الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية القطعية

صحيفة الخبر
24/02/2010
بقلم المحامي بسام صباغ

كيف يتمكن بعض المديرين العامين أو المسؤولين في الدولة من خرق قرار قضائي صادر باسم الشعب العربي السوري، ضاربين بعرض الحائط كل النصوص القانونية الملزمة باعتبار أن هذا التصرف هو بمثابة جرم جزائي معاقب عليه وفق قانون العقوبات السوري بالمادة رقم / 361 / ق ع ، التي تنص على:

(كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه مباشرة أو غير مباشرة ليعوق أو يؤخر تطبيق القوانين أو الأنظمة وجباية الرسوم أو الضرائب أو تنفيذ قرار قضائي أو مذكرة قضائية أو أي أمر صادر عن السلطات ذات الصلاحية يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين)

وإن الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو التجاهل والتراخي في تنفيذها هو ظاهرة خطيرة وجديدة في بعض الوزارات والإدارات الرسمية، وإساءة كبيرة لسمعتها في التعامل مع الغير يجب ردعها بشكل فوري كي لا تتفشى في المؤسسات السورية خلافاً للدستور ولأحكام القانون والبلاغات التي تحض على ضرورة تنفيذ الأحكام القضائية فيما قضت فيه دون تلكؤ أو إبطاء بحسبانها عنواناً للحقيقة، ومنها البلاغ الصادر عن رئاسة الجمهورية رقم 2186 والذي جاء فيه: (على كافة الموظفين المختصين عدم التراخي في تنفيذ حكم أو قرار نهائي تحت طائلة المسؤولية الجزائية المنصوص عليها في المادة 361 من قانون العقوبات)

والبلاغ الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء برقم 19 /ب/ 342/ 15 تاريخ 19/2/198، والذي جاء فيه:

(تأكيداً لمبدأ سيادة القانون فإنه يطلب إلى كافة الوزارات والمديريات والهيئات تنفيذ الأحكام القضائية دون أي إبطاء أو تجاهل، وبأنه لا تجوز مناقشة الأحكام المذكورة فيما فصلت فيه باعتبارها عنوانا للحقيقة). وإن من المظاهر الأساسية التي تميز المدنيات الحديثة ودولة المؤسسات إخضاع الإدارات العامة المختلفة لحكم القانون حتى إن الدول تتباهى فيما بينها بمدى تعلقها بأهداب القانون ورضوخها لمبادئه وأحكامه، وبذلك فإن التزام الإدارة بتنفيذ الأحكام القضائية يعتبر عنواناً للدولة المتمدنة (دولة القانون) ويعد امتناعها عن تنفيذ الأحكام القضائية مبعثاً لإشاعة الفوضى وفقدان الثقة في سيادة القانون، وإن أخطر النتائج التي تترتب على الامتناع عن تنفيذ القرارات القضائية هي هروب الرساميل والشركات الاستثمارية الوطنية والأجنبية الساعية للاستثمار والتي تجد في سلطان الأحكام القضائية وفي استقلال السلطة القضائية صمام أمان وحافزاً كبيراً يوفر تربة خصبة مشجعة على الاستثمار، وإن القول بخلاف ذلك يمس بالتوجهات السياسية العامة التي تجلت في جملة القوانين والأنظمة التي شرعتها الدولة للحض على الاستثمار واستقطاب الرساميل.

وقد كرس السيد الرئيس بشار الأسد هذا النهج حين جعل سيادته احترام القانون في أعلى سلم أولوياته، فقد أكد سيادته في خطاب القسم على أنه: (علينا احترام القانون ففيه حفاظ على كرامة المواطن من قبل الدولة وعلى كرامة الدولة من قبل المواطن وفيه ضمان لحريتنا وحرية الآخرين). وخلافاً لذلك كله فإنه يسود بين المتقاضين من المواطنين ورجال القانون حالة من القلق والاستغراب تجاه ما درج عليه بعض المديرين العامين والمسؤولين مؤخراً من التراخي في تنفيذ الأحكام القرارات القضائية، بتأويل الأحكام القضائية وتفسيرها بما يخالف منطوقها للالتفاف عليها والتملص من تنفيذها، وكانت المادة 131 من دستور الجمهورية العربية السورية قد نصت على أن: (السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال يعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى)، كما نصت المادة 134 منه على أن (تصدر الأحكام باسم الشعب العربي في سورية) ونصت المادة 138 منه على أن: (يمارس مجلس الدولة القضاء الإداري) ونصت المادة 25 منه على أن: (سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة)، وبالتالي فإن الأحكام الصادرة عن القضاء الإداري التي تتمتع بالانبرام من المحكمة الإدارية العليا، تصبح حجة قاطعة بحق الجهة المحكوم عليها، وواجب عليها تنفيذ الأحكام بما قضت به دون نقاش أو مبرر للتهرب منها، وهذا الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أشبه بفساد إداري يسيء إلى النظام العام، لأن الفساد المنتشر في أجهزة الدولة متعدد الأشكال والأنواع، وهذا يؤدي إلى الإحباط واليأس وزعزعة ثقة المواطنين في قناعتهم بأنهم مواطنون يعيشون تحت سقف سيادة القانون،

إن الغاية الأولى من وجود القضاء هي إعطاء صاحب الحق حقه لتسود العدالة في المجتمع، وكان الهدف من وجود مجلس الدولة هو إعادة الحق الذي غصبته الإدارة إلى صاحبه، وإبطال أعمالها غير المشروعة التي تجاوزت فيها حد السلطة، فإذا كانت أحكام هذا القضاء غير قابلة للتنفيذ، فما هي الجدوى من وجودها؟ وأي فائدة سيجنيها المواطن إذا حصل على حكمٍ تمنعت الإدارة عن تنفيذه؟ وماذا يبقى من دولة القانون والمؤسسات، إذا كانت الإدارة تضرب الأحكام التطبيقية لهذا القانون عرض الحائط؟ وأين كرامة الشعب السوري؟ إذا كانت الأحكام التي تصدر باسمه لا قيمة لها ولا تلتزم الإدارة باحترامها؟

كل هذه التساؤلات المحقة نطرحها، بسبب التراكم الكمي لأحكام قضائية لم تجد سبيلاً للتنفيذ،، وبصدور هذا الأحكام النهائية غير القابلة لأي طريق من طرق المراجعة، وتحوز قوة القضية المحكوم بها، ويبقى التساؤل عن الوسائل الآيلة إلى تنفيذها.

تبرز أهمية تنفيذ الأحكام القضائية، بسبب صلتها مع مبدأ المشروعية، لأن الإخلال بمبدأ ضرورة احترام الأحكام القضائية يؤدي بمبدأ المشروعية إلى العدم، وقد ظلت مشكلة تنفيذ الإدارة للأحكام الصادرة ضدها من جهات القضاء الإداري، تمثل نقطة الضعف في قانون التنازع الإداري، مادام أن الأمر في النهاية يتوقف على حسن نية الإدارة، والتزامها بمبدأ المشروعية،وهذا ما قد يُعرِّض حق المحكوم له في حال اتسمت إرادة الإدارة بالسلبية وسوء النية، فتماطل أو تمتنع عن تنفيذ الحكم، وهذه المشكلة ليست جديدة، لأنه مهما بلغ رقي أو كمال الرقابة القضائية على الإدارة، فإن فعاليتها تصطدم بصعوبة وضع الأحكام القضائية موضع التنفيذ لمبدأ قوة القضية المقضية لقرارات القضاء، وخصوصاً المفعول المطلق والشامل لقرارات الإبطال، فإنه يفرض على السلطات الإدارية أن تراعي الحالات القانونية كما فصَّلها القضاء الإداري، فلهذه القرارات قوة ملزمة للإدارة وعليها واجب قانوني في تنفيذ القضية المحكمة الناجمة عنه، وبعد أن يصبح الحكم القضائي مبرماً لا مجال للمنازعة في حق المستدعي المكرس بموجبه بالنظر في حجية القضية المحكمة والقضاء يهتمُّ بتنفيذ الأحكام التي يصدرها، ويجب أن نطلق صرخة قاسية بوجه كل من يحاول التعدي على قوة القضية المحكمة سواءً من جهة القضاء أم من جهة الإدارة، ويجب أن نتذكر دائماً بأنه من المستحيل بصورة مبدئية ومطلقة إدخال أي تعديل أو تصحيح أو تفسير على القرارات القضائية المبرمة لمناقشة ما تقرر بغية تعديل ما قضت به أو إصلاح خطأ أو عيب في أساسه أو شكله،،، وبما أن قوة القضية المحكمة تربو على قوة القانون ذاته فهي عنوان الحقيقة مهما وجه إليها من انتقادات وطعون، ويتحتم على كل قاض، مهما كانت مرتبته في السلك القضائي أن يدافع عن قوة القضية المحكمة التي هي السند الأساسي للنظام القانوني، وإلا سيكون موضوع الخلاف سلطان مجلس الدولة وكرامته، وهي المحكمة الإدارية العليا المنوط بها مراقبة شرعية الأعمال الإدارية والحفاظ على الحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور وحدد نطاقها القانون، وبما أنه لا يسع الدولة بعد صدور الحكم المبرم عن مجلس الدولة مناقشة مضمونه بل عليها الانصياع إلى ما ألزمها القضاء به بدون تردد.

القرارات الصادرة عن مجلس الدولة تكتسب لحظة صدورها الحجية وقوة القضية المقضي بها معاً، وهي واجبة التنفيذ فور استكمال مقومات التنفيذ، وعلى المحكوم له أن يأخذ المبادرة وأن يتولى بنفسه إبلاغ الإدارة المختصة إحالة رئيس مجلس الدولة لصورة القرار الصالحة للتنفيذ التي بموجبها يلقي على عاتق الإدارة الالتزام بتنفيذ القرار، فللمحكوم مصلحة أكيدة في إبلاغ الإدارة السند التنفيذي الذي به يعلمها بتمسكه بحقه بعد اطلاعها على أسباب القرار ومنطوقه،

فامتناع الإدارة عن تنفيذ الحكم أياً كان صور هذا الامتناع يمثِّل دائماً تجاوزاً لحد السلطة وهو يعطي دائماً للمحكوم له حقاً في رفع دعوى جديدة لإبطال قرار الإدارة في هذا الشأن سواء عبَّرت الإدارة عن موقفها هذا بصورة قرار إيجابي صريح أو بصورة قرار سلبي ضمني لأن هذا الامتناع يمثِّل إخلالاً بمبدأ قانوني عام هو مبدأ احترام قوة الشيء المقضي به (أي قوة القضية المحكمة)، وإذا ما رفضت الإدارة التقيد بقوة القضية المحكمة يقضي مجلس الدولة بإبطال قرار رفضها تنفيذ الحكم القضائي، ناهيك عن حق المتضرر بطلب التعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت به من جرَّاء امتناع الإدارة عن تنفيذ قراره المبرم،

وهنا نصل إلى خلاصة مفادها أنه يجوز للمتضرر طلب التعويض عن ممارسات الإدارة الخاطئة المستمدة من عدم تنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة عن مجلس الدولة أو عن غيرها من المحاكم، استناداً إلى نظرية المسؤولية الإدارية، باعتبار أن الإدارة لا تتمتع بأية سلطة استنسابية في مجال وجوب تنفيذ الأحكام المبرمة، فالكل يجب أن يخضع للمصلحة الأعلى التي تعني احترام القانون وإطاعة أحكام القضاء، ولا توجد أي مصلحة أخرى يمكن تغليبها على هذه المصلحة وهكذا وُجدت الغرامة الإكراهية كجزاء رادع يتيح لمجلس الدولة – بناء على طلب صاحب المصلحة– أن يفرض على الإدارة الممتنعة غرامة إكراهية إذا جاء امتناعها دون مبرر وتعدى المهلة المعقولة، ويدخل تحديد قيمة هذه الغرامة في إطار سلطة القاضي الإداري الاستنسابية، حيث لا يكون القاضي ملزماً بالقيمة التي يطلبها المستدعي، ولا يعتمد على مقدار الضرر الذي يصيبه، بل يربطها بمدى معاندة الإدارة ونيتها في الامتناع عن تنفيذ الحكم القضائي، ويمكن أن تحدد بمبلغ أكبر مما طلبه المستدعي وذلك محافظة على طابعها كغرامة، ولذا يجب التفريق والتمييز بين الغرامة الإكراهية عن التعويض أو العطل والضرر والإمعان في تحقيق أثر الغرامة في حماية الأفراد وضمان مبدأ قوة الأحكام واستقلال القضاء، وتبقى الغرامة الإكراهية سارية بحق الإدارة ابتداء من الحكم بها حتى تاريخ التنفيذ الفعلي للقرار القضائي موضوع الطعن، وهكذا كلَّما أظهرت الإدارة بشكلٍ سافرٍ سوء نيّتها في تنفيذ القرارات القضائية، مما يطيح بأي أمل في الإقناع، تبدو الغرامة الإكراهية وكأنها آخر الدواء أو السلاح الذي لا بد منه لإرغام الإدارة على التنفيذ، فالغرامة الإكراهية هي جزاء الامتناع عن التنفيذ، ومسألة إدخالها في القانون الإداري أتاح للقاضي الإداري الحصول على سلطة الأمر الموجّه للإدارة بهدف تنفيذ أحكامه، فبعد نجاح الغرامة الإكراهية في إجبار الإدارة على تنفيذ الأحكام القضائية، بسبب السهولة والجدة التي نادراً ما تمنعت الإدارة عن الانصياع إليه، ونظراً لطابع التكدير والإكراه الذي يميز هذا النوع من الغرامات، وما تفرضه من عبءٍ ماليٍ وثقلٍ معنوي على الإدارة مما يجبرها على التنفيذ. إن مبدأ عدم جواز تدخل القاضي في شؤون الإدارة أو حتى الحلول محلها لا يعني إطلاقاً أنه يبقى مجرداً من أية سلطة تجاهها، فنتيجة التطور القانوني الذي تبلور في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وخاصة بعد صدور مدونة القضاء الإداري الفرنسي بموجب الأمر التشريعي رقم387/2،،، تاريخ 4/5/2000 نجد أنه لم يعد هناك مبرر لطلب إبطال امتناع الإدارة عن تنفيذ الحكم القضائي، أو مطالبتها بالتعويض جرَّاء هذا الامتناع، ذلك أن القانون الجديد المواد L، 911-1 وما يليها منح القاضي الفرنسي سلطة فرض الغرامة الإكراهية تلقائياً، بدون طلب من المتضرر، فهو يستطيع أن يصدر حكمه الأساسي، متضمناً أمراً إلى الإدارة بوجوب التنفيذ مصحوباً بغرامة إكراهية أو يفرض على الإدارة غرامة بعد صدور الحكم إذا ما تبين له امتناع الإدارة عن التنفيذ أو يوجه إليها أمراً بوجوب تنفيذ الحكم القضائي.

وهنا نذكِّر أنه إضافة إلى مسؤولية الإدارة عن تنفيذ الحكم الإداري، فإن المشرع قد رتَّب مسؤولية على الموظف الذي امتنع عن هذا التنفيذ، وهذه المسؤولية هي ذات وجهين جزائية ومالية، أما المسؤولية الجزائية فقد نصت عليها المادة 361 من قانون العقوبات التي تقضي بعقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين على كل موظف يمتنع عن تنفيذ حكم قضائي، إضافة إلى المسؤولية المالية.

ونحن نقترح بدورنا المسؤولية المالية التالية : (على أن كل موظف يستعمل سلطته أو نفوذه مباشرة أو غير مباشرة ليعيق أو يؤخر تنفيذ أي قرار قضائي يغرم أمام ديوان المحاسبة بما لا يقل عن راتب ثلاثة أشهر ولا يزيد عن راتب ستة أشهر).