حماية المبلغين عن الفساد
فريق ضخم حول العالم، عمل بجهد لسنوات طويلة من أجل إخفاء خسائر متراكمة لشركة أولميبوس العالمية الشهيرة بصناعة آلات التصوير، وعلى الرغم من هذه المفارقة العجيبة بين شركة تصنع أجهزة كشف والتقاط الحقيقة الحية وبين إدارتها التي تعمل من أجل إخفاء وحجب الحقائق المالية، لقد تسببت تلك الجريمة التي استمر التخطيط لها وتنفيذها نحو عقدين من الزمان، في خسائر فادحة لسمعة الشركة وقيمتها في السوق المالية، بينما هي تدفع مبالغ ضخمة جدا لمحللين ماليين وشركات صغيرة جدا. من الغريب جدا أن نعرف أنه قد توافرت لهذه الشركة العملاقة كل الفرص الرقابية من أجل كشف هذه الجريمة، ومع ذلك لم تفلح جميعها، فكل ما برع فيه الإنسان من نظم رقابية لم تتمكن من منع هذه المؤامرة في وقتها المناسب، فلقد توافر للشركة نظام رقابي صارم، بل لعله الأشد صرامة في العالم، فمن يقرأ نظم الحوكمة في الشركات المدرجة في سوق طوكيو للأوراق المالية يجد الأمر قد وصل إلى حد المثالية، كما أشرف على مراجعة حسابات الشركة طوال تلك الفترة اثنان من أكبر مكاتب المراجعة العالمية، وهناك فريق كامل من المراجعين الداخليين، إضافة إلى مجلس المراجعين القانونيين المنتخب من قبل المساهمين “وهو شبيه بلجنة المراجعة”، كل هذا لم يفلح في كشف مخطط فساد استمر لعقود من الزمان، بينما كشفه شخص واحد من خلال التبليغ إلى وسائل الإعلام، بعدما فشل في إقناع الإدارة بتغيير مسارها.

إن أكثر الأمور تعقيدا في الشركات والمؤسسات والمنظمات بأنواعها الحكومية والخاصة هي الثقافة التنظيمية، التي قد تسمح لشخص واحد أن يفرض الكثير من القضايا على الموظفين مهما ارتفعت مناصبهم في المنظمة، ذلك عندما تسيطر ثقافة “أبشر يا طويل العمر”، فلا أحد يمكنه الاعتراض هناك، ليس فقط لأن هناك عقابا صارما قد يتعرض له الموظف من “طويل العمر” بل لأنه قد يخسر الكثير من المزايا الضخمة التي يغدقها عليه، وهكذا تظهر أخطر القضايا في المنظمات، الأخلاق. لقد أثبتت تجربة أوليمبوس أن جميع الأنظمة الرقابية مهما بلغت لن تحد من اتفاق عدد كبير من أفراد المنظمة على خداع المساهمين، خاصة العاديين منهم الذين لا يعرفون عن الشركة أكثر من سعر السهم، فالقضية لم تكن في “أوليمبوس” مشكلة إفلاس أو القدرة على الاستمرار، ذلك أن الشركة تعمل وتحقق أرباحا وتستطيع أن تمنح العوائد للجميع، وتدفع مستحقات ومكافآت العاملين فيها، لذلك لم يكن هنا داع لأن يقلق أحد ما على مستقبله في الشركة، ولهذا وبكل سهولة اتفق الجميع “بمعنى الجميع” على إخفاء تلك الخسائر المتراكمة التي تسببت -عندما انكشفت- في تدهور سعر سهم الشركة في السوق المالية، ومن أجل إخفائها “بمهارة” تم دفع مبالغ ضخمة لموظفين ومؤسسات كبيرة وصغيرة ومحللين واستشاريين حول العالم، مبالغ ضخمة لا تبررها قيم أخلاقية صارمة، لذلك لم يكن لأحد منهم أن يهتم بتلك المؤامرة وآثارها طالما أن مستحقاته ومستقبله لن يتأثر بتلك التصرفات، فقط أولئك الذين لديهم قيم أخلاقية ترفض القبول بمثل هذا. قيم أخلاقية فقط قادت أحد أعضاء مجلس إدارة “أوليمبوس” وهو ميشيل مودفورد لكشف كل تلك الفضيحة، وقد تعرض بعدها لابتزاز ضخم ثم تم فصله من عمله، وتهديده برفع قضايا تشهير وإساءة سمعة. لكن كل هذا لم يثنه عن التبليغ عن هذه المؤامرة على الرغم من أنه كان سيحقق من صمته مكاسب كبيرة، كما لن يتأثر مباشرة أحد بتلك العمليات.

كيف نعزز القيم الأخلاقية حتى نتمكن من التغلب على الفساد؟ لقد كانت القيم الأخلاقية عند ميشيل مودفورد نابعة من مواقف إنسانية ومبادئ بحتة وما يسمى بالضمير الحي، فلقد ساعدته تلك المنظومة من القيم للتغلب على الثقافة التنظيمية في شركة بحجم أوليمبوس، ومكنته من كشف التلاعب والإعلان عنه بكل شجاعة على الرغم من تعرضه للمضايقة كثيرا، وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدها من جراء ذلك. فكيف بنا ونحن أهل الإسلام ونرجو من الله الأجر على الخير الذي نفعله، فلقد عمل الإسلام على تعزيز التقوى والرقابة الذاتية وهي أهم قيم الدين الإسلامي وأثمن ما يملك المسلم، والفطرة السليمة في الإسلام أصل يجب المحافظة عليه وتعزيزه.

إن تعزيز القيم الدينية والأخلاقية عند الموظفين هو سلاح فعال جدا ضد الفساد ويجب أن نعمل من أجل ذلك. ولكن من المهم أيضا أن يصدر نظام لحماية المبلغين عن الفساد، ومن ذلك منع المنظمات من أن تقدم لموظفيها عوائد ضخمة غير مبررة بحجم العمل والمسؤوليات والإنتاج، ما يشكل عائقا كبيرا أمامهم لكشف الفساد، فمثل هذه العوائد الضخمة غير المبررة تفسد البناء الأخلاقي للموظفين، فلا يهتم بالفساد إلا من خلال تأثره المباشر به بغض النظر عن منظومة قيمه الأخلاقية وبغض النظر عما يحمله من علم شرعي، وتقوى، كما أن ذلك يجعل الموظف ينفصل عن مجتمعه وهمومه يهدف فقط إلى تعزيز أهدافه الشخصية دون النظر إلى مستقبل هذه الأمة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت