القطاع الخاص يكافح الفساد
يحل في الرياض عدد كبير من أساتذة الجامعات والباحثين ورؤساء الشركات والإعلاميين المتخصصين في الاقتصاد خلال الأسبوع الذي يبدأ في الثالث من كانون الأول (ديسمبر). تعقد خلال الفترة فعاليتان مهمتان هما ”مؤتمر اقتصاديات الشرق الأوسط ودور القطاع الخاص”، وبعده بستة أيام ”منتدى الرياض الاقتصادي”، الجميل أن المناسبتين تحلان ويحل في الوقت نفسه ”اليوم العالمي لمكافحة الفساد” في التاسع من كانون الأول (ديسمبر). دفعني هذا لتمني أن أرى أبحاثا وأوراق عمل تناقش دور القطاع الخاص في محاربة الفساد.

على أن الفساد مصدره النفس البشرية التي تتوق للتفوق والحصول على الأفضل، وهو ما استوجب سن القوانين التي تكبح جماح تلك النفس وتعاقب حاملها عند تجاوزه حدود تحقيق الكسب الحلال والمنصب العادل الذي يوازي استحقاقه وتعطي الجميع الفرصة التي يستحقونها للتقدم والوصول لمراكز القرار.

تعتبر الحكومة الحلقة الأضعف في محاربة الفساد لأسباب كثيرة من أهمها أن المحاسبة والرقابة على الأعمال غير مستوفية للاشتراطات العلمية المعتبرة. يضاف إلى ذلك اعتمادية القطاعات على بعضها، الأمر الذي يوجد الحاجة لتكوين علاقات شخصية لضمان تسيير الأعمال. كما يُعاب على القطاع الحكومي أنه لا يتبنى معايير قياس كفاءة الأداء التي تنفذها جهات مختصة مستقلة عن الجهة، والعامل الأهم في استمرار الفساد وانتشاره في القطاع هو بقاء جميع التقارير والتقاويم على شكل إنشائي لا يعترف بالأرقام.

يمكن أن تحكم على إدارة الشركة بمجرد أن تتعرف على التغيير في الأرقام، الميزانية، والإنتاجية، والموارد البشرية، العلاقات مع المستفيدين يتم تحويلها إلى أرقام تجعل الحكم على مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية أسهل. بل وتتعدى ذلك إلى التعرف على الحلقات الأضعف في تكوين الإدارة سواء في ناحية الإجراءات أو السياسات أو الأنظمة أو الأفراد.

من هنا تأتي أهمية أن يساهم القطاع الخاص في دعم التوجه الحكومي نحو مكافحة الفساد. تأتي مساهمة القطاع الخاص من خلال ما يمكن أن يقدمه من المعلومات والأبحاث والتقارير ومفاهيم الأداء الأفضل Best Practice، فإذا تبنَّت الحكومة التحول إلى الشفافية والمحاسبة باعتماد التقنيات الرقمية التي تقلل من الدور البشري في الحكم على الآخرين والأنظمة والعمليات، فإننا سنحقق نتائج باهرة.

تقوم مؤسسات القطاع الخاص المتخصصة بتقديم نتائج الأبحاث العلمية في مختلف مجالات الإدارة والإنتاجية وعليها عبء قولبتها للتطبيق في القطاع الحكومي. من أهم الأمثلة على ذلك ما طبقته أكثر من دولة في مجالات الجودة الشاملة والتميز. لعل تطبيق مفاهيم الإدارة الفعالة هذه في القطاع الحكومي وقولبتها مثل ما حدث في ماليزيا ودبي ودول أخرى لتعالج ما يعتري القطاع العام من فساد إداري وانخفاض في الإنتاجية، هو ما حقق نتائج باهرة في الدولتين خلال سنوات قليلة.

مفاهيم الربحية التي يطبقها القطاع الخاص في أعماله والتركيز على الإنتاجية والعمليات التي تحققها، تساهم في صنع البيئة الإدارية الفاعلة وهو ما يمكن أن يشارك القطاع الخاص بتحقيقه من خلال نشر نتائج الأبحاث وتقديم الاستشارات والمشاركة في صنع القرارات ”البراجماتية”.

تؤدي القوانين الحاكمة لأعمال القطاع الخاص التي تتبنى الشفافية والمحاسبة والرقابة على جميع الأعمال إلى ضمان وجود حاجز أخلاقي وقانوني يمنع المنافسة غير الشريفة. ذلك أن الإلزام بنشر كل ما يتم التفاوض عليه وما يناقش في الغرف المغلقة سواء مع الحكومة أو الشركات الأخرى سيجعل التجاوزات تعبر من خلال نفق ”الفضيحة” وهو ما يخشاه كل موظف عام.

لا بد أن نعترف أن القطاع الخاص في عالمنا العربي أسهم في نشر الفساد بين موظفي الدولة. فمن موظف البلدية الذي يحصل على ”ساندويتش” صباحي من صاحب المطعم ومقاضي منزله من البقالة إلى المسؤول الكبير الذي يفرض نسبة مئوية على الشركات التي تفوز بالعقود الحكومية، إلى تلك الشركات الوهمية التي تبنى على أسماء أشخاص معينين لكسب المشاريع، ومن ثم تفوِّضها إلى مقاولين من الباطن يفتقدون القدرة على التنفيذ السليم.

يأتي الدور المهم اليوم على قطاع الأعمال لتبني أخلاقيات الشفافية والتعامل العادل مع المشاريع والمنافسات التي تطرحها الحكومة، بل ويمكن أن تكوِّن الشركات الكبرى منظومة أخلاقية تتبنى محاربة الفساد والمعاملات التي تتم تحت الطاولة في أي مشروع. على الرغم من أن الحكومة هي التي يجب أن ترسخ هذه المفاهيم، وهو ما يجعل الدولة ملزمة بدعم الشركات التي تتبنى هذه الأخلاقيات، وتعلن عن ذلك.

إن الأمر الذي صدر من خادم الحرمين الشريفين بفتح المجال في المنافسات الحكومية لكل المؤهلين وإلغاء تكليف الشركات أو حصر المنافسة في شركات محددة جاء في الاتجاه السليم. لكن هناك المزيد من الخطوات التي يمكن أن تسهم في كشف الفساد ومعاقبة مرتكبيه، وكثير منه يحدث داخل شركات القطاع الخاص نفسه، وهو موضوع مقال آخر.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت