مفهوم الحريات الشخصية

إن الكلام عن الحريات الشخصية لا يمكن أن يكتمل بمجرد عرض أساس هذه الحريات، فلابد من بيان مفهوم هذه الحريات، لتكون الصورة أوضح لدى القارئ ولضمان عدم اختلاط هذه الحريات مع باقي الحريات في الأذهان، ومن أجل توضيح مفهوم الحرياتالشخصية علينا أولاً أن نستعرض بعض التعريفات التي قيلت بشأنها والموقف من هذه التعريفات ومدى دقتها في تصوير هذه الحريات، ثم بعد ذلك نعرج على بيان موقع الحريات الشخصيةلباقي الحريات العامة، وعلى النحو الآتي:
الفرع الأول: تعريف الحريات الشخصية.
الفرع الثاني: موقع الحريات الشخصية بين باقي الحريات.

الفرع الأول: تعريف الحريات الشخصية

تعني الحرية أن تكون للإنسان الخيرة في أن يفعل ما يريد بشرط عدم الإضرار بالآخرين. أما الحرية الشخصية فيختلف مدلولها بحسب العلم الذي يتناولها بالدراسة، وبما أن دراستنا للحرية الشخصية هي دراسة قانونية فلابد إذن من بيان تعريفها ضمن علم القانون.
غير أن تحديد مدلول الحرية الشخصية في نظر القانون قد أثار بعض الصعوبات، إذ تعددت مدلولاتها بحسب الوجهة التي تتجه صوبها مواقف الفقهاء وخطة التشريعات.

ففيما يتعلق باختلاف مواقف الفقهاء فقد عُرِّفت الحرياتالشخصية تعريفات عديدة تركزت معظمها على بيان مفردات هذه الحرية أو ما يسمى (ما صدُقاتها) وابتعدت عن بيان (ماهيتها) ومن هذه التعريفات تعريف الدكتورة سعاد الشرقاوي للحرية الشخصية بأنها: (حق الفرد في أن ينفرد وأن يكون له مكان ينسحب فيه من المجتمع دون أن يكون للآخرين – سواء أكانوا أفراداً أم سلطة عامة – أن يقتحموه، كما تتضمن حق الفرد في أن يتميز عن غيره وأن ينصرف عن الأمور التي لا تعنيه) ومن نظرة بسيطة على هذا التعريف نجد بأنه يركز على حريات معينة دون غيرها من الحريات الشخصية الأخرى إذ إنه يقتصر على الحق في الخصوصية وحرمة المسكن والمراسلات أما باقي الحريات الشخصية فلا ينطبق عليها هذا التعريف كما هو واضح. كما عُرِّفت الحرية الشخصية بأنها: (تشمل الحرية البدنية للفرد أي قدرته على التنقل بين الأماكن المختلفة وإقامته في المكان الذي يحلو له وترك هذا المكان عندما يريد، كما تشمل حماية شخصه من المساس به عن طريق القبض أو الاعتقال أو الحبس، كما تشمل احترام حرمة المسكن والمراسلات والمكالمات التليفونية).

وفي تعريف أكثر تفصيلاً للدكتور محمد كامل ليلة: (هي حق الفرد في الذهاب والإياب والانتقال داخل البلاد وخارجها، وعلى أن يكون قادراً على التصرف في شؤون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته على ألا يكون في تصرفه عدواناً على غيره، أمناً من الاعتداء على نفسه أو ماله أو عرضه، ضامناً عدم القبض عليه أو توقيفه أو معاقبته إلا بمقتضى القانون وفي الحدود التي يقررها بعيداً عن الإرهاب والاضطهاد والتعذيب). وكما هو واضح فإن هذا الاتجاه لا يعدو أن يكون استعراضاً لأقسام الحرية الشخصية وهو أبعد ما يكون عن التعريف بمعناه الدقيق. وفي تعريف آخر للحرية الشخصية: (يقصد بها حرية الفرد الجسمانية وحريته في التنقل داخل الدولة والخروج منها والعودة إليها كلما أراد، وكذلك حقه في الأمن بمعنى عدم جواز القبض عليه أو حبسه أو معاقبته إلا بمقتضى القانون وفي الحدود التي يقرها القانون). وهذا التعريف على العكس تماماً من تعريف د. سعاد الشرقاوي إذ إنه يقتصر على الحق في السلامة البدنية وحق الأمن وحرية التنقل ويستبعد الحريات الأخرى. ونجد الاتجاه نفسه لدى الدكتور عثمان خليل عثمان حين عرّفها بأنها: (الحرية التي تفيد – فوق تخلص الفرد من كل استرقاق وارتفاق – تمتعه بحريته الجسمانية في التنقل داخل الدولة والخروج منها، وعدم جواز القبض عليه أو حبسه أو معاقبته إلا بمقتضى القانون وفي الحدود التي يقررها هذا القانون). وعرّفوها أيضاً بأنها: (شعور الإنسان بكرامته وبوجوده كإنسان فلا يسترقه أحد ولا يقبض عليه أو تقيد حركته إلا في الحالات التي بينها القانون، كما أن له أن يتنقل داخل بلاده وخارجها دون قيود، وأن يأمن على نفسه وماله وعرضه، فلا يعتدى عليه بتعذيب ولا تمتهن مشاعره

ولم يقتصر هذا المنحى من التعريفات على آراء الفقهاء بل امتد إلى نصوص القانون فقد عرّف القانون الدولي الخاص المصري الحرية الشخصية بأنها: (حرية الفرد في الرواح والمجيء وحماية شخصه من أي اعتداء وعدم جواز القبض عليه أو معاقبته أو حبسه إلا بمقتضى القانون، وحريته في التنقل والخروج من الدولة وإليها).ولو أن هذا القانون قد التزم بالخط الذي تسير عليه بقية القوانين في ابتعادها عن ذكر العريفات لكان أفضل له من أن ينحى هذا المنحى في تعريف الحرياتالشخصية، مبتعداً كل البعد عن الإشارة إلى ماهية هذه الحريات ومكتفياً بذكر أنواعها وصورها.

إلا أن هناك من الفقهاء العرب من أخذ منحى آخر في تعريفه للحرية الشخصية مثل الدكتور محمد زكي أبو عامر حينما عرّفها بأنها: (مركز يتمتع به الفرد ويمكن له بمقتضاه اقتضاء منع السلطة من التعرض لبعض نواحي نشاطاته الأساسية أو الأصلية التي تتوقف حياته اليومية على تأمينها) وهي على هذا ضرورة لا يتصور استغناء الفرد عنها من جهة، كما أنها – من جهة أخرى – ليست سوى مركز للفرد في مواجهة السلطة وحدها ونجد هذا التعريف يحاول بيان ماهية الحرية الشخصية والابتعاد عن سرد أقسامها كما فعلت معظم التعريفات الأخرى.
وإذا ما انتقلنا إلى تعريف الحريات الشخصية عند الفقهاء المسلمين المعاصرين نجد بأن الباحثين في هذا المجال لم يتفقوا على تعريف موحد للحريات الشخصية، فالبعض يعرفها تعريفاً يستوعب به الحريات جميعاً من حرية الرأي وحرية العقيدة وحرية الملكية وهكذا
فالأستاذ عبد الوهاب خلاف يعرّف الحرية الشخصية: (أن يكون الشخص قادراً على التصرف في شؤون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه في نفس أو عرض أو مال أو مأوى أو أي حق من حقوقه، على ألا يكون تصرفه عدواناً على غيره). ومن هذا التعريف نجد بأن الحرية الشخصية – في نظر الأستاذ خلاف – تتحقق بتحقق حريات عدة، وهي حرية الذات، وحرية المأوى، وحرية التملك، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية التعليم، ففي تأمين الفرد على هذه الحريات كفالة لحريته الشخصية.
كما يعرفها البعض بأنها: (قدرة الإنسان على التصرف في شؤون نفسه، وفي كل ما يتعلق بذاته، آمنا من الاعتداء عليه، في نفسه وعرضه وماله، على ألا يكون في تصرفه عدواناً على غيره).
وفي معنى الحرية الشخصية يقول الأستاذ محمد أبو زهرة بأنها: (حرية الشخص في أن يعتقد ما يراه حقاً، وان يتصرف في دائرة شخصه بما يعود عليه بالخير في نظره من غير تدخل من أحد، ولا تحكم ذي سلطان في إرادته. وان يكون له الحق في إبداء رأيه في كل ما يتصل بالمجتمع الذي يعيش فيه).

وفي ضوء ما تقدم من تعريفات للحرية الشخصية، فإننا نرى ضرورة إعادة النظر في ما طرح من هذه التعريفات، ومحاولة وضع تعريف علمي ومنهجي دقيق يوضح ماهية هذه الحريةوخصائصها، مبتعداً عن سرد عناصرها التي لم يتفق فقهاء القانون العام لحد الآن على عددها، إذ إن التعريف عادة لا يكون مشتملاً على سرد عناصر المعرَّف بل إنه من خلال بيان ماهيته وخصائصه يمكن للمقابل أن يكتشف عناصره ويستبعد باقي المفردات التي لا تملك الخصائص المذكورة في هذا التعريف. ونجد بأن أكثر تعريف مراعاة لما ذكرناه هو تعريف الأستاذ الدكتور محمد زكي أبو عامر وذلك حين عرفها بأنها: (مركز يتمتع به الفرد ويمكن له بمقتضاه اقتضاء منع السلطة من التعرض لبعض نواحي نشاطاته الأساسية أو الأصلية التي تتوقف حياته اليومية على تأمينها) مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا المركز ليس مقتصراً على منع السلطة من التعرض لنشاطاته فقط بل يشمل منع الأفراد أيضاً من هذا التعرض.

الفرع الثاني: موقع الحريات الشخصية بين باقي الحريات
من أجل توضيح الرؤية أكثر عن مفهوم الحريات الشخصية علينا معرفة موقع هذه الحريات بين باقي الحريات العامة، وهذا الأمر يتطلب استعراض ما قيل من آراء حول تقسيم الحريات العامة، ولذلك سنقوم بعرض أهم ما طرح من هذه الآراء بشكل مختصر متجنبين الخوض في جزئياتها وتفاصيلها ومستبعدين عرض الانتقادات التي وجهت لهذه الآراء، فهي ليست موضوع بحثنا هذا.
ففيما يتعلق بآراء الفقهاء الغربيين التقليدية حول تقسيم الحريات العامة يبرز التقسيم الذي طرحه الفقه الفرنسي، إذ قسم الفقيه (ليون ديجي) الحريات العامة إلى قسمين رئيسين، سمى القسم الأول الحريات السلبية. أما القسم الثاني فقد سماه بالحريات الإيجابية، وقد انطلق هذا التقسيم من مفهوم الدراسة التقليدية للنظم السياسية الذي عد الحريات العامة تمثل قيوداً على سلطة الدولة. كذلك اتجه الفقيه (موريس هوريو) إلى تقسيم الحريات العامة على ثلاثة أقسام، تمثل أولها بالحريات الشخصية، والتي تشمل الحريةالفردية، والحرية العائلية، وحرية التعاقد، وحرية العمل، وحرية التملك. وتمثل النوع الثاني من هذه الحريات بالحريات الروحية أو المعنوية، والتي تشمل حرية العقيدة والتدين، وحرية التعليم، وحرية الصحافة، وحرية الاجتماع. أما النوع الثالث فإنه يتمثلالحرية المنشئة للمؤسسات الاجتماعية، والتي تشمل الحريات الاجتماعية، والحريات الاقتصادية، والحريات النقابية، وحرية تكوين الجمعيات

أما الفقيه (اسمان) فقد قسم الحريات العامة على حريات ذات مضمون مادي أو تتعلق بالمصالح المادية للفرد، والحريات المعنوية التي تتعلق بالمصالح المعنوية للفرد. وتشمل الأولىالحرية الشخصية المتمثلة – عنده – بالأمن والتنقل، وحرية التملك، وحرمة المسكن، وحرية التجارة والعمل والصناعة. أما القسم الثاني فيشمل حرية العقيدة، وحرية الاجتماع، وحرية الصحافة، وحرية تكوين الجمعيات، وحرية التعليم.

أما فيما يتعلق بموقف الفقه الغربي الحديث فنجد من أهم هؤلاء الفقهاء الأستاذ (جورج بيردو) الذي ميز بين حريات الحدود (الحريات المانعة) التي تعد مجالاً محجوزاً للنشاط الفردي ومغلقة في وجه أي تدخل من قبل الدولة، وحريات المعارضة (الحريات الصادة) التي تعد قيوداً تعارض سلطة الدولة وتقيدها في المجالات المسموح فيها بتدخل الدولة. ففيما يتعلق بالقسم الأول فقد قسمها على ثلاثة فروع تمثل الفرع الأول بالحريات الأساسية أو الشخصية (المدنية)، أما الفرع الثاني فتمثل في الحريات الفكرية، وأخيراً تمثل الفرع الثالث بالحريات الاقتصادية. أما القسم الثاني فقد تمثل أساساً في حرية الصحافة، وحرية الاجتماع، وحرية التظاهر، وحرية تكوين الجمعيات.

أما الأستاذ (كلود ألبير كوليار) فقد صنف الحريات العامة على ثلاثة أصناف رئيسة، تمثل الأول في الحريات الأساسية أوالشخصية، والتي شملت حق الأمن، وحرية التنقل، واحترام حرمة المسكن والمراسلات، وحرية الحياة الخاصة للفرد. أما الصنف الثاني فقد تمثل في حريات الفكر، مثل حرية الرأي، وحرية الدين، وحرية التعليم، حرية الصحافة، وحرية الاجتماع، وحرية الاشتراك في الجمعيات. أما الثالث فقد تمثل بالحريات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تشمل الحق في العمل، والحريةالنقابية، وحق الملكية، وحرية التجارة والصناعة.

أما فيما يتعلق بموقف الفقه العربي فقد اتجه الدكتور وايت إبراهيم إلى تقسيم الحريات العامة على ثلاثة أقسام، شمل القسم الأول الحريات التي لا تخرج الفرد عن طويته، كحرية الضمير وحرمة المسكن، فهذه الحريات يمكن للفرد ممارستها بعيداً عن سائر الأفراد. أما القسم الثاني فيشمل الحريات التي تربط الفرد بالغير عند ممارستها ويدخل معهم – بسببها – في روابط خاصة لها طابع علاقات القانون الخاص ولا تمس السلطة العامة، كحرية العمل، وحرية التعليم. ويشمل القسم الثالث الحريات التي تربط الفرد بالسلطة عند ممارستها، إذ إن ممارسة مثل هذه الحريات يمس التنظيم السياسي للمجتمع، كحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات.

كذلك اتجه الدكتور عثمان خليل عثمان إلى تقسيم الحريات العامة على مجموعتين، تمثلت المجموعة الأولى بالحقوق والحريات التقليدية، والتي شملت قسمين من الحريات – على النهج نفسه الذي سار عليه (اسمان) – تمثل القسم الأول بالحريات التي تتصل بمصالح الأفراد المادية كالحرية الشخصية، وحق التملك، وحرية العمل والتجارة والصناعة. أما القسم الثاني فقد تمثل بالحريات المتعلقة بمصالح الأفراد المعنوية، كحرية العقيدة والعبادة، وحرية الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية تأليف الجمعيات، وحرية التعليم، وحق تقديم العرائض. أما المجموعة الثانية من الحريات فقد تمثلت بالحريات الاقتصادية والاجتماعية.

كما نجد من هؤلاء الفقهاء الدكتور (ثروت بدوي) الذي قسم الحريات العامة على حريات تقليدية وحريات اجتماعية اقتصادية. فالأولى تشمل الحريات الشخصية، والحريات الفكرية، وحريات التجمع، والحريات الاقتصادية (التجارة والصناعة). أما الثانية فتشمل، حق العمل، وحق تكوين النقابات، وحق اشتراك العمال بإدارة المشروع الذي يعملون فيه، وحق الاستمتاع بأوقات الفراغ، وحق التأمين الاجتماعي.
ومن خلال استعراض هذه التقسيمات الفقهية للحريات العامة نجد بأن موقع الحريات الشخصية بين سائر الحريات غير مستقر، وذلك بسبب تنوع هذه التقسيمات وتباين النظرة إلى هذه الحريات، فنجدها مرة بين الحريات المادية، ومرة تكون بين الحريات التقليدية، وأخرى يفصلون بين أقسامها.

أما إذا أردنا التعرف على الموقف القانوني من هذه التقسيمات، فإننا لا نجد في النصوص الدستورية موقفاً واضحاً وموحداً منها، بل إننا في أغلب الدساتير لا نجد تقسيماً لهذه الحريات، بل تكتفي بسردها بصورة غير مبوبة أو متسلسلة حسب تصنيفاتها.

غير أن بإمكاننا أن نجد في المواثيق الدولية تقسيماً موحداً للحريات العامة، وذلك بتقسيمها على حقوق وحريات مدنية وسياسية، وحقوق وحريات اقتصادية واجتماعية وثقافية، ووضع كل قسم من هذين القسمين في اتفاقية مستقلة عن الأخرى أقرتا عام 1966، فقد تضمنت الاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية الحق في الحياة، والحرية، والسلامة الشخصية، والحق في المعاملة الإنسانية للمتهمين والمحكومين، والحق في التنقل، وحرمة الحياة الخاصة، وحرية الفكر والضمير والديانة، والحق في الاجتماعات السلمية، والحق في إنشاء الجماعات والنقابات أو الانضمام إليها، وحقوق أخرى. أما الاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقد تضمنت الحق في العمل، وحق التمتع بشروط عمل صالحة، وحق تشكيل النقابات والانضمام إليها، والحق في الإضراب، والحق في الضمان الاجتماعي، وحماية الأسرة، والحق في مستوى معيشي مناسب، والحق في الصحة البدنية والعقلية، والحق في الثقافة والتعليم، وحرية البحث العلمي، وحماية الإنتاج العلمي.
فالحريات الشخصية – حسب الموقف الدولي – هي من أقسام الحقوق والحريات المدنية، وهو الموقف الذي يسير عليه الفقهاء في عرضهم لهذه الحريات في الوقت الراهن.