذي لم ينظر للقاعدة القانونية باعتبار أنها نظاماً ساكناً بل كشيء متحرك متطور. وتمثل هذه النظرية رد فعل ضد وجهة النظر التي انتشرت في القرن التاسع عشر والقائلة بأن القانون هو نتاج الإرادة التحكمية للمشرع. أخذت هذه النظرية نقطة بدايتها من فكرة مثالية تماماً هي “روح الشعب وضميره”. ويعتبر جوستاف هوجو أول من رسم الخطوط الخارجية للمفهوم التاريخي الجديد للقانون وقد تأثر بأفكار “فيكو” و “مونتسكيو” والذي تعرض كتابه في فلسفة القانون الوضعي إلى مشكلة تكوُّن القانون، واضعاً بذلك نواه النظرية التارخية عندما أشار إلى أن القانون قد تكوَّن لدى مختلف الشعوب وعلى الأخص في روما القديمة وإنجلترا بعيداً عن سلطة التشريع.

وطبق نظريته في اللغة على نشأة القانون وتطوره فذكر أن القانون يعتبر نتاجاً تارخياً وتطوراً تارخياً ظهر دون تدخل مباشر أو فجائي من الله ودون اتفاق أو ميثاق بين الناس. فاحتياجات البشر وحاجاتهم هي التي وضعت بذور القانون وتعهدت بالرعاية فنما وترعرع.

2- نظرية سافيني (المذهب التاريخي): وتعود نشأة هذه النظرية للفقيه الألماني كارل فون سافيني. تعتبر نظريته بمثابة رد فعل على مذهب القانون الطبيعي الذي ساد زمناً طويلاً ودعمته الثورة الفرنسية إلى أن بدأ بعض الفلاسفة والفقهاء يظهرون أثر البيئة والظروف المختلفة في القوانين، وكانت نظرية سافيني تقوم على خمس أسس رئيسية هي:

إنكار وجود القانون الطبيعي، حيث هاجم “سافيني” الأساس الذي يستند إليه القانون الطبيعي بإشارته إلا أن وجود قواعد ثابته أزلية يكشف عنها العقل يؤدي إلى اختلاف هذه القواعد باختلاف تقيد الأشخاص الذي يتأثر بدوره بآرائهم وميولهم ومعتقداتهم والظروف المحيطة.
اختلاف القانون الوضعي باختلاف المجتمعات استناداً إلى أن أساس القانون هو البيئة الإجتماعية فهو حدث اجتماعي ينشأ مع الجماعة ويتأثر بظروفها المختلفة وبالتالي فإنه يختلف من دولة إلى أخرى ومن فترة إلى أخرى في نفس الدولة.
أن القانون ينمو ويتطور آلياً دون تدخل الإنسان. فليس للمشرع أن يستبد في وضع التشريعات وبالتالي دوره يقتصر على مراقبة تطور القانون وتسجيله وتعديل نصوصه بما يساير التطورات.
أن العرف والعادة هو المصدر المثالي للقانون لأنه يتكون في أول الأمر مما درج الناس عليه ثم يتأكد بواسطة التشريع.
يجب عند تفسير النصوص ألا يتجه البحث عن نية المشرع وقت وضع هذه النصوص وإنما إلى وقت تطبيق النصوص، أي الأخذ بالنية الاحتمالية، والنية وليدة الظروف التي أحاطت بها.
3- نظرية الغاية الإجتماعية: وتعود نشأت هذه النظرية للفقيه الألماني اهرنج الذي هاجم المذهب التاريخي، حيث يتفق اهرنج مع سافيني بأن القانون في تطور مستمر لكنه ليس تطوراً تلقائياً خالياً من الإرادة البشرية كما يرى سافيني. ويعتبر اهرنج في نظريته أن القانون ظاهرة اجتماعية وهو يخضع لقانون الغاية وليس قانون السببية، ومثاله على ذلك أن تعاقب الليل والنهار كظاهرة طبيعية إنما يكون بسبب دوران الأرض حول الشمس. أي أنها تحدث بتوافر أسبابها دون أن يكون للإنسان دخل في حدوثها، أما الظواهر الاجتماعية فإنها تتم بتدخل الإرادة البشرية في حدوثها لتحقيق غاية معينة.

ويرى اهرنج أن الإنسان لا يقف دور المتفرج فيترك القانون يتطور من تلقاء نفسه بل تلعب إرادته دوراً كبيراً في نشأته وتطوره، وهي تكافح من أجل هذا التعبير حتى أنه قد يصل هذا الدور إلى درجة الكفاح واستخدام القوة والعنف لتوجيه القانون نحو تحقيق الغاية المقصودة لأن تطور القانون قد يدخل في جوهر النظم القانونية القائمة والتي يحرص المستفيدون منها على بقائها. وينتج عن ذلك الكفاح أو الصراع بين المستفيدين وبين من يريد التعديل ويتوقف بقاء أو تغير النظم على نتائج هذا الصراع. وبالتالي فإن القانون في نظر اهرنج ليس إلا ثمرة الغاية والكفاءة والغاية هي حفظ المجتمع وأمنه وتقدمه.

4- نظرية التضامن الاجتماعي: وتعود نشأة هذه النظرية للفقيه الفرنسي ليون ديجي، وهي من النظريات الموضوعية التي تقوم على المشاهدة والتجربة. إلا أنه يتبع في دراسة العلوم الاجتماعية المنهج العلمي الموضوعي الذي يقوم على المشاهدة والتجربة المتبع في دراسة العلوم التطبيقية. وتقوم نظرية ديجي على إنكار كل ما لم يقم على صحته دليل واقعي مع الاعتراف بالحقائق الواقعية التي يسهل التأكد منها، وهي أمور تقوم على المعرفة العلمية الصحيحة، وهذا ما حدى به إلى أن ينكر وجود حقوق متصلة بشخص الإنسان يهدف القانون لحمايتها, وينكر فكرة السيادة والشخصية القانونية وفكرة القانون الطبيعي وفكرة المثل العليا لأنها لا تقوم على واقع ملموس. تقوم نظرية ديجي، والتي تخضع للمشاهدة والتجربة على ثمانية أسس هي كالتالي:

أن الإنسان اجتماعي بطبعه ولا يستطيع العيش إلا في جماعة، وهذا يقتضي وجود مجتمع يعيش فيه الإنسان مع غيره من الناس.
أن التضامن قائم بين جميع أفراد العالم إلا أن التضامن العالمي غير واضح وما زال متأخراً لانقسام العالم إلى أمم.
أن الإنسان قد يشترك في الشعور بحاجات متشابهة ويدفعه ذلك إلى التضامن لتحقيقها.
أن شرعية القانون الوضعي لا بد لها أن يكون القصد منها خدمة مبدأ التضامن الاجتماعي، وأن المجتمع يقوم على التضامن، والقانون هو تعبير عن هذا التضامن وتطبيقاً له.
أن القاعدة القانونية يجب أن تتوافر فيها صفتان، صفة اجتماعية وصفة فردية. فهي اجتماعية لأنها توجد لتنظيم علاقات الأفراد في المجتمع، وهي فردية لأن ضمير الفرد يشتمل عليها ولأنها تطبق على الأفراد.
أن القاعدة القانونية هي التي يشعر جمهور الأفراد بأنها ضرورية ولازمة لصيانة التضامن الاجتماعي وأن من العدل تسخير قوة الدولة وعنصر الإكراه والإجبار فيها لكفالة احترامها، وأن عنصر الجزاء في القاعدة القانونية يرجع إلى إحساس الجماعة وشعورهم بضرورة وواجب احترام هذه القاعدة لتحقيق التضامن الاجتماعي.
أن أساس القاعدة القانونية هي الشعور بالعدل والتضامن الاجتماعي.
ويقترح ديجي إقامة محكمة تتكون من ممثلين لكل الطبقات الاجتماعية مهمتها تفسير مفهوم التضامن تفسيراً ملزماً.

القسم الثالث: نظريات البحث ذات الطابع المزدوج (الشكلية والموضوعية)
ويتفرع عنها نظريتان هما، النظرية التوفيقية، ونظرية جيني، بالتفصيل التالي:

1- النظرية التوفيقية: وتعود نشأة هذه النظرية لباحثين أردنيين، وذلك بسبب الانتقادات الكثيرة التي وجهت للنظريات القانونية الشكلية والموضوعية حيث ذهبا إلى اقتراح نظرية وسط تراعي المتغيرات الحاصلة في الحياة العملية وتقدم مفاهيم أكثر وضوحاً. وتقوم هذه النظرية عند بحث أو تطوير القاعدة القانونية على الكثير من الأسس كالتالي:

الشعب هو مصدر السلطات والمشرع ينوب عنه لوضع القواعد القانوية العامة والتفصيلية التي تحكم السلوكيات الإنسانية الخاصة والعامة.
عندما تثور منازعة ما بين الأفراد، يجب البحث داخل متون القانون الحاكم لتلك المنازعات والوقوف على معان القاعدة القانونية بحثاً عن الإرادة الحقيقية للشارع وقت وضع القاعدة مع مراعاة اتصال التشريع بالحياة العملية وتفاعله معها.
أن القاعدة القانونية متى خرجت من يد واضعيها أصبحت أسيرة الظروف الاجتماعية المختلفة في تحديد نطاقها ومراميها.
أنه عند تفسير القاعد القانونية يتعين اتباع طرق التفسير الداخلية للقاعدة والوقوف أمام المنطوق اللفظي للقاعدة القانونية وفحواه ومعرفة أساليب اللغة التي صيغت بها القاعد القانونية ومعرفة طرق الاستدلال المنطقي واللجوء إلى الدلالات بأنواعها كدلالة الإشارة ودلالة الإقتضاء.
أنه عند التيقن من عدم وجود قاعدة قانونية تحكم النزاع يتعين الرجوع إلى المصادر الرديفة للقانون من القانون المدني أو القانون التجاري أو غيره من القوانين.
عند خلو القوانين من القواعد القانونية التي تفضي إلى حل للمشكلة المثارة أمام القضاء، يلزم القاضي بالبحث والتحري عن حل لها.
عند عدم وجود قاعدة قانونية في القوانين المقارنة يتعين اللجوء إلى العرف مع مراعاة عدم خروجه عن القواعد القانونية الآمرة وعن النظام العام والآداب في الدولة.
عند عدم وجود عرف يلجأ إلى السوابق القضائية في الدولة والاطلاع على اجتهادات المحاكم المختلفة.
عند عدم وجود سوابق قضائية يتم اللجوء إلى رأي أهل الفقه والشرَّاح المحليين في الدولة.
أنه يتعين في كل مرحلة من مراحل البحث عن القاعد القانونية أو لتطويرها بضرورة مراعاة روح التشريع وحكمته، أي إحترام القواعد العامة التي يمكن استخلاصها من القواعد القانونية المختلفة في الدولة.
أنه يتعين في كل مرحلة من مراحل البحث عن القاعدة القانونية أو تطويرها ضرورة الاهتمام بالأعمال التحضيرية، أي آراء المشتركين في عملية تشريع النصوص والمناقشات التي دارت حوله في السلطة التشريعية ولا ضير من الرجوع إلى المذكرات الإيضاحية للقانون إن وجدت.
أنه يتعين في كل مرحلة من مراحل البحث عن القاعدة القانونية أو تطويرها بضرورة مراعاة القياس أي إلحاق واقعة لم يرد بشأنها قاعدة قانونية بواقعة أخرى ورد النص على حكمها لاتحادهما في العلة.
2- نظرية جيني: وتعود نشأة هذه النظرية للفقيه الفرنسي فرانسوا جيني والتي تستند إلى أن القاعد القانونية تجمع في جوهرها بين المثل العليا التي يستخلصها العقل وبين حقائق الحياة التي تسجلها المشاهدة والتجربة ،أي أنها تقيم القانون على أساس واقعي فلسفي في نفس الوقت، وأن الفقيه الفرنسي جيني بنى نظريته على أساس تأثره بالنظريات الشكلية والموضوعية معترفاً أنه لم يبتكر نظرية جديدة إنما اقتصر على التحليل والتوفيق بين النظريات المختلفة. ويرى جيني أن جوهر القاعدة القانونية مستمد من حقائق الحياة الاجتماعية التي تكشف عنها المشاهدة والتجربة مع الاسترشاد بمثل أعلى يكشف عنه العقل متأثراً بالنظريات الشكلية والموضوعية، كما أن القاعدة القانونية أو المادة الأولية المكونة لها تتكون من عنصرين هما عنصر العلم وعنصر الصياغة.

ويشتمل عنصر العلم في تكوين القاعدة القانونية عند جيني على المعرفة القائمة على المشاهدة والتجربة وتلك التي تقوم على التأمل والتفكير العقلي، ويكون بذلك قد جمع بين الفلسفة الواقعية والمثالية، وأن جوهر القاعدة القانونية يرد إلى أربع حقائق هي، الحقائق الواقعية والحقائق التاريخية والحقائق العقلية والحقائق المثالية. وأما عن عنصر الصياغة في تكوين القاعد القانونية عند جيني فقد ميز بين نوعين من أنواع الصياغة وهما، الصياغة الجامدة والتي لا تترك مجالاً للسلطة التقديرية للقاضي، والصياغة المرنة التي تترك للقاضي حرية في التقدير.

كذلك ميز “جيني” بين الصياغة المادية للقاعدة القانونية والصياغة المعنوية للقاعدة القانونية. فالصياغة المادية تعني أن تعبر عن جوهر القاعدة القانونية مادياً مجسماً في مظهر خارجي يمكن الوقوف عليه بسهولة وقد ضرب جيني مثالاً على ذلك في إحلال الكم محل الكيف، أي أن يحدد القانون الفكرة التي يتضمنها جوهر القاعدة القانونية تحديداً عددياً لا يترك مجالاً للخلاف. أما الصياغة المعنوية يعني أن تظهر القاعدة القانونية منطقية بحتة من صنع الذهن ويلجأ إليها المشرع في سبيل إخراجها إخراجاً علمياً.

المراجع:

1- الزعبي، أكرم إبراهيم (ماجستير قانون خاص)، المحاميد، موفق سمور (ماجستير قانون عام)، مناهج البحث في القانون، الناشر دار الثقافة للنشر والتوزيع والدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى عام 2001، الصفحة 15.

2- نفس المرجع السابق، الصفحة 20.

3- نفس المرجع السابق، الصفحة 26.

4- نفس المرجع السابق، الصفحة 28.

5- نفس المرجع السابق، الصفحة 32.

6- نفس المرجع السابق، الصفحة 34.

7- نفس المرجع السابق، الصفحة 38.

8- نفس المرجع السابق، الصفحة 41.

9- أكرم إبراهيم الزعبي (ماجستير قانون خاص)، موفق سمور المحاميد (ماجستير قانون عام).

10- نفس المرجع السابق، الصفحة 46.

11- نفس المرجع السابق، الصفحة 48.

12- نفس المرجع السابق، الصفحة 56.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت