دراسة مقارنة بين جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء في القانون اللبناني(1)

عدنان عضوم، السفير

إن جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء هما من الجرائم التي تدخل في باب الجرائم المخلَّة بالإدارة القضائية، الفصل المعنون «في الجرائم المخلَّة بسير القضاء» من قانون العقوبات اللبناني.

سنقوم في القسم الأول بعرض التعريف القانوني لكل من جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء، عقوبتها وعناصرها القانونية وإجراءات الملاحقة الجزائية لكل منهما، مع إجراء مقارنة بين الأحكام التي ترعى كلاً من هاتين الجريمتين، ومن ثم سنحدِّد في القسم الثاني أيّا من أحكام هاتين الجريمتين تطبَّق على أفعال الأشخاص المستمعين لدى لجنة التحقيق الدولية المستقلة والشهود المستمعين أمام المحقق العدلي اللبناني والذين أدلوا بإخبارات وبمعلومات كاذبة أو ذات مصداقية مشبوهة»Crédibilité douteuse» تتعلق باتهام بعض الأشخاص بالاشتراك بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005، والمرجع القضائي المختصّ للنظر في هذه الجرائم.

I – الأحكام القانونية التي ترعى كلا من جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء والمقارنة بينهما

ألف: التعريف القانوني لكل من الجريمتين وعقوبة كل منهما
ـ أ عرّفت المادة 408 (فقرة أولى) من قانون العقوبات اللبناني جريمة شهادة الزور على الوجه الآتي: «من شهد أمام سلطة قضائية أو قضاء عسكري أو إداري فجزم بالباطل أو أنكر الحق أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات»
«إذا أدّيت شهادة الزور في أثناء تحقيق جنائي أو محاكمة جنائية قضي بالأشغال الشاقة عشر سنوات على الأكثر.

وإذا نجم عن الشهادة الكاذبة حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها خمسة عشر سنة»
«إذا كان المجرم قد استمع مندون أن يحلف اليمين خفض نصف العقوبة»

وقد نصت المواد 409، 410 و411 من القانون المذكور على حالات يعفى منها الشاهد من العقوبة أو يخفض نصف العقوبة مما يعني أنه تتم ملاحقته جزائياً بجرم شهادة الزور إلا أنه يُعفى من العقوبة في حال ثبت ارتكابه هذه الجريمة.

أما بالنسبة لتعريف جريمة الافتراء فقد نصت المادة 403 من قانون العقوبات اللبناني على ما يلي «من قدم شكاية أو إخباراً إلى السلطة القضائية أو إلى سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية فعزا إلى أحد الناس جنحة أو مخالفة يعرف براءته منها أو اختلق عليه أدلّة مادية على وقوع مثل هذا الجرم عوقب بالحبس من شهر إلى ثلاث سنوات».

«إذا كان الفعل يؤلف جناية عوقب المفتري بالأشغال الشاقة المؤقتة عشر سنوات على الأكثر»، «وإذا أفضى الافتراء إلى حكم بالإعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص عقوبة الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن إبلاغها إلى خمسة عشر سنة»

ونصت المادة 404 من القانون المذكور أنه إذا رجع المفتري عن افترائه قبل أية ملاحقة خفضت العقوبات المنصوص عليها في هذه النبذة وفقاً لما جاء في المادة 251، وهذه المادة الأخيرة تتعلق بالأعذار المخففة.

باء: العناصر القانونية لكل من جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء والمقارنة بينها

-1- إن عناصر جريمة شهادة الزور وفقاً لأحكام قانون العقوبات اللبناني هي التالية:
– شهادة أديت أمام القضاء
– كذب هذه الشهادة أي تغييرها للحقيقة
– الضرر الموجود أو المحتمل
– القصد الجرمي

سنبيِّن في ما يلي ماهية هذه العناصر القانونية:

(ألف)- يجب أن تكون الشهادة قد أديت أمام سلطة قضائية في دعوى جزائية أو مدنية أو إدارية تنظر فيها هذه السلطة، ويكون الشاهد قد استدعي فيها بناءً لطلب أحد الخصوم وبقرار من المرجع القضائي. وتقتضي الملاحظة هنا أن القانون الفرنسي وبخلاف القانون اللبناني اعتبر أن الشهادة كاذبة عندما تتم تحت القسم أمام القضاء، وفي حالة واحدة وخلافاً للقانون اللبناني تعتبر كاذبة إذا كانت تحت القسم، أمام الضابطة العدلية التي تنفذ استنابة قضائية وتعاقب قانوناً كما نصت على ذلك المادة 434/13 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد.

أما بالنسبة لوجوب حلف اليمين القانونية من قبل الشاهد عند الإدلاء بشهادته أمام القضاء فقد نصت عليه أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني في المادة 87 لدى قاضي التحقيق والمادة 181 أمام القاضي المنفرد الجزائي والمادتين 248 و 255 لدى محكمة الجنايات التي تتناول إجراءات الإدلاء بالشهادة أمام هذه المراجع القضائية. إلا أنه في حال أديت الشهادة الكاذبة أمام القضاء من دون حلف اليمين القانونية لأنه سها عن بال القاضي القيام بذلك، أو لوجود عقبات قانونية تحول دون تحليف الشاهد اليمين القانونية (المادة 82 من قانون أصول محاكمات جزائية) فإن الجريمة متحققة، إلا أن العقوبة تخفض إلى النصف، وفقاً لنص المادة 408 فقرة أخيرة من قانون العقوبات اللبناني المشار إليها أعلاه. أما في القانون الفرنسي فإنه يشترط حلف اليمين القانونية لتحقق جريمة شهادة الزور.

(باء)- بالنسبة لعنصر كذب الشهادة أي مخالفتها للحقيقة، فإن إثبات هذا الأمر يعود لتقدير القاضي الجزائي المرفوع أمامه دعوى شهادة الزور، وعند بحثه في مدى صحة أو كذب شهادة الشهود التي أديت أمام المرجع القضائي الآخر وتقديرها، فإنه غير مقيد في ذلك برأي الجهة القضائية التي أديت الشهادة أمامها ويمكن أن يأتي تقديره لتلك الشهادة مخالفاً لرأي هذه الجهة القضائية، والقول عكس ذلك يترتب عليه تعطيل المبدأ القاضي بمعاقبة شهود الزور في حال لم تكتشف جريمتهم قبل الفصل في الدعوى التي أدوا بشهادتهم فيها (يراجع بهذا المعنى موسوعة جندي عبد الملك الجزء (4) ص-472- رقم 24)

(جيم)- عنصر الضرر الموجود أو المحتمل بحيث إنه لا يشترط للعقاب على شهادة الزور أن يكون الضرر قد تحقق فعلاً بل يكفي أن يكون الضرر محتملاً، ومن ثم لا يتوقف العقاب على النتيجة الفعلية التي ترتبت على شهادة الزور بل يكفي تقرير شهادة كاذبة لصالح متهم أو عليه مهما كان تأثير هذا الكذب على نتيجة الدعوى، حتى لو سَلِمَ القضاء من الوقوع في خطأ الشهادة الكاذبة واستبعد هذه الشهادة ولكن بمجرد ثبوت أنه كان من المحتمل أن تؤثر هذه الشهادة الكاذبة على قرار القضاء يتحقق عنصر الضرر.

(دال) – عنصر القصد الجرمي: إن شهادة الزور هي من الجرائم المتعمدة بحيث يجب أن يتوافر فيها القصد الجرمي. فإن القانون لا يعاقب الشاهد إذا أخطأ بل يعاقبه إذا كذب عن علم وإرادة، ويعتبر القصد الجنائي متوافراً متى تعمد الشاهد تغيير الحقيقة بقصد تضليل القضاء، وقد يكون مدفوعاً إلى ذلك بعامل الأضرار بالمتهم أو بعامل الاستفادة المادية إذا كان أدى هذه الشهادة مقابل بدل مادي أو وعد مهما كان نوعه.

-2- عناصر جريمة الافتراء:

إن عناصر جريمة الافتراء هي التالية:
– إخبار أو شكاية بصورة عفوية إلى سلطة قضائية أو سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية.
– أن يكون الأمر المبلَّغ عنه كاذباً.
– أن يكون الأمر مستوجباً لعقوبة.
– أن يكون البلاغ بوجهيه قد حصل عن سوء نية.

(ألف)- استناداً إلى التعريف القانوني لجريمة الافتراء، يُشترط أن يكون الإخبار أو الشكوى عن الأمر المعاقب عليه جزائياً قد تم بصورة عفوية لدى سلطة قضائية أو أي سلطة عليها إخبار السلطة القضائية، وهذا العنصر القانوني يختلف عن العنصر القانوني في جريمة شهادة الزور التي تشترط إبداء الشهادة أمام السلطة القضائية حصرياً وفقاً للأصول القانونية، أو بناءً لطلب المرجع القضائي ووفقاً لسلطته الاستنسابية، أو بناءً على طلب أحد الخصوم.

(باء)- إن القانون اللبناني لم يذكر صراحة الوسائل الثبوتية الواجب اعتمادها للتحقق من كذب الإخبار أو اختلاق الأدلة المادية بحق المفترى عليه في حين أن قانون العقوبات الفرنسي الجديد أورد في المادة 226/10 المتعلقة بجريمة الافتراء أن كذب الأمر المبلَّغ عنه ينتج حتماً في حال صدور قرار نهائي يقضي بالبراءة أو بالترك أو منع المحاكمة، يُعلن أن صحة الأمر المبلَّغ عنه غير ثابتة أو أن الشخص المبلَّغ عنه لم يرتكب هذا الأمر، أما في أي حالة أخرى، فإن المحكمة الواضعة يدها على الدعوى ضد المبلَّغ تقدر مدى صحة الشكوى أو الأمر المبلَّغ عنه.

Art 226-10 Nouveau Code Pénal de la Dénonciation Calomnieuse:
« La fausseté du fait dénoncé résulte nécessairement de la décision, devenue définitive, d’acquittement de relaxe ou de non-lieu déclarant que la réalité du fait n’est pas établie ou que celui-ci n’est pas imputable à la personne dénoncée.
En tout autre cas, le tribunal saisi des poursuites contre le dénonciateur apprécie la pertinence des accusations portées par celui-ci ».

في ظل عدم وجود نص في القانون اللبناني مماثل للنص الفرنسي نرى اعتماد المبادئ المقررة في القانون الفرنسي وتطبيقها، بحيث إنه في حال ملاحقة المفتري بالاستناد إلى حكم نهائي ببراءة المفترى عليه أو بقرار نهائي يقضي بمنع المحاكمة عنه، فإن مثل هذه القرارات القضائية تنتج قرينة مطلقة على ثبوت عنصر كذب الشكاية أو الإخبار المبلَّغ عنه، وبحيث إن القاضي الناظر بدعوى الافتراء يعتمد هذه القرارات للتحقق من عنصر كذب الإخبار أو اختلاق الأدلة المادية الكاذبة من دون أن يكون له سلطة في تقدير الوقائع والأفعال التي تكون قد صدرت على أساسها هذه القرارات القضائية، لأن الفصل بها يشكل مسألة أولية يعود أمر النظر بها إلى المرجع الجزائي المختص الواضع يده على القضية الأساسية. وإن الوضع القانوني يختلف عندما يصدر في الدعوى الجزائية الأساسية قرار قضائي بحفظ الملاحقة الجزائية وبحفظها لوجود استحالة قانونية تحول دون متابعة الشكوى الأساسية بسبب مرور الزمن، أو وفاة المفترى عليه، أو إقرار المفتري، أو شمول الفعل بالعفو، في هذه الحالات لم تعد هناك من مسألة أولية تتصدى للحكم في دعوى الافتراء، ويستعيد القاضي الناظر بدعوى الافتراء سلطانه في تقدير الوقائع وظروف القضية والمستندات التي على أساسها بني قرار الحفظ لِيُكوِّن قناعته، ويتحقق من صحة أو كذب الإخبار أو الشكوى أو الأدلة المادية المبلَّغ عنها.

يراجع بهذا المعنى:

«En cas de classement sans suite d’une plainte, les juridictions doivent apprécier la pertinence des accusations postées par la personne à qui la dénonciation calomnieuse est reportée »
– Annotation sous l’art. 226-10 – Nouveau code pénal français no 44 (preuve par appréciation)
من المقارنة بين عنصر كذب شهادة الزور وعنصر كذب الإخبار أو الشكوى في جريمة الافتراء، يتبيَّن أن إثبات توافر هذا العنصر في جريمة شهادة الزور يعود تقديره لسلطان القاضي المطلق الذي ينظر في دعوى شهادة الزور، أما في جريمة الافتراء فإنه بالنسبة لعنصر كذب الإخبار يكون القاضي الذي ينظر في جريمة الافتراء ملزم في بعض الحالات باعتماد نتيجة القرار القضائي في الدعوى الأساسية، وله سلطة التقدير للوقائع والأفعال للتثبت من عنصر الكذب في حالات أخرى حسب طبيعة القرار القضائي الصادر في الدعوى الأصلية كما سبق وبيَّنا أعلاه.

(جيم) – كون الأمر المبلَّغ عنه مستوجباً للعقوبة:
إن المادة 403 نصت صراحةً على وجوب أن يكون الإخبار يتناول جناية أو جنحة أو مخالفة معاقب عليها. لذلك إذا تضمن البلاغ الكاذب إسناد أمر موجب لاحتقار المبلغ ضدّه أو الازدراء به فلا جريمة ولا عقاب.

(دال)- عنصر القصد الجرمي:
نصت المادة 403 على وجوب توافر لدى المبلغ علمه ببراءة المُبلَّغ ضدّه من الأمر المنسوب إليه ويفهم من ذلك وجوب توافر لدى المبلغ نيّة الإضرار بمن بلّغ ضدّه لإثبات توافر القصد الجنائي في جريمة الافتراء.

ج: إجراءات الملاحقة الجزائية في كل من جريمة شهادة الزور وجريمة الإفتراء والمقارنة بينهما
-1- الملاحقة الجزائية في جريمة شهادة الزور:

وردت في أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية إجراءات الملاحقة الجزائية بحق الشاهد الذي يدلي بإفادة كاذبة أمام القضاء في كل من مرحلتي التحقيق والمحاكمة:

– في مرحلة التحقيق لدى قاضي التحقيق نصت المادة 89 أ.م.ج أنه إذا جرم الشاهد بالباطل وأنكر بحقيقة وكتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يسأل عنها، فيحيل قاضي التحقيق المحضر الذي دونت فيه إفادته إلى النيابة العامة الاستئنافية لتلاحقه بجريمة شهادة الزور المنصوص عليها في المادة 408 من قانون العقوبات، وفي هذه الحالة للقاضي، بما له من حق لتقدير الأدلة ووفقاً لقناعته، عدم اعتماد هذه الشهادة في القرار الذي سينتهي إليه في القضية.
– أما في مرحلة المحاكمة واستناداً إلى المادة 188 أصول محاكمات جزائية إذا تبين للقاضي أن الشاهد يدلي بإفادة كاذبة، فيكلف قوى الأمن بوضعه في نظارة المخفر ويضع تقريراً يرفعه إلى النائب العام الاستئنافي في هذا الشأن، وللنائب العام أن يلاحق هذا الشاهد بجرم شهادة الزور حسب الأصول. وفي هذه الحالة، يمكن للقاضي استئخار البت في القضية لحين الحكم في دعوى شهادة الزور أو إهمال هذه الشهادة بما له من حق تقدير مطلق للأدلة ومتابعة الدعوى الموجودة لديه من دون انتظار نتيجة دعوى شهادة الزور.

– في حال أديت شهادة الزور أمام محكمة الجنايات بحيث ظهر للمحكمة تباين أو تغيير في إفادة الشاهد المستمع لديها، فإنها تباشر بحق هذا الشاهد الإجراءات المنصوص عليها في المادة 261 أصول محاكمات جزائية وهي التالية: يتولى ممثل النيابة العامة الادعاء بشهادة الزور ويتم انتداب مستشار من المحكمة للتحقيق معه في جريمة الزور وتبدي النيابة العامة مطالعتها وترفع الملف إلى الهيئة الاتهامية، وإذا قررت هذه الأخيرة اتهام الشاهد بجناية شهادة الزور تفصل محكمة الجنايات فيها قبل أو مع الدعوى الأصلية.

– وعند الادعاء بشهادة الزور على الوجه المبين أعلاه، يكون لكل من ممثل النيابة العامة والمدعي الشخصي والمتهم أن يطلب إرجاء الجلسة في الدعوى الأصلية إلى حين الفصل في دعوى شهادة الزور. تبتّ المحكمة في الطلب. كما يعود للمحكمة أن تقرر ذلك من تلقاء نفسها وذلك سنداً للمادة 262 أصول محاكمات جزائية.

– أما في حال لم يكتشف أن الشهادة المدلى بها أمام القضاء هي كاذبة إلا بعد صدور الحكم النهائي فتبقى ملاحقة شاهد الزور جائزة أمام القضاء الجزائي المختص، وإذا صدر حكم مبرم بأن الشهادة كاذبة يحق للمحكوم عليه استناداً إلى هذا الحكم طلب إعادة المحاكمة سنداً للمادة 328 فقرة (ج) أصول محاكمات جزائية.

ويتبيَّن بالتالي أن جريمة شهادة الزور تشكل جريمة قائمة بحدّ ذاتها وأن المشترع اللبناني لم يعلّق قيام جريمة شهادة الزور وملاحقتها ومعاقبتها على اقتناع السلطة القضائية بما ورد في هذه الشهادة والحكم بالاستناد إليها، إذ أنه تتم الملاحقة، حتى لو لم تقتنع بها المحكمة الناظرة في الدعوى الأصلية، ولم تستند إلى هذه الشهادة في حكمها، وتُفرض العقوبة على مرتكب جريمة شهادة الزور حتى لو لم يستند عليها الحكم بالإدانة أو بالتبرئة، ما دام أن عنصر الأضرار بالمتهم كان محتملاً وقوعه، وأن هذه الجريمة قد أخلَّت بحسن سير العدالة وأدَّت إلى تضليل القضاء.

-2- الملاحقة الجزائية في جريمة الافتراء:

أما بالنسبة لجريمة الإفتراء المنصوص عليها في المادة 403 عقوبات، فإن المشترع لم يشترط لقبول دعوى الافتراء صدور حكم بالبراءة أو قرار بأن لا وجه لإقامة الدعوى، أو قرار بحفظها، حتى إنه لم يشترط حصول تحقيق قضائي بشأن الواقعة المبلغ عنها. إن إقامة دعوى بحق المفتري الذي قدم إخباراً كاذباً ونسب إلى شخص مخالفة أو جنحة أو جناية يعرف براءته منها يمكن أن تتم في الحالات التالية:

(ألف)- الحالة الأولى: إقامة دعوى الافتراء بعد صدور حكم نهائي من المحكمة المختصة ببراءة المفترى عليه مما أسند إليه أو بعد صدور قرار عن قاضي التحقيق والهيئة الاتهامية مبرم بمنع المحاكمة، «non-lieu» يعلن فيه أن الأمر الُمبلغ عنه غير صحيح، أو أن المبلغ ضدّه لم يرتكبه. وفي هذه الحالة يكون الحكم بالبراءة أو القرار بمنع المحاكمة قوة القضية المحكمة في ما يتعلق بثبوت كذب الأمر المبلغ عنه ويجب على المحكمة الناظرة بدعوى الافتراء أن تحكم بمعاقبة المفترى متى تحققت من توافر عناصر الجريمة الأخرى من دون أن يكون لها أي سلطة في تقدير الوقائع والأدلة في الدعوى الأصلية.

– أما في حال وجود أمر بالحفظ أو عدم الملاحقة صادر عن النيابة العامة لعدم كفاية الدليل وبسبب سقوط الدعوى بمرور الزمن، أو بالعفو، أو بوفاة المفترى عليه، إلخ…

فإن هذا الأمر لا يمنع المحكمة الناظرة في دعوى جريمة الافتراء من بحث الوقائع وإجراء التحقيقات اللازمة وتقدير الأدلة وظروف القضية لاتخاذ القرار المناسب لجهة كذب الإخبار أو عدم كذبه، والبت بالتالي بدعوى الافتراء دون أن تكون ملزمة بما صدر في الدعوى الأصلية لهذه الجهة.

(باء)- الحالة الثانية: إذا قدمت دعوى الافتراء أثناء النظر في الدعوى الجزائية الخاصة بموضوع الإخبار نفسه يجب على المحكمة التي قدمت إليها دعوى الافتراء انتظار الفصل في دعوى موضوع الإخبار قبل الحكم بدعوى الافتراء لعدم حصول تناقض في الأحكام، وكون التحقق من توافر عنصر كذب الإخبار في جريمة الافتراء هو مسألة أولية ويتوجب استئخار البت بدعوى الافتراء لحين البت بهذه المسألة القانونية في دعوى الأساس الخاصة بموضوع الإخبار.
(جيم) – الحالة الثالثة: في حال قدمت دعوى الافتراء قبل إجراء أي تحقيق قضائي عن الوقائع التي تضمنها الإخبار ففي هذه الحالة لا تكون المحكمة ملزمة بتعليق الفصل في دعوى الافتراء إلى أن يثبت كذب الإخبار لدى السلطة المختصة، بل يكون لها أن تحقق بنفسها في الوقائع التي تضمنها الإخبار وتقدرها للوصول إلى قناعة للحكم بإثبات كذب الإخبار أو صحته.

II – مدى تطبيق الأحكام القانونية لكل من جريمة شهادة الزور وجريمة الافتراء على الأفعال المشتبه ارتكابها في ملف التحقيق في جريمة إغتيال الرئيس الحريري استناداً إلى النصوص والمبادئ القانونية، التي بيَّناها في القسم الأول كيف يمكن ملاحقة المشتبه بادلائهم بإفادات كاذبة في ملف التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.

-1- بالنسبة للأشخاص المستمعين من قبل المحقق العدلي اللبناني

– إن الأشخاص المستمعين أمام قاضي التحقيق العدلي في قضية اغتيال الرئيس الحريري هم بالمعنى القانوني المُعرَّف عنه في قانون العقوبات اللبناني المادة 408 شهود تطبق على شهادتهم في حال ثبوت أنها كاذبة أحكام هذه المادة وإن عدم حلف اليمين من قبل الشاهد أمام هذا القاضي يشكل سبباً مخففاً للعقوبة ولا يمنع المعاقبة على شهادة الزور.

وتبيَّن من مراجعة المعلومات المتوافرة والمذكورة في تقرير وزير العدل إبراهيم نجار المرفوع إلى مجلس الوزراء مؤخراً أن المحقق العدلي ولدى استماعه إلى شهود أثناء التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري أنه ادعى على اثنين منهما بشهادة الزور سنداً إلى المادة 408 عقوبات. أما بالنسبة للثالث، فقد أحال إفادته إلى لجنة التحقيق الدولية للتثبت من صحة أقواله ولم يعط التقرير المذكور أية معلومات حول مصير هذه الادعاءات والإجراءات بخصوص شهود الزور. ولا يمكننا بالتالي إبداء الرأي القانوني بهذا الموضوع، إلا أنه يقتضي التأكيد أنه يجب أن تكون هذه الادعاءات الجزائية قد أحيلت إلى المرجع القضائي المختص وفقاً للمادة 89 أصول محاكمات جزائية المشار إليها أعلاه باعتبارها تشكل جرائم قائمة بحدّ ذاتها يستوجب التحقيق فيها لمعرفة المشتركين والمحرضين وملاحقتهم قضائياً، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على كل الشهود الآخرين المستمعين لدى قاضي التحقيق العدلي في حال ادعى عليهم بجرم شهادة الزور أحد الفرقاء المتضررين من الشهادة الكاذبة أثناء التحقيق العدلي.

-2- بالنسبة للأشخاص الذين أدلوا بإفادات لدى لجنة التحقيق الدولية الخاصة أو لدى الضابطة العدلية اللبنانية

إن الأشخاص المشتبه بإدلائهم بإخبارات ومعلومات كاذبة أمام لجنة التحقيق الدولية ولدى الضابطة العدلية اللبنانية، وباختلاق أدلة مادية نسبوا بموجبها إلى أشخاص يعرفون براءتهم منها جناية الاشتراك في اغتيال الرئيس الحريري تُطبق عليهم أحكام جريمة الافتراء المنصوص عليها في المادة 403 من قانون العقوبات اللبناني. وإن الملاحقة الجزائية بحق المشتبه بهم بارتكاب جريمة الافتراء والمحرضين والمتدخلين والشركاء تطبق عليها الحالة الأولى المشار إليها سابقاً في الفقرة (ج) المتعلقة بإجراءات الملاحقة الجزائية في جريمة الافتراء للأسباب التالية:

إن الإخبار والمعلومات الكاذبة التي أدلى بها بعض الأشخاص والأدلة المادية التي اختلقها البعض الآخر في قضية اغتيال الرئيس الحريري أدت إلى ادعاء قاضي التحقيق العدلي بحق أربعة رؤساء لأجهزة أمنية لبنانية وآخرين بجرائم القتل والإرهاب والتفجير، وتوقيف هؤلاء الأشخاص لمدة تقارب الأربع سنوات في 25/3/2009. تنازلت السلطة القضائية اللبنانية عن اختصاصها في قضية اغتيال الرئيس الحريري لصالح المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وأحالت نتائج التحقيق اللبناني ونسخة عن سجلات المحكمة إلى المدعي العام لدى المحكمة سنداً لأحكام المادة الرابعة من نظام المحكمة الأساسي.

بتاريخ 15/4/2009، أصدر قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة الدولية أمراً يطلب فيه من المدعي العام لدى هذه المحكمة أن يشير لكل شخص محتجز في لبنان في قضية اغتيال الرئيس الحريري ما إذا كان يرغب باستمرار توقيفه أو لا يعارض إطلاق سراحه مع الإشارة إلى أن هؤلاء المحتجزين هم الضباط الأربعة المشار إليهم أعلاه بعد إطلاق سراح الموقوفين الآخرين في هذه القضية من قبل القضاء اللبناني الناظر في القضية آنذاك. وبعد إطلاع قاضي الإجراءات التمهيدية على مطالعة المدعي العام بهذا الموضوع أصدر بتاريخ 27/4/2009 قراراً قضى بموجبه إطلاق الموقوفين فوراً وذلك وفقاً لطلب المدعي العام لأن الأدلة والإفادات والمعلومات الموجودة في الملف والمتعلقة بالتورط المحتمل للأشخاص الأربعة الموقوفين (أي الضباط اللبنانيون الأربعة) في الهجوم على الرئيس الحريري ليست موثوقاً بها بما فيه الكفاية لتبرير إيداع قرار اتهام في حق أي منهم.

– إن القرار المشار إليه أعلاه صادر عن قاضي الإجراءات التمهيدية الذي له في النظام القضائي الأنغلوسكسوني ذات مهام قاضي التحقيق في النظام القضائي اللبناني وهو قرار مبرم لعدم الطعن به من أي جهة لها الحق بذلك.

– على ضوء ما أوردناه أعلاه في القسم الأول من الدراسة، فإنه يمكن للمفترى عليهم إقامة دعوى بجرم الافتراء بحق المشتبه بهم من فاعلين ومشتركين ومحرِّضين لعزومهم أمورا كاذبة إلى المفترى عليهم واختلاق أدلة مادية غير صحيحة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ويعود للمحكمة الناظرة في هذه الدعوى الجزائية حق تقدير قوة قرار قاضي الإجراءات التمهيدية الثبوتية فإما أن تعتبره قرينة مطلقة وتبني حكمها على أساسه، أو أنها تعتبر أنه لا ينتج عنه قرينة مطلقة بثبوت عنصر الكذب في الإخبار والأمور المختلفة بحق المفترى عليهم فتقوم هي بذاتها بإجراء التحقيق والبحث في الوقائع وتقدير الظروف والأدلة المتوافرة لديها لاتخاذ القرار المناسب لجهة تحقق وثبوت العناصر الجرمية اللازمة لتوافر جريمة الافتراء.
إبلاغ إساءة