إعداد التراب في فرنسا

القاسمي عبد الرفيع
طالب باحث ماستر التدبير الإداري
المحلي بسلا

مقدمة :

جاءت سياسة إعداد التراب في الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف إعادة توزيع الخيرات والأنشطة الإقتصادية، من أجل إستفادة الجميع منها على قدم المساواة، وذلك بعدما توسع مجال التباين على المستوى الجهوي بين المناطق المختلفة، وتعد فرنسا من بين الدول التي تبنت هذه السياسة، من خلال إعتماد الخيار الإداري في التقسيم الجهوي عبر كل تجاربها، التي لم تترسخ إلا بعد مسلسل طويل من التطور والتجارب، إتسم في مجمله بالبطىء.
عرفت الجهة في فرنسا تطورات مهمة، حيث إنطلقت في البداية كمشروع لإيجاد إطار فوق إقليمي لعدم تمركز مصالح الدولة، لكن بعد تظافر الضرورات الإقتصادية المتعلقة مباشرة بسياسات التخطيط وإعداد التراب، أصبحت الجهة تتميز عن الأقاليم بإختصاصاتها ومواردها المالية، إلا أن أغلب إختصاصاتها كانت تتعلق بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية، ولم يقف تطور التجربة الفرنسية عند هذا الحد.
لكن بعد إصدار قانون رقم 213 بتاريخ 2 مارس 1982، أصبحت الجهة بمثابة جماعة ترابية حقيقية، يتولى تسييرها مجلس جهوي بالإقتراع العام المباشر. وقد جاء كذلك القانون الصادر في 19 أكتوبر 1986، والذي ذهب في نفس إتجاه التعديلات السابقة. ومنذ هذا التاريخ عرف تطور الجهة إندفاعا سريعا.

أما إعداد التراب الذي عرفه الفقيه Auby بكونه “بحث وسياسة من أجل تنظيم وتوزيع الأنشطة البشرية في إطار جغرافي وطني مع الأخذ بعين الإعتبار حاجيات الأفراد والجماعات، ويتم ذلك حسب الإمكانيات الطبيعية وضرورات الحياة الإقتصادية”، وقد نشأ الإهتمام به في فرنسا من معاينة التفاوتات المجالية الكبيرة بين مناطق البلاد، وخصوصا بين باريس وباقي المناطق، وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عكس خطورة هذه التفاوتات مؤلف ” باريس والصحراء الفرنسية ” paris et le désert” français” ل Jean François Gravier في طبعته الأولى الصادرة سنة 1947، والذي تم تداول أفكاره من طرف وزير البناء والتعمير “Raoul dautry ” خلال هذه الفترة، ثم بعد ذلك من طرف وزير البناء “Claudiaus Petit”، ويعتبر هذا الكتاب – الحدث نقطة الإنطلاق لوعي السلطات العمومية الفرنسية بضرورة الشروع في سياسات للتهيئة الترابية.
وقد مر إعداد التراب الذي يظل مفهوما فرنسيا محضا بثلاث محطات رئيسية، إرتبطت الأولى بالتخطيط القطاعي، فيما تميزت الثانية بالبحث عن سياسة جهوية طموحة لإعداد التراب، أما المحطة الثالثة فإتسمت إنطلاقا من سنة 1971 بشمول سياسة عدم التركيز للأنشطة الخدماتية.
إعتمادا على ما سبق فما هي حدود تدخل الجهة في سياسة إعداد التراب في فرنسا؟
هذا ما سنعمل على توضيحه من خلال التصميم التالي:

المبحث الأول: علاقة الجهة بإعداد التراب في فرنسا
المطلب الأول: تطور إختصاصات الجهة بفرنسا ما قبل قانون 1982
المطلب الثاني: الجهة وإعداد التراب في إطار قانون 1982 وما بعده
المبحث الثاني: وسائل وآليات تدخل الجهة في إعداد التراب
المطلب الأول: وسائل تدخل الجهة في مجال إعداد التراب في فرنسا
المطلب الثاني: آليات تدخل الجهة في إعداد التراب في فرنسا

المبحث الأول: علاقة الجهة بإعداد التراب في فرنسا

لقد مرت الجهة في فرنسا بعدة تطورات لتصل إلى جماعة محلية مستقلة في تدبير شؤونها الجهوية، ولذلك فإنه من الضروري للوقوف على علاقة الجهة بإعداد التراب، أن نتطرق إلى مرحلتين أساسيتين، وهما مرحلة ما قبل صدور قانون 1982 ( المطلب الأول)، ومرحلة ما بعد صدور هذا القانون، الذي منح للجهة صفة الجماعة الترابية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تطور إختصاصات الجهة بفرنسا ما قبل قانون 1982

إستهدفت سياسة إعداد التراب في الدول الأوروبية إعادة توزيع الخيرات والأنشطة الإقتصادية، وذلك بعدما توسع مجال التباين على المستوى الجهوي بين المناطق المختلفة، وتعد فرنسا من بين الدول التي تبنت الخيار الإداري في التقسيم الجهوي عبر كل تجاربها الجهوية، والتي لم تترسخ إلا بعد مسلسل طويل من التطور والتجارب، إتسم في مجمله بالبطىء.

ذلك أن الجهة في فرنسا لم تصل إلى صف الجماعات إلا بعد تطور مكثف، حيث إنطلقت في البداية كمشروع لإيجاد إطار فوق إقليمي لعدم تمركز مصالح الدولة، لكن بعد تظافر الضرورات الإقتصادية المتعلقة مباشرة بسياسات التخطيط وإعداد التراب، أصبحت الجهة تتميز عن الأقاليم بإختصاصاتها ومواردها المالية، وذلك بمقتضى قانون رقم 613 الصادر في 5 يونيو 1972، والذي دخل حيز التطبيق في أكتوبر 1973، هذا القانون هو الذي وضع الإطار القانوني للمؤسسة الجهوية.

ولقد تميز التنظيم الإداري الفرنسي بمجموعة من الخصوصيات المنبثقة عن المرجعية التاريخية، التي أسست لنظام مركزي صارم إثناء بناء الدولة بمفهومها الحديث، ولتجاوز عقم النظام البيروقراطي وسلبياته، كان لزاما على الدولة الفرنسية إدخال مجموعة من الإصلاحيات الجهوية الرامية إلى دمقرطة النظام الإداري عبر توسيع المشاركة الشعبية في تسيير الشأن العام، وذلك من خلال نظام لامركزي يضمن مشاركة المواطن الفرنسي في تسيير شؤونه المحلية والإقليمية والجهوية عبر مؤسسات تتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال الإداري والمالي، وتمارس إختصاصات فعلية تحت سلطة الوصاية، يتعلق الأمر بالجماعات المحلية التي تعتبر حجز الزاوية لكل نظام لامركزي ذو منحى ديمقراطي.

والجدير بالذكر، وإذا كان التنظيم الجماعي والإقليمي قد خطى خطوات مهمة داخل البنية الإدارية الفرنسية، فإنه في المقابل يلاحظ نوعا من التعثر التي طبع السياسة الجهوية بفرنسا، بحيث لم تتوضح معالمه إلا بعد سنة 1982، ومنذ هذا التاريخ يلاحظ المتتبع الإرادة السياسية الجادة في تدعيم مسلسل التنظيم الجهوي وذلك سواء على مستوى إرساء هياكله وبنياته، أو على مستوى تدعيم إختصاصاته وصلاحياته، بالشكل الذي يتلاءم وخصوصية كل جهة من الجهات الفرنسية، الأمر الذي دفع بالمشرع إلى منح مجموعة من الجهات الفرنسية أنظمة خصوصية، إعتبارا لموقعها الجغرافي أو لمستواها التنموي، حيث إنبثق الوعي لدى المسؤولين بضرورة بناء جهات قوية كشرط أساسي لبناء دولة متوازنة.
كما أن أحداث شهر ماي لسنة 1968 التي مست الجامعة الفرنسية ومن خلالها المجتمع الفرنسي، بينت مدى عمق الأزمة المجتمعية، والتي تفسر إلى حد بعيد عدم فعالية مؤسسات الدولة للإضطلاع بمهامها التنموية، مما عجل بضرورة التأسيس لإصلاح جهوي فعال، ويجد هذا المنحى الإصلاحي أساسه السياسي في خطاب لشارل دوكول في مارس 1968 ب ليون صرح فيه بما يلي: “إن مركزية السلطة التي لعبت دورا أساسيا في الحفاظ على الوحدة الوطنية يجب أن تترك مكانها لتفعيل النظام الجهوي الذي يعتبر دعامة أساسية للسلطة السياسية مستقبلا” وبهذا الصدد إنقسمت الأطروحات الإصلاحية التي يتبناها مجموعة من الرواد، أمثال، Michel Rocard, sevan – schrieber, Edgar Pisani, Robert laffant, إلى رأيين متباينين:
الرأي الأول: يطالب بضرورة تأسيس سلطة جهوية وتخويل الجهة صلاحيات حقيقية، تمارس عبر مجالس منتخبة بالإقتراع المباشر.
الرأي الثاني: يطالب بتقييد صلاحيات المجالس الجهوية وإقتصارها على المجلات التقليدية كالتنمية الإقتصادية وإعداد التراب.

وفي سنة 1972 تقدمت حكومة Jaques Chaban de Delmas بمشروع قانون حول الجهة، وقد حظي هذا المشروع بنقاش مستفيض داخل الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، وتمت المصادقة عليه في 5 يوليوز 1972، وقد منح هذا القانون للجهة نوعا من السند القانوني حيث تم إحداث نوع جديد من المؤسسات العمومية ذات البعد الترابي وتضم مجموعة من الأقاليم، وظيفتها الإضطلاع بمهام التنمية الإقتصادية، والملاحظ بهذا الصدد أن قانون 5 يوليوز 1972، قد حدد بشكل سلبي إختصاص الجهة، بحيث لا تتمتع هذه الأخيرة بسلطة التسيير ولا يمكن لها المساهمة في الإستثمارات الجماعية التي تحقق منافع جهوية، كما أن قراراتها تكون دائما إما تابعة للدولة أو للجماعات المحلية الأخرى.

وفي سنة 1975 قامت الدولة وبشكل محتشم بتخويلها بعض الصلاحيات الضئيلة لإحداث المنتزهات الطبيعية الجهوية، أو الإستثمار في المجال الطرقي الإقليمي والجماعي، أو في بعض التجهيزات الرياضية أو السوسيوتربوية، وبعض التجهيزات الصحية ذات الطابع القروي.

علاوة على ذلك لم تتمتع الجهة في هذا القانون بالإمكانيات البشرية والمادية الكفيلة بإنجاز أمثل للوظائف المنوطة بها، حيث إقتصرت مداخيل الجهة على بعض الرسوم المطبقة على الورقة الرمادية وحقوق التسجيل، وبعض الضرائب المحلية، وقد تم تحديد السقف الضريبي في 25 فرنك للفرد، مما شكل عائقا أمام طرح الجهة آنذاك.
أما فيما يتعلق ببنية الجهة، فقد أسس قانون 1972 لمبدأ الثنائية المجلسية، بحيث تتضمن المجلس الجهوي واللجنة الإقتصادية والإجتماعية، ويمارس المجلس الجهوي سلطة تداولية، وتتم إستشارته حول المشاكل الإقتصادية وإعداد التراب، كما يساهم في إنجاز دراسات التهيئة الجهوية وإعداد وتنفيذ برنامج التهيئة، ويتكون المجلس الجهوي من نواب وشيوخ الجهة وممثلي الجماعات المحلية بحيث يتم إنتخابهم بالإقتراع العام غير المباشر.
أما اللجنة الإقتصادية والإجتماعية فتعتبر لجنة إستشارية وتتكون من أعضاء يعينون لمدة 5 سنوات، تضطلع هذه اللجنة بتقديم الإستشارة حول كل القضايا المطروحة على المجلس الجهوي.
والجدير بالذكر أن ممثل الدولة على الصعيد الجهوي Le préfet يقوم بدور السلطة التنفيذية لقرارات الجهة، كما يستدعي المجالس الجهوية للإجتماع، وتقوم المصالح التابعة له بإعداد وتنفيذ ميزانية الجهة، كما يمارس ممثل الدولة رقابة الشرعية على مداولات الجالس الجهوية، غير أن هذه المعوقات القانونية، لم تحد من طموحات بعض الجيهات حيث قامت البعض منها كجهة Midi Pyrénées سنة 1977 بإعداد برنامجها الجهوي وإستراتيجيتها الخاصة.
أما سياسة إعداد التراب فهي تتلخص في المحطات الرئيسية التالية:

أولا: التخطيط القطاعي
إلى حدود سنة 1961 كان التخطيط في فرنسا قطاعيا، وكان الهدف منه إعادة البلاد بإحياء 6 قطاعات رئيسية ( الفحم، الكهرباء، الإسمنت، الفلاحة، النقل، الصناعة الميكانيكية).
حتمية عصرنة فرنسا التي شهدت نمو ديموغرافيا وإقتصاديا، وقد أدى هذا النمو إلى إتساع الهوة بين الجهات.

ثانيا: البحث عن سياسة جهوية طموحة لإعداد التراب منذ 1963

في هذا الإطار بدأت عدة بنيات وزارية مشتركة تبحث عن التنسيق بين إعداد التراب وبين المخطط، وذلك عن طريق اللجنة الوطنية لإعداد التراب، ومندوبية إعداد التراب والعمل الجهوي المحدثة سنة 1963.

ثالثا: شمول سياسة عدم التركيز للأنشطة الخدماتية إنطلاقا من سنة 1971

ونتيجة لهذا كله تقلصت حدة الإختلالات بين الجنوب الغربي والشمال الشرقي بشكل كبير، وعلى العكس من ذلك بقي الإحتلال قائما على مستوى مجموع التراب الفرنسي، حيث أصبحت العاصمة باريس، والمناطق المجاورة لها تستحوذ على 4/3 (ثلاثة أرباع) من المؤسسات الصناعية.

المطلب الثاني: الجهة وإعداد التراب في إطار قانون 1982 وما بعده

لم يقف تطور تجربة الجهوية الفرنسية عند حدود 1982، فإذا كان الرئيس الفرنسي السابق السيد جيسكار ديستان قد عارض منذ 1976 كل جهوية سياسية من شأنها بعثرة فرنسا سياسيا حسب وجهة نظره، فإن صعود اليسار إلى الحكم سنة 1981 مع السيد فرنسوا متران قد أعاد فتح ملف الجهوية من جديد، فصدر القانون رقم 213 الصادر بتاريخ 2 مارس 1982 المتعلق بحقوق وحريات الجماعات والأقاليم والجهات الذي إعتبر الجهة جماعة ترابية، يتولى تسييرها مجلس جهوي بالإقتراع العام المباشر وبذلك فقد أصبحت الجهة جماعة محلية بحكم القانون، وبمقتضاه تم توسيع إختصاصات الجهة، لتشمل أعمال التنمية الإقتصادية والإجتماعية، والصحية، والثقافية، والعلمية، وإعداد التراب، وضمان المحافظة على هوية الجهة، كما تم تخفيف حدة الوصاية الإدارية المفروضة عليها، فأصبحت قرارات مداولات السلطات الجهوية تنفذ من تلقاء نفسها دون توقف على مصادقة ممثل الدولة إذ يقتصر تدخله على إحالة القرارات والمداولات التي يراها غير مشروعة على أنظار المحكمة الإدارية للنظر فيها، أما الرقابة المالية فقد أصبحت من إختصاص المجالس الجهوية للحسابات.

وفي مجال إعداد التراب، فقد أعطيت الجهة دورا أساسيا في إعداد المخططات الجهوية بموازات مع المخطط الوطني، كما أنها أصبحت تساهم في إعداد التراب والتنمية، وحماية البيئة بجانب الدولة وباقي الجماعات المحلية، طبقا للقانون الصادر بتاريخ 7 يوليوز 1983، بالإضافة إلى تدخلها لإنجاز بعض العمليات الكبرى للتأهيل والسكن والفلاحة والسياحة، ولمختلف المجالات الإجتماعية سواء في إطار البرنامج الجهوي للتنمية الجهوية أو في إطار نوع من الشراكة بين الجهات والدولة.
وعلى العموم تعتبر فرنسا مثالا للجهة ذات الطابع الإداري في الدولة الموحدة، فقد تبنت نظام الجهوية الإدارية الذي يعتبر الجهات وحدات ترابية إدارية متمتعة بالشخصية المعنوية وخاضعة لوصاية الدولة، ورغم التطورات المتلاحقة التي عرفتها هذه التجربة، فإنها قد عملت على تقوية إختصاصات الجهات وتدعيم إستقالها الإداري والمالي بالحد من الوصاية المفروضة عليها، لتمكينها من تسيير شؤنها الخاصة بفعالية وخاصة في مجال إعداد التراب، وذلك للحد من الفوارق الجهوية التي يعرفها التراب الفرنسي.

كما أن المشرع الفرنسي قد واكب تطور التنظيم الجهوي الفرنسي، وذلك من خلال إصداره لمجموعة من النصوص التشريعية المهمة ونذكر على سبيل المثال قانون 6 يناير 1986، وقانون 6 فبراير 1992، وقانون 27 فبراير 2002، ترسانة القانونية مكنت للجهة من دور أساسي في المجال التنموي.
أما من ناحية التنظيم البنيوي للجهة فإنه يتميز بثنائية مجلسيه، حيث حافظ المشرع على المجلس الإقتصادي والإجتماعي الجهوي كجمعية إستشارية تعمل بموازاة الجهوي ورئيسه، ويقوم المجلس الجهوي بإنتخاب اللجنة الدائمة التي تتفرع إلى لجان متخصصة ذات طابع إستشاري.

يشارك المجلس الإقتصادي والإجتماعي الجهوي في تسيير القضايا الجهوية عبر آرائه الإستشارية، كما حدد المشرع الفرنسي صلاحيات المجلس الإقتصادي والإجتماعي حيث يبث بشكل إلزامي في:
الوثائق المتعلقة بإعداد وتنفيذ البرنامج الوطني داخل الجهة، وكذا البيان السنوي لكيفية تنفيذه، علاوة على كل الوثائق المرتبطة بالتخطيط وتصاميم التهيئة الجهوية.
وثائق الميزانية لإبداء الرأي حول التوجهات العامة الجهوية.
علاوة على ذلك يمكن للمجلس الإقتصادي والإجتماعي أن يبدي رأيه إذا طلب منه ذلك في كل الصلاحيات المخولة للجهة.

ومن جهة أخرى يعتبر رئيس المجلس الجهوي منذ سنة 1982 السلطة التنفيذية للجهة وآمر بالصرف، يستدعي ويرأس الجلسات، وينفذ المداولات، كما بمكنه تفويض بعض صلاحياته لنوابه أو لأعضاء اللجنة الدائمة. ومع صدور قانون 1992 إتخذت صلاحيات ممثل الدولة داخل الجهة La Préfet صبغة خاصة، حيث تطورت في منحى تأسيس رؤيا حداثية لعلاقة الدولة بالجهة، بحيث أصبحت صلاحيات La Préfet تنصب أساسا نحو تسيير عقود البرامج بين الدولة والجهات لإنجاز السياسة الأوربية الهادفة إلى القضاء على الفوارق الجهوية.

المبحث الثاني: وسائل وآليات تدخل الجهة في إعداد التراب

إن فعالية سياسة الجهة في مجال إعداد التراب، لابد لها من التوفير على الوسائل التنفيذية المساعدة، إن كان على المستوى القانوني أو المادي والبشري (المطلب الأول)، هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب منح آليات تتدخل عن طريقها الجهة في تنفيذ سياساتها الإستراتيجية، وخاصة في مجال إعداد التراب (المطلب الثاني).

المطلب الأول: وسائل تدخل الجهة في مجال إعداد التراب في فرنسا

1- على المستوى القانوني: لقد إعتمدت المقاربة الجهوية أساسا لخدمة التنمية الإقتصادية والإجتماعية، ولعل إنشاء مجلس إقتصادي والإجتماعي يفسر إلى حد بعيد هذا الطرح.
ولقد نص قانون 1972 على هذا الإختصاص المخول للجهة مع بعض القيود المرتبطة أساسا باقتصار تدخل الجهة في المشاريع التي تحقق “المصلحة الجهوية المباشرة”.
ولقد وسع قانون 2 مارس 1982 من تدخل الجهات في التنمية الإقتصادية بحيث أصبح بإمكان الجهات المشاركة في كل نشاط تنموي يرمي إلى تحقيق المصلحة الجهوية المباشرة، وإعطاء مساعدات مباشرة وغير مباشرة للمقاولات التي توجد في وضعية صعبة، والمساهمة في رأسمال شركات التنمية الجهوية SDR، ولا يحد من هذه الإختصاصات سوى المبادئ المرتبطة بحرية التجارة والصناعة، وإحترام حقوق وإختصاصات الجماعات المحلية الأخرى.

وفي سنة 1982 قامت مجموعة من المجالس الجهوية بمراجعة سياساتها التدخلية، وقررت حذف المساعدات المباشرة وتعويضها بمأسسة مجموعة من القروض كالقروض الجهوية للتنمية الإقتصادية، وقروض للصناعة الحرفية، وأخرى لدعم بناء المناطق الصناعية، كما قامت بعص الجهات باللجوء إلى سياسة الإعفاءات الضريبية لدعم مشاريع تهدف إلى تأسيس مناطق حيوية ذات بعد إستثماري، مما أدى إلى نوع من التنافسية بين الجهات وقلل من مظاهر الإختلالات الجهوية بفرنسا. كما قد تلجأ يعض الجهات إلى إحداث مراكز للتنمية.

2- على المستوى البشري والمادي

إن ضمان نجاعة التنظيمات بشكل عام رهين بمدى حجم الإمكانيات المخولة لها. حيث بينت التجربة بأن منح التنظيم صلاحيات مهمة غير كفيل بتحقيق الأهداف المنشودة، إذا لم يواكب ذلك تحويل مهم وبالقدر الكافي للإمكانيات البشرية والمادية اللازمة، وبالرجوع إلى التنظيم الجهوي الفرنسي فبعد المصادقة على قانون 13 يوليوز 1983 و 26 يناير 1984 أسبح مستخدموا الجهات يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها موظفي الوظيفة العمومية، كما قام قانون Galland لسنة 13 يوليوز بتعديل مهم يرمي إلى تقوية صلاحيات المجالس الجهوية في مجال تسيير مستخدميها سواء تعلق الأمر بتأطير حياتهم المهنية أو تعيينهم. إلا أنه وعلى عكس باقي الجماعات المحلية الأخرى، لم تستفد الجيهات من عملية تحويل موظفي الدولة إلى الجهات، ولعل هذا ما يفسر محدودية الموارد البشرية على الرغم من إرتفاع عددها.

أما فيما يتعلق بمالية الجهة، فتجد مصدرها في المجال الضريبي، وإعانات الدولة المرتبطة بتحويل الإختصاصات للمجال الجهوي، وفي السابق أي في ظل قانون 1972 كانت الميزانيات الجهوية تتكون فقط من المداخيل الضريبية، ويحدد القانون هذا السقف الضريبي، وفي سنة 1987 تم حذف هذا السقف الضريبي وأصبحت الجهة تتعلق المنتوج الكامل للضريبة على حق التنبر على الورقة الرمادية وعلى تسجيل السيارات، وتخويلها حصة من ناتج الضريبة الداخلية على المنتوجات البترولية والطاقية، وحصة من الضريبة على القيمة المضافة، ويلاحظ بهذا الصدد أن معدلات الضريبة الجهوية ما بين سنتي 1980 و 1996 عرفت نموا متصاعدا: % 25 بالنسبة للعقارات المبنية،% 39 بالنسبة للضريبة المهنية، % 39 بالنسبة للعقارات الغير المبنية، و % 21 بالنسبة لضريبة السكن، علاوة على ذلك تقوم بعض الجهات باللجوء إلى القروض كوسيلة لتمويل سياساتها.

هكذا يلاحظ أن المجالس الجهوية أصبحت بمثابة كيانات قائمة الذات، وأصبحت لها إمكانيات مادية وبشرية مهمة تواكب ما لديها من إختصاصات في مختلف المجالات عامتا وفي مجال إعداد التراب خاصة.

المطلب الثاني: آليات تدخل الجهة في إعداد التراب في فرنسا

إن الأهداف الأساسية في نشأة الجهوية في فرنسا وكما سبقت الإشارة إلى ذلك هو إشراكها في تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية، وخير وسيلة لتحقيق هذا المبتغى، يمر عبر مساهمة الجهة وإشراكها في حقل إعداد التراب من خلال آليتين مهمتين، سنحاول التركيز عليهم في هذا المطلب.
الآلية الأولى: هذه الآلية ذات طابع مؤسساتي وتعرف باسم مندوبية التهيئة الترابية والنشاط الجهوي délégation a l’aménagement et l’action régional (DATAR) du territoire وقد تم إحداثها بموجب المرسوم رقم 63-112 الصادر في 14 فبراير 1963، وهي إدارة بين وزارية تابعة للوزير الأول وموضوعة تحت تصرف الوزير المكلف بالتهيئة الترابية وقد عرفت هذه المندوبية تطورا مهما إذ تحولت في 1 يناير 2006 إلى المندوبية البين- وزارية للإعداد التراب والتنافسية الترابية délégation interministérielle à aménagement et l compétitive des territoires(DLACT).
لتستبدل بدورها بالمندوبية البين – وزارية لإعداد التراب والجاذبية الجهوية في 15 دجنبر 2009 la délégation interministérielle à aménagement du territoire et a l attractivité régionale (DATAR).

ويرجع السبب في التطور المستمر لهذه المندوبية، إلى الدور الحيوي الذي تضطلع به في مجال إعداد التراب على المستوى الجهوي، وذلك من خلال التنسيق والتهيئة وفق منظور شمولي بغية تحقيق التنمية المستدامة وذلك للوصل إلى هدفين أساسيين:
1 – تقوية جاذبية التراب
2 – تحقيق التناسق والتوازن والشراكة مع باقي المتدخلين في التنمية المحلية.
كما أن هذه المندوبية تعتبر المجال الأنسب في التبادل والتنسيق في مجال إعداد التراب في فرنسا، وذلك عبر تبادل الخبرات والمعطيات بين الدولة وباقي الجماعات الترابية وفق ثلاثة أبعاد رئيسية:
البعد الأول: النشاط البين- وزاري، ويساهم في تبادل الخبرات بين مختلف الإدارات الفرنسية.
البعد الثاني: النشاط الترابي، ويهدف إلى توجيه المشاريع الكبرى عبر مختلف المناطق الفرنسية.
البعد الثالث: ويتعلق بالإبداع أي الترويج للوسائل الجديدة في مجال التنمية.
ويقوم عمال الجهة بتثبيت توجهات الدولة في مجال التهيئة الترابية، والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وهم بذلك الوسطاء المتميزون لهذه المندوبية، وبشراكة كذالك مع مختلف الإدارات الغير ممركزة.
ويمكن إجمال اختصاصات هذه المندوبية فيما يلي:
* تساهم في التشاور حول رصد السياسات الأوروبية وتماسكها الإقتصادي والإجتماعي والترابي؛
* تساهم في إعداد وتنفيذ السياسات العمومية في مجال الخدمات العمومية؛
* ضمان التنسيق بين السياسات القطاعية النقل، التكنولوجيا الحديثة، الاتصالات…؛
* تهتم بجاذبية وتماسك التراب، وتتخذ جميع التدابير اللازمة لتعزيز المساوات الإقليمية، عبر توزيع الخدمات والبنيات التحتية في مختلف المناطق الفرنسية؛

*كما أنها مسؤولة عن التنبؤ والمراقبة، فيما يخص التخطيط الترابي.
كان هذا فيما يخص آلية إشراك الجهة في إعداد التراب من خلال المقترب المؤسساتي، أما فيما يخص المقترب الثاني فهو مقترب تخطيطي ويتجلى في التصاميم الجهوية لإعداد التراب، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعقود التخطيط، LES CONTRA DE PLAN المؤطرة بقانون 29 يوليوز 1982 وهذه العقود توقع بين الدولة )عبر ممثلها في الجهة أي الوالي( والجهات )ممثلة برئيس المجلس الجهوي المعني( وتشكل مقاربة جديدة في التخطيط اللامركزي.
وإلى جانب هذه العقود، حاولت الجهات تطوير وتطبيق مهمتها في هذا الشأن متخذة مجموعة من المبادرات والإستراتيجيات التنموية، التي من شانها الدفع بالعمل الجهوي، وكذا تفعيل التصاميم الجهوية لإعداد التراب، التي تندرج في إطار الإختصاصات الذاتية للجهة، بالموزات مع التصميم الوطني للدولة.

خاتمة:

إن تدخل الجهة في إعداد التراب مر عبر مرحلتين أساسيتين، قبل صدور قانون الجهة، تم بعد صدور قانون الجهة سنة 2 مارس 1982، إذ تحول دور الجهة من مجرد المجال الترابي الأمثل لتنفيذ سياسات إعداد التراب، الى المستوى الترابي الأنسب للشراكة مع الدولة خاصة في مجال إعداد هذه السياسات أو تنفيذيها أو حتى تتبعها وتقيمها، محققة بذالك إلى حد كبير توازن مستقر بين مختلف المجالات الترابية من جهة وتنمية اقتصادية و اجتماعية ملموسة و مهيكلة من جهة أخرى.
هذا التطور في مجال إعداد التراب على المستوى الجهوي يرجع السبب فيه إلى تفعيل الصلاحيات والاختصاصات الهامة التي أصبحت تتوفر عليها مؤسسة الجهة ورئيسها الذي يعتبر الأمر بالصرف وكذا المسؤول عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالجهة بتناسق وانسجام تام مع الإستراتجية الوطنية للدولة.

لائحة المراجع:
باللغة الفرنسية:
Jean-Michel de forges « Droit administratif »,6eédition corrigée,Impimé des presses Universitaires de France,Janvier 2002.
Gérarde-françois DUMONT « L’aménagement du Territoire », Les édition D’organisation, imprimé en France , octobre 1994.
Joseph LAJUGIE « aménagement du Territoire et développement économique régional en France »,
Jean Rivero et Jean Waline « Droit administratif », 15e édition 1994.
« Le renouveau de l’aménagement du Territoire »
André de Laubadére, Jan-claude VENEZIA et Yves GAUDEMENT , TOME II , 9e édition 1992.
Jacques de LANVERSIN , Albert LANZA , Françoise ZITOUNI « LA REGION ET L’AMENAGEMENT DU TERRITOIRE Dans LA Décentralisation »,

* باللغة العربية:
* مصطفى معمر، أحمد أجعون ” إعداد التراب الوطني والتعمير”، الطبعة الأولى 2009/2010، مطبعة غير محددة.
* الحاج شكرة ” محاضرات في إعداد التراب الوطني والتعمير”، الطبعة الأولى 2003، مطبعة دار القلم- الرباط.
* عبد الخالق علاوي ” سياسة إعداد التراب في المغرب”، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الأول بوجدة، السنة 2005/2006.