القداسة الملكية في سياق التطور الدستوري

حسن هويوة

أدت سياسة إدماج مفهوم القداسة في إطار دولة عصرية إلى دسترة مفهوم القداسة التي لا ينحصر نطاقها في مستوى الذات الشخصية للملك بل يشمل التصرفات والأقوال الملكية.

القداسة المتعلقة بشخص الملك

لقد ظلت شخصية الملك عبر التاريخ المغربي تحظى بمكانة خاصة في البيئة الاجتماعية والسياسية وتعد رمزا من رموز وحدتها وتوحدها. ومنذ الإرهاصات الدستورية الأولى قبل الحمابة نص مشروع دستور 1908م على أنه: “يجب على كل أبناء السلطنة الطاعة للإمام الشريف والاحترام لذاته، لأنه وارث البركة الشريفة”.

وبعد الحصول على الاستقلال أكدت جميع الدساتير التي عرفها المغرب منذ بداية الستينات على القداسة الشخصية لجلالة الملك في الفصل 23، إذ ينص هذا الأخير على أن ” شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته”. فهذا المقتضى الدستوري يجعل شخصية الملك مقدسة لا يجوز انتهاك حرمتها، فهي في منأى عن كل مساس جسماني أو أخلاقي وعن كل مسائلة أو متابعة قضائية عن أي فعل، لكون جلالة الملك بإمارته للمؤمنين معني بحرصه على عدم ممارسة كل ما من شأنه الإخلال بهبة موقعه المتميز الضامن لحفظ حقوق الأفراد والجماعات في نطاق رمزية ميثاق البيعة والمقتضيات الدستورية.

ومن أجل ضمان الاستقلال المادي لجلالة الملك نص الفصل 22 من الدستور الحالي على وضع ميزانية خاصة بالملك ،تسمى بالقائمة المدنية، وهذه الميزانية تكون تحت تصرف جلالته قصد تمكينه من أداء وظائفه على أحسن وجه ولا تخضع للمحاسبة أو المراقبة.

كما أن الحصانة البرلمانية تسقط في حالة قيام العضو البرلماني بما يخل بالاحترام الواجب لجلالة الملك وبقدسية ذاته الشريفة. فحرية إبداء الرأي البرلماني تنتهي عندما يتعلق الأمر بمواقف أو أقوال تتضمن مساسا بالقداسة الشخصية للملك وتطاولا على مقامه . وبناء على هذا الخطأ الجسيم المخل بالاحترام الواجب للملك يصبح العضو البرلماني مرتكبه موضوع متابعة أو توقيف أو إلقاء القبض عليه بدون أن يصدر بشأنه إذن من البرلمان، بل إن هذا القبض أو هذه المتابعة قد تتم أثناء انعقاد الدورات البرلمانية أو خارجها، بحيث ينص الفصل 39 في فقرته الأولى من دستور 1996 في هذا الصدد على ما يلي: “لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان ولا البحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك”.

وهكذا يبقى جلالة الملك محصنا ضد كل نقد أو مساس بشخصيته الذاتية أو المعنوية، وكل تجاوز لحصانته يعد اعتداء سياسي خطير وخطأ جسيم يعرض صاحبه لأقصى العقوبات. وهذا ما يجد دعمه في القانون الجنائي الذي يعاقب على جريمة الاعتداء على شخص الملك أو محاولة الاعتداء عليه بالقول أو باليد أو الاعتداء الذي يكون الغرض منه القضاء على النظام الملكي وحمل السلاح ضده.

كما أن الظهير المتعلق بقانون الصحافة تناول بدوره مسألة الحصانة الشخصية للملك وجعل منها قيدا جوهريا ضابطا لحرية العمل الصحافي، بحيث لا يجوز أن يصدر عنه في شكله أو مضمونه ما يعبر عن وجود تجاوز لكرامة الملك وعائلته من خلال تصوير أو كلام أو حديث جاري أو لاذع أو تنقصه اللباقة والتقدير الواجب للملكية،

إن قداسة شخصية الملك وحرمتها كانت تتطابق في حقيقة الأمر في بعض معانيها بما جرت عليه التقاليد والأعراف المغربية من تقديم فروض الطاعة والاحترام الخاص لمتولي منصب الإمامة و مخاطبته والتحدث عنه بكل تقدير واحترام في نطاق حرصه على المصالح الدينية والدنيوية العليا

ولئن كان مفهوم القداسة الشخصية للملك وجد سنده المرجعي سسابقا في تأويل حقيقة الانتماء لآل البيت وتجسيد إمارة المؤمنين التي تشكل إحدى الدعائم لتثبيت شرعية الدولة المغربية وتكريس استقلالها الديني والمذهبي عن الخلافة المشرقية ، فإن هذا المنطلق التاريخي لابد أن يتفاعل وينسجم مع روح الديمقراطية الجديدة والتطور الحاصل واقعيا في حال المؤسسة الملكية مما يقتضي إبداع صيغة جديدة تتجاوز المفهوم التقليداني لقداسة شخصية الملك وتحقق المضمون الدستوري لرمزية جلالة الملك وحفظ الاحترام الواجب لشخصيته ، خاصة أن مفهوم القداسة يفتقد إلى الانسجام مع التأويل الفقهي السني ومقتضيات الانسجام مع دين الدولة الذي لا يقبل نطاق القداسة للأشخاص مهما علا شأنهم، بما لا يعني عدم الإقرار بأهمية عنصر المحبة والاحترام والتقدير لشخص الملك كلما كان حريصا على الإبداع والاجتهاد في تنمية الشؤون العامة

كما أن الانسجام مع دلالة و شروط ورمزية التطور لملكية دستورية برلمانية ديموقراطية مواطنة حريصة على إمارة المؤمنين والانفتاح المتجدد على العصر والتقدم يقتضي تجاوز مفهوم القداسة التي لا تليق حتى بالتعامل الإنساني التلقائي الجديد لجلالة الملك الذي بات يكسبه رصيدا من التقدير والاحترام المعزز للوحدة والاستقرار والمحفز على تقوية شرعية الإنجاز والتنمية

القداسة المتعلقة بتصرفات الملك

تتجلى القداسة المرتبطة بالتصرفات الملكية في استبعاد المسؤولية السياسية للملك رغم أن هذا الأخير يمارس سلطات تنفيذية واسعة إما بصفة مباشرة من خلال المجال المحفوظ له أو بصفة مباشرة من خلال حكومته. كما تتجلى هذه القداسة في عدم جواز مناقشة مضمون الخطاب الملكي الموجه للبرلمان أو الأمة، سواء من طرف هذه الأخيرة أو من طرف ممثليها انسجاما مع فحوى الفصل 28 من الدستورالحالي الذي ينص بالخصوص على ما يلي: ” للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش”.

وجدير بالذكر أن الصيغة الأولى لهذا الفصل كما كانت واردة في دستور 1962 تنص على ما يلي: ” للملك أن يخاطب البرلمان والأمة، ولا يمكن أن يكون مضمون ما يخاطبهما به موضع نقاش من طرف البرلمان” ويعني ذلك أن الدستور يمنع إجراء مناقشة برلمانية بعد توجيه خطاب ملكي إلى الأمة أو البرلمان ، غير أن هذا الفصل سيصبح أكثر وضوحا وحسما في تعديل 1970.

ويترتب على هذا تحصين التصرفات والأقوال الملكية وضرورة احترام الشعب المغربي أفرادا وجماعات للتوجيهات الواردة في فحوى الخطاب الملكي الموجه للأمة، لما يتصف به من قوة رمزية تحكيمية ملزمة وكذلك إجبارية التزام البرلمان بمضمون ما جاء في الخطاب الملكي الموجه إليه. إذ يعد هذا الخطاب بمثابة برنامج ملكي توجيهي يتعين على نواب الأمة الامتثال له والعمل على تنفيذه وصياغته في قوانين دون مناقشته أو تقديم تعديل عليه.

لنصل إلى التأكيد على أن الخطاب الملكي هو بمثابة تشريع يكتسي قوة إلزامية مطلقة. مما يضفي صيغة قانونية ملزمة على كل تصريح أو أمر يصدر عن جلالة الملك، بغض النظر عن نشره أو عدم نشره في الجريدة الرسمية أو أية وسيلة أخرى. وهذا ما أخذ به الاجتهاد القضائي في قضية الزيوت المسمومة )21 أبريل 1961(

وإلى جانب الخطب الملكية المحصنة، فإن جميع التصرفات الصادرة من جلالته في صورة ظهير أو مرسوم كيفما كانت طبيعتها تشريعية أو تنظيمية،سواء في الحالات العادية أو الاستثنائية، لا يجوز أن تكون محل طعن أو رفض من طرف المحاكم على اختلاف درجاتها.

وترتب على قداسة التصرفات والأقوال الملكية عدة نتائج منها :

1-إضفاء صبغة قانونية ملزمة على جميع القرارات والمواقف والخطب والظهائر الملكية.

2-تحصين كل ما يصدر عن جلالة الملك من قول أو فعل ضد أي نقد أو مسائلة

3-استبعاد الطعن في القرارات الأحادية للملك التي تكتسي طابعا إداريا، انسجاما مع ما ذهبت إليه الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في بعض أحكامها، ونذكر منها على سبيل التوضيح ما عرف بقرار مزرعة عبد العزيز المتعلق برفض الطعن في مرسوم ملكي موقع من طرف الوزير الأول بناء على تفويض بالتوقيع، حيث رفضت الغرفة الإدارية بالمجلس اعتبار الملك سلطة إدارية، وبالتالي لا يجوز النظر في الطعون الموجهة ضد قراراته ولتصحيحالأمريمكن لصحاب الشأن اللجوء إلى جلالته على سبيل الاستعطاف

ومن الحيثيات التي استندت عليها الغرفة الإدارية تعارض صفة أمير المؤمنين الواردة في الفصل التاسع عشر مع إمكانية اعتبار سلطته إدارية . وقد وجد هذه التوجه القضائي دعمه من طرف بعض رموز الفقه الدستوري التقليدي.

والواقع أن مفهوم القداسة المتعلقة بالتصرفات الملكية بهذه المعاني والنتائج تجعل الحائز عليها متمتعا بحصانة مطلقة في كل أقواله وأفعاله، و تدفع البعض إلى إثارة وجود تيوقراطية في ممارسة السلطة ولو تلميحا لا تصريحا، مما يثير انتقادا له من جهة عدم ملاءمته مع الطبيعة النسبية للسلوك السياسي الإنساني الذي يحتمل الخطأ والصواب ومقتضيات الديموقراطية، ومن جهة تعارضه مع التأويل الديني السني للحكم ، بما هو تأويل يرفض فكرة عصمة تصرفات الحاكم في جوهرها.

بيد أن هذا الانتقاد الافتراضي يمكن الاعتراض عليه بالتأكيد على ضرورة النظر إلى أهمية الدلالة الدستورية المحصنة لتصرفات محددة للملك في نطاق الدستور والمصلحة العليا للبلاد على أنها تشكل قاعدة جوهرية تنسجم مع واقع التجارب الدستورية الديموقراطية و تساهم في حفظ الاستقرار السياسي لما تضفيه من رمزية ومكانة خاصة تليق بالمقام التحكيمي المفترض للملكية وتبعد عنها الصراع والمزايدات السياسية.

وقد بات من الواجب العصري والديموقراطي وتماشيا مع الإرادة الملكية السامية في خطاب 09 مارس الجرأة في تحجيم نطاق التصرفات والأعمال التشريعية والتدبيرية للملكية تقديرا لعبئ مسؤوليتها التي تسمو على تقلبات الزمن التشريعي والتدبيري و لصالح إقرار وتكريس المسؤولية السياسية والإدارية لباقي الفاعلين وتمييزها عن بعض المجالات والأعمال المحفوظة للملك والتي لا غنى عنها في كل الأحوال لتحقيق استمرارية سمو الثوابت الوطنية وتوسيع نطاق المحاسبة ورفع الحجب التي يمكن التحصن بها للإفلات من المحاسبة والعقاب.

ولئن كانت فكرة حصانة بعض الأعمال والتصرفات الدستورية الملكية الضامنة لرمزية التحكيم وحفظ حقوق وحرية الجميع ، بغض النظر عن تباين المواقف في تصور نطاقها، تحظى بإجماع غالبية القوى السياسية وقبول طوعي وتلقائي في المطالب الدستورية و السياسية الوطنية، فذلك لما تتميز به من صلابة دستورية وضرورة سياسية لا محيد عنها في كل الأحوال لاستبعاد المسؤولية السياسية للملك مقابل إبراز المسؤولية السياسية للوزير الأول باعتبارها حجر الزاوية ونقطة ارتكاز النظام البرلماني الديموقراطي.