الموازنة ما بين النظرية المادية والنظرية الشخصية

إذا وازنا بين هاتين النظريتين نجد أن الغبن وفق النظرية الشخصية يتألف من عناصر ثلاث ، و هي :

1- قيمة الشيء : و هو وفق النظرية الشخصية للمشتري و لا عبرة للسعر الموضوعي .

1- استغلال ضعف معين في المتعاقد المغبون :و قد ناقشنا هذا الشرط فيما سلف من في شروط الغبن وفق النظرية الشخصية .

2- كون الاستغلال هو الذي دفعه للتعاقد .

أما الغبن وفق النظرية المادية ، فإنه يتكون من عنصرين فقط :

{ العنصر الأول } و هو قيمة الشيء : فالعبرة بقيمة الشيء بحد ذاته ، و تحدد هذه القيمة تبعاً للقوانين الاقتصادية والتي من أهمها قانون العرض والطلب ويترتب على هذه النظرية المادية لقيمة الشيء ، أنه إذا اختل التوازن بين الموجبات فإن الغبن يتحقق .

{ العنصر الثاني } درجة الاختلال في التعادل : و هذه أيضاً ينظر إليها نظرة مادية فهي مرصودة برقم معين ، فإذا وصل الغبن إلى هذا الرقم ، فإن الغبن يتحقق.

ومن شروط الغبن يتبين لنا عيوب ومزايا كل من النظريتين :

{ أ } عيوب و مزايا الغبن وفق النظرية الشخصية :

الغبن على ضوء النظرية الشخصية عيب في الرضاء و ليس في العقد و بالتالي : فالغبن مرن غير محدد برقم معين بل ينظر إلى ظروف العاقد المغبون وما به من ضعف أو ضرورة أو عدم خبرة أو طيش أو هوىً مع مراعاة الملابسات والظروف التي تحيط بالعاقدين .

أما عيوب الغبن على ضوء هذه النظرية فتكمن في أنها تحدد درجة الاختلال بين الموجبات وفق النظرية الشخصية للمتعاقد المغبون وليس وفق النظرة الموضوعية للعاقدين ، و بهذا فهي تفتح باباً عريضاً للاستغلال وليس للقضاء على الاستغلال.

و الغريب في الأمر أن كثيراً من الفقهاء من يأتي لنا بأمثلة محاولاً عن طريقها إبراز مزايا نظرية الاستغلال فإذا به يظهر عيوب تلك النظرية وليس مزاياها.

يقول السنهوري : { كثيراً ما تختلف قيمة الشىء في السوق عن قيمته لدى الشخص ، فالمالك الذي يجد قطعة من الأرض صغيرة ملاصقة لمنزله يشتريها بأضعاف ما تساويه ليوسع بها بيته،أو حديقته،قد تحقق فيه الغبن بمعياره المادي ، و لكن لم يتحقق فيها الغبن بمعياره الشخصي و بالتالي لا يتحقق فيه الاستغلال إلا إذا كان ما دفعه يزيد كثيراً على القيمة الشخصية .

و الآن بعد هذا المثال أقول:أليس صاحب الأرض الصغيرة استغل حاجة صاحب المنزل فرفع من قيمة أرضه أضعافاً لأنه يعلم حاجة صاحب المنزل وأنه لا يستطيع الاستغناء عنها فغبنه غبناً فاحشاً واستغله استغلالاً بشعاً ومع هذا يبرر الفقه هذا التصرف بأن الأرض تساوي هذا السعر بمعيار المشتري الذي لم يعد له لا حول ولا قوة أمام حاجته الشديدة للأرض،وهذا هو العيب الأول.

أما العيب الثاني في النظرية فيكمن في صعوبة الوصول إلى الحالة النفسية للمغبون،مما يؤدي إلى زعزعة التعامل وعدم استقراره خلال البحث والتنقيب في الحالة النفسية للمغبون.

{ب}عيوب ومزايا الغبن وفق النظرية المادية:

من شروط الغبن على ضوء النظرية المادة يتبين لنا أن هذه النظرية تمتلك مزية التحديد،وهذا ضمان لاستقرار المعاملات إذ يمكن لأول وهلة،أن يعرف القاضي هل تحقق الغبن أم لم يتحقق،وبالتالي فإن إثبات الغبن سهل يسير وما على القاضي إلا أن يراجع العقد ويوازن بيت الثمن والمثمن ليرى مقدار الغبن.

أما عن سلبيات الغبن على ضوء هذه النظرية وفق ما يرى كثيراً من الفقهاء ، بأنها موضوعية لا تنظر إلا ظروف الشخص،فقد يدفع شخص في تحفة أو صورة ثمن يزيد كثيراً عن قيمتها الحقيقية غير مخدوع في أمرها،لأن هذا الشيء يمثل بالنسبة له ذكريات ذات قيمة كبيرة توازي هذا الثمن المدفوع،وإذا ما أدخلنا هذه الظروف الشخصية في اعتبارنا فإنه لا يترتب على العقد غبن بالنسبة لهذا الشخص.

وللرد على هذا الاتهام نقول:لو أراد هذا الشخص بيع تلك الأشياء التي تحمل كثيراً من الذكريات والأحلام والآمال فهل لهذه الأشياء أي قيمة بالنسبة إلى الذي يريد أن يشتري هذه التحفة،وجدلاً كان كذلك،فإن هذا المثال نادر جداً ولا يمكن الاستناد إليه ليكون قاعدة أو نظرية،ومن يتتبع الأحكام الصادرة في موضوع الغبن على ضوء النظرية الشخصية يراها قليلةً جداً وهذا دليل قاطع على فشلها في مقاومة الظلم في المعاملات.

هناك نقد آخر بوجه إلى هذه النظرية وهي أنها لا تقيم لظروف المغبون أي اهتمام فهي تنظر إلى العقد فقط دون النظر إلى حالته النفسية.

وللرد على هذا النقد نقول بأن العقد المشوب بالغبن واهو إلا دليل ظني راجح على أن وجود عيب في إرادة المغبون ولولا هذا العيب لما غبن،بالإضافة إلى أنه ليس من السهل على الإطلاق إقامة الدليل على أن الغابن قد استغل ضعفاً في المغبون ، أليس من الأنسب والأسهل العودة إلى العقد والنظر فيه عوضاً عن الجري وراء ظن قد نستطيع إثباته وقد يستحيل ذلك في معظم الأحيان ونحن بأمّس حاجة إلى حكم سريع لإعادة التوازن بين الالتزامات وبالتالي إلى استقرار المعاملات.

ولعل النقد الثالث الذي يوجه إلى هذه النظرية المادية لا يعالج سوى عقود المعاوضات !!!.

فنتصدى لهذا السهم بقولنا بأنه يوجد اختلاف حول الغبن على ضوء النظرية الشخصية أيضاً ، فبعض الفقهاء ذهب إلى شمول هذه النظرية بناء على :{الفقرة الثالثة من المادة/129/من القانون المصري الجديد،وهي تجيز في عقود المعاوضة توقي دعوة الإبطال بتكملة البدل تفيد ضمناً أن الاستغلال قد يقع في عقود غير عقود المعاوضة (أي في التبرع)}بينما لم يرتض فريق آخر من الفقهاء هذا التفسير للمادة /129/مدني مصري فقال متسائلاً:{كيف يمكن أن يطبق على التبرعات نص يتحدد تطبيقه وفقاً لعبارته بالاختلال في التعادل بين ما يأخذه العاقد وفقاً للعقد،وما يعطيه بمقتضاه}كما أنه لا يمكن في نظره أن يغلب ما يفهم من الأعمال التحضيرية،أو ما تدل عليه المادة(129/3) التي تستلزم صراحة لقيام الاستغلال شرطاً لا يمكن أن يتوفر إلا في عقود المعاوضة وهو اختلال التعادل بين الالتزامات المتقابلة،ولامناص إذن من قصره عليها.

ومما تقدم نلاحظ أن هذا النقد موجه أيضاً إلى الغبن وفق النظرية الشخصية وليس مقصوراً على الغبن وفق النظرية المادية.

وفي الختام أستطيع أن أقول بالإضافة إلى ما سبق إن النظرية المادية للغبن تعتبر حلاً وقائياً وعلاجاً سريعاً أيضاً.

فهي حل وقائي لأنها تحذر المستغل الذي يريد استغلال الضعفاء والمساكين بأنها في المرصاد حاملة بيدها اليمنى بطلان العقد و اليسرى إعادة التوازن إلى ذلك العقد إذا ما حاول غبن المتعاقد الآخر،وهي علاج سريع لأنها سهلة الإثبات والإجراءات لإبطال العقد أو إعادة التوازن إليه.

ولهذا ولكل ما تقدم لا أستطيع إلا أن أرجح الغبن في ظل النظرية المادية لما لها من حسنات كثيرة وعيوب قليلة جداًًًًً.

و يثور التساؤل في هذا المقام عن وجود الاستغلال كنظرية مستقلة لها كيانها الخاص بها في الفقه الإسلامي .