القضاء الإداري يحمي مبدأ المشروعية

يساهم القضاء الإداري في الدول العربية بدور في غاية من الأهمية في مجال مراقبة مشروعية الأعمال الإدارية وحماية حقوق وحريات الأفراد وهذا من خلال فصله في القضايا المعروضة عليه ويستمد القضاء الإداري هذه الأهمية من وظيفته الطبيعية كونه الجهاز الرسمي الذي يفرض حكم القانون على جميع الهيئات وأيا كان مركزها وموقعها وطبيعتها كما يفرض حكم القانون على الأفراد وهو مايؤدي في النهاية إلى إقامة دولة القانون ودولة المؤسسات ودولة الحقوق والحريات ولا يمكن تكريس هذه المفاهيم في أرض الواقع دون دور للقضاء الإداري. وإذا كانت مختلف القوانين العربية اعترفت للإدارة بسلطة إصدار قرارات إدارية وأن هذه القرارات تتمتع بالطابع التنفيذي وأن الإدارة لا تحتاج إلى اللجوء لسلطة أخرى ولتكن القضاء لتنفيذ قراراتها فإن الدساتير العربية أيضا اعترفت من جهة أخرى للفرد بحقه في اللجوء للقضاء لرد المظالم ووضع حد لكل تعسف قد يلاقيه من جانب الإدارة خاصة وأنه الطرف الضعيف في العلاقة بما يفرض حماية له من كل اعتداء. إذا كان مبدأ المشروعية الإدارية محاطا بجملة من أشكال الرقابة الإدارية والسياسية والبرلمانية وأن لكل من هذه الأنواع جهاتها وإجراءاتها ونطاقها، فإن وجود رقابة قضائية تمارس على أعمال الإدارة المختلفة المادية والقانونية أمر لابد منه لتأكيد سيادة القانون على الحكومة والافراد . فلا ينبغي أن يتخذ من مبدأ الفصل بين السلطات حجة وذريعة للقول مثلا أنه ليس من حق القضاء التدخل في شؤون الإدارة، لأن مثل هذا الطرح إذا ما أثير فمن شأنه أن يفكك كل معالم دولة القانون أو الدولة القانونية . إن الدولة القانونية تبدأ من فكرة أن كل عمل أو قرار من الممكن عرضه على جهة القضاء المختص لفحصه وتقدير مشروعية ورقابته. وقد يؤدي الأمر إلى إلغاءه مع ترتيب أثار الإلغاء. إذ ما الفائدة التي يجنيها المواطن إذا كانت حقوقه ثابتة بموجب نصوص دستورية وقانونية كحق الملكية مثلا، إذا لم نعترف له باللجوء للقضاء في حال خرق الإدارة للقانون ونزعها لملكيته دون مراعاة الجوانب الإجرائية، ودون التقيد بالنصوص الرسمية التي تحكم عملية النزع. لا شك أن تصورا من هذا القبيل ينجم عنه العودة بالمجتمع البشري إلى مراحله السابقة والقديمة حيث كانت الدولة وهيئاتها لا تتقيد بالقواعد ولا تلتزم بضابط أو إجراء. إن الدعاوى الإدارية المختلفة سواء دعوى الإلغاء أو دعوى التفسير أو دعوى الفحص أو دعوى التعويض وغيرها من الدعاوى الأخرى تمثل ضمانة أساسية لمبدأ المشروعية الإدارية. وتمكن جهة القضاء المختص من ممارسة رقابته على جهة الإدارة، ومن ثم التصريح في حال ثبوت الخرق بالغاء القرار المطعون فيه أو إقرار مسؤولية الإدارة مع التعويض عن العمل الضار وغير ذلك من القرارات القضائية. وينظر القضاء الإداري في الدعاوى المرفوعة أمامه بصفة مستقلة فلا سلطان للإدارة وينبغي الإشارة أن الإدارة في كثير من الأنظمة القانونية قد تتطاول على أحكام القضاء وتتمرد على تنفيذها رغم أن المشرع فتح السبيل القانوني أمام صاحب الحق في اللجوء للقضاء الجزائي . غير أنه ورغم فتح هذا السبيل ، إلا أن الملاحظ في كثير من الأنظمة العربية أن الإدارة قد لا تمتثل لأحكام القضاء خاصة إذا تعلق الأمر بدعوى الإلغاء. وإذا كان القضاء العادي ممثلا في المحاكم العادية والابتدائية وجهات الاستئناف وقضاء النقض هو الآخر يصون مبدأ المشروعية بصفة عامة ويحفظ الحقوق المقررة قانونا , وكذلك القضاء الدستوري يتولى حماية مبدأ دستورية القوانين والأنظمة فإن القضاء الإداري يبقى مع ذلك يتمتع بخصوصيته .و يمارس القاضي الإداري سلطات واسعة في مجال المنازعات الإدارية ، فهو من يوجه الإجراءات وقد يأمر الإدارة بإفادة جهة القضاء بوثائق ومستندات . أن القاضي الإداري هو أكثر القضاة عرضة للمخاطر بحكم خصوصية المنازعة المعروضة عليه فأمام القاضي الإداري يقف رئيس الدولة والوزير والمدير المركزي والمحافظ وغيرهم من أصحاب النفوذ وقد يتصدى القاضي الإداري لعمل الإدارة فيصرح إما بإلغاء قرار إداري بعد تنفيذه ، أو يصرح بحق المتضرر في الحصول على تعويض يلزم جهة الإدارة بدفعه وبذلك يحد من نفوذها وتعسفها والهدف العام هو تكريس مبدأ المشروعية وإقامة الدولة القانونية وحفظ الحقوق والحريات ولا يتعرض القاضي المدني لضغط مماثل في القوة لأنه يفصل في مسائل تتعلق بالمصلحة الخاصة وأشخاص القانون الخاص. إن دولة القانون تبدأ بتكريس مبدأ المشروعية في أرض الواقع على نحو يلزم كل هيئات الدولة بمراعاة حكم القانون في نشاطاتها و تصرفاتها و في علاقاتها المختلفة . إذ ما الفائدة أن ينظم القانون علاقات و روابط الأفراد و تتحرر هيئات الدولة من الخضوع إليه. إن مثل هذا الأمر إذا كرس في أرض الواقع لنجم عنه العودة بالمجتمع البشري إلى مراحله الأولى و التي سادت فيها الدولة البوليسية. من أجل ذلك ذهبت الدراسات الدستورية إلى تقسيم الدول من حيث خضوعها لمبدأ المشروعية إلى حكومات و دول استبدادية و أخرى قانونية. وعليه فإن مبدأ المشروعية يفرض من جملة ما يفرضه وجود سلطة قضائية تتولى توقيع الجزاء على المخالف في حال ثبوت التجاوز أو الخرق للقانون . فلو تصورنا أن السلطة الإدارية أصدرت قرارا غير مشروع فقامت بفصل موظف عن وظيفته دون تمكينه مثلا من ممارسة حق الدفاع عن نفسه، أو دون تمكينه من الإطلاع على ملفه التأديبي أو دون تبليغه لحضور الجلسة التأديبية ، فإنها في مثل هذه الحالات تجاوزت القانون وأعتبر قرارها غير مشروع . ويعود للقضاء المختص النطق بعدم مشروعية القرار و من ثم إلغاءه لذات السبب بعد رفع الأمر إليه. يمثل مبدأ المشروعية صمام آمان بالنسبة للحقوق و حريات الأفراد. و هو الحصن الذي يكفل صيانتها و حمايتها من كل اعتداء . فلو أخذنا على سبيل المثال حق الملكية و هو حق من حقوق الإنسان كفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة17 منه. و ثبته العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية. و هو حق ثابت أيضا في دساتير الدول على اختلاف نظمها السياسية، و مكرس في القوانين المدنية ، فإن الاعتداء على هذا الحق بمباشرة إجراء نزع الملكية للمنفعة العامة من قبل أحد الجهات الإدارية المخولة و دون مراعاة جوانب إجرائية ، فإن قرار النزع على هذا النحو يكون مخالفا لما قرره القانون، بما يصح معه وصفه بالقرار الغير مشروع . وتبعا لذلك فإن مبدأ المشروعية يوجب ضبط الإدارة باختصاص معين فيلزمها بالقيام بأعمال معينة ضمن إطار محدد, و هذا ما يدخل تحت عنوان التنظيم الإداري . فتسعى الدولة إلى ضبط اختصاصات الجهات الإدارية. إن السلطة الإدارية في كل الدول تباشر نشاطات واسعة و متنوعة بقصد تحقيق المصلحة العامة . فهي من تتولى إنشاء المرافق العامة بقصد إشباع حاجات الأفراد المختلفة. وهي من تكفل المحافظة على النظام العام بعناصره الثلاثة الأمن العام و الصحة العامة و السكينة العامة . وهي من وضع القانون بين يديها وسائل للقيام بسائر أنشطتها . لعل أهم مصادر مبدأ المشروعة وفرة من حيث القواعد هي القوانين بحكم كثرتها و اختلاف موضوعاتها. فكثيرة هي النصوص القانونية التي تضعها السلطة التشريعية و تمس جهة الإدارة أو تنظم علاقاتها مع الأفراد كقانون الوظيفة العامة و قانون نزع الملكية للمنفعة العامة و القانون المنظم لرخص البناء و غيرها . فهذه المنظومات القانونية أيا كان موضوعها متى صدرت و تم نشرها أصبحت ملزمة للجهات الإدارية المختصة و ملزمة أيضا للأفراد فيما يتعلق بوضعيتهم و مركزهم. ومصير القرار الغير مشروع هو البطلان و الإلغاء إما من جانب سلطة إدارية أو سلطة قضائية. ومن هنا يتبين لنا أنه لولا مبدأ المشروعية لضاع حق الملكية، بل و كل حق أي كانت طبيعته.لذلك ذهب الفقه في فرنسا إلى إبراز دور القاضي الإداري في الربط بين القرار المطعون فيه، وبين القواعد القانونية باعتباره الحارس الأمين لقواعد القانون من أن تنتهك نتيجة عمل من أعمال الإدارة. و لا يكفل مبدأ المشروعية حماية حقوق الأفراد فقط ، بل يحمي أيضا و يصون حرياتهم. ذلك أن السلطة الإدارية إن كان معترف لها في كل الأنظمة القانونية باتخاذ إجراءات الضبط للمحافظة على النظام العام ، فإن ممارسة هذه السلطة مقيد بمراعاة مبدأ المشروعية . فلا يجوز للسلطة الإدارية اتخاذ إجراءات الضبط خارج إطار و دواعي النظام العام. فإن ثبت ذلك تعين النطق بإلغاء القرار الإداري، إما من جانب القضاء بعد رفع الأمر إليه، أو من جانب السلطة الإدارية. إن السلطة التنفيذية في كل الدول هي السلطة الأكثر امتلاكا للهياكل و الأكثر استخداما للأعوان العموميين . وهي سلطة مكلفة بتنفيذ القوانين و إشباع حاجات الأفراد و المحافظة على النظام العام. و هي الأخرى ملزمة في عملها بمراعاة مبدأ المشروعية. فإذا كان القانون يجيز لها مثلا نزع الملكية للأفراد لمقاصد عامة ، أو اتخاذ إجراءات الضبط، أو الإشراف على العمليات الانتخابية و تنظيمها أو تقديم الرخص و غيرها، فإنها في كل هذا النوع من الأعمال وجب أن تخضع لمبدأ المشروعية . وأن أي خروج و انتهاك لقاعدة قانونية من جانبها ينجم عنه بطلان التصرف. بغرض تكريس مبدأ المشروعية على أرض الواقع وجب تحريك وتفعيل آليات الرقابة المختلفة سواء السياسية أو الإدارية أو البرلمانية أو القضائية حتى تمارس كل جهة دورها في إلزام الإدارة بالخضوع للقانون، وبالتالي الوصول إلى الهدف الأسمى ألا وهو إقامة الدولة القانونية. يعتبر الدستور القانون الأسمى و الأعلى في كل دولة و يمثل قمة هرم النصوص القانونية وأعلاها مرتبة وأكثرها حجية على وجه الإطلاق . ويستمد الدستور علو مرتبته من مصدرين أساسيين أحدهما موضوعي و الآخر شكلي. و يتمثل المصدر الموضوعي في أن الدستور يتكفل بضبط و تحديد أهم وأخطر علاقة ألا و هي علاقة الحكام بالمحكومين . وترتيبا على ذلك عاد له صلاحية تنظيم عمل السلطات الثلاث التشريعية و التنفيذية و القضائية. كما يتضمن إلى جانب ذلك الإعلان عن مجموع الحقوق و الحريات التي يتمتع بها الأفراد داخل الدولة. أما المصدر الشكلي فيقصد مساهمة الشعب بصفة مباشرة في إقرار الوثيقة الدستورية و هذا باعتمادها بطريق الاستفتاء، و هو الأسلوب الغالب في ظل الدولة الحديثة أو المعاصرة . بل حتى ولو انتخب الشعب جمعية تأسيسية و كلفت بصياغة الدستور، فإن الشعب بهذا الطريقة يكون قد ساهم مساهمة غير مباشرة في صياغة الدستور.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت