الفتوى القانونية أين نجدها؟

محمد بن سعود الجذلاني

بدايةً كان عندي تردد في استخدام مصطلح ( القانونية ) في هذا المقال ، لما لهذه الكلمة من حساسية لدى البعض ، ثم عزمت على أن أمضي في الكتابة وفق قناعاتي لما أرى أنه لا محذور فيه شرعاً، وأن ألقي بالوهم جانباً ، إذ لم يعد من المقبول أن تمضي بنا القرون ونحن ما نزال نعاني من فوبيا القانون .

ويبدو أن هذه الفوبيا القديمة المستمرة هي السبب الرئيس وراء تأخرنا الكبير، وتخلفنا عن ركب الدول النامية فضلاً عن المتقدمة في الثقافة القانونية وفي احترام القوانين وفي إجادة التعامل معها صناعة ً وتطبيقا ، لأننا ما نزال نرفض كلمة قانون ونعتبرها من الكبائر ، بل حتى الشريعة لدينا ما تزال منطقة واسعة بلا حدود يأخذ منها كل قاض ما يراه بينما يأخذ زميله ما يناقض اجتهاده ، وهكذا تمضي العجلة بنا باسم الشريعة .

أما الفتوى القانونية فليس لدينا في المملكة وزارة تختص بها ، وكلُّ وزارة تتولى بنفسها تفسير ما يخصها من أنظمة برؤيتها الخاصة ولو بعيداً جداً عن مفهوم النص النظامي ، بل إن الأدهى من عدم وجود وزارة تتولى الفتوى القانونية ، عدم إدراك كثير من الوزارات والجهات الحكومية لأهمية الفتوى القانونية، وحاجتهم إليها ، فهم لا يجدون حرجاً كبيراً في أن يكون فهمهم وتطبيقهم لأي مادة نظامية صحيحاً، بل يكفي أن يكون موافقاً لرأي الوزير أو المسؤول أو رؤيته حتى لو كان تخصصه الزراعة أو الصناعة أو أي تخصص سوى القانون .
وكذلك الحال بالأفراد من الناس حين يحتاج أحدهم إلى معرفة المقصود من نص نظامي يتعلق به في عمل من أعماله أو يتوقف حفظ حقوقه عليه ، أو حتى لم يكن له معرفة بالنص ويجهل حكم َ هذا الفعل الذي ينوي القيام به ، فإنه لا يجد ولا يعرف جهة تتولى إفتاءه في هذه الأحوال.

وحاجة الناس إلى معرفة الأنظمة وفهمها لا يمكن فصلها عن حاجة الدولة لاحترام أنظمتها وتطبيقها ، إذ لا يمكن لنا أن نصل لمرحلة التطبيق والاحترام للنظام دون شيوع معرفته وفهمه بين الناس، وتوفيره لهم عند الحاجة إليه من جهة معتمدة موثوقة تختص بذلك.

ثم إن حاجة الدولة بمرافقها ووزاراتها وإداراتها إلى الفتوى القانونية الصحيحة لا يمكن حصرها في صورة أو مجموعة ِ صور ، فالدولة تحتاج إلى فهم قوانينها وأنظمتها التي وضعتها وتطبيقها بشكل صحيح تماماً ، كما أنها تحتاج إلى معرفة التطبيق الصحيح لقوانين الدول الأخرى التي تتعامل معها عند الحاجة إلى ذلك ، ومعرفة الحكم القانوني الصحيح أيضاً في حالات العقود التي تكون الدولة طرفاً فيها ، كما تحتاج إلى المعونة والرأي القانوني كثيراً في موضوعات الاتفاقيات الدولية المشتركة أو الثنائية مع الدول الأخرى .
ولو أن لدينا وزارةً مختصة لهذا الغرض لكان أول المستفيدين منها جميع الوزارات التي تحتاج إداراتها القانونية بشكل خاص إلى المعونة القانونية الاستشارية والإفتاء في الحالات الُمشكلة عليهم أثناء قيامهم بأعمالهم أو ما يواجهونه من إشكالات في الدعاوى المرفوعة ضد وزاراتهم ، ولكان كل وزير أو مسؤول يلجأ لتلك الوزارة المختصة ليستفتيها في أي عمل أو قرار يرغب إصداره ، ومدى مشروعيته النظامية من عدمها.

وفي حال وجدتْ مثل هذه الوزارة فيمكن أيضاً أن يُعهد إليها بمراجعة أي لائحة تنفيذية لنظام أو لائحة تنظيمية لها طبيعة العموم؛ بحيث لا يسمح لأي وزارة أن تصدر شيئاً من ذلك إلا بعد عرضه على وزارة الشؤون القانونية وموافقتها عليه أو مشاركتها في صياغته ، وكذلك الحال في قضايا التحكيم التي تكون إحدى الوزارات أو الجهات الحكومية طرفاً فيها فيكون لوزارة الشؤون القانونية إشراف ومشاركة فيها.

وهناك الكثير والكثير من الاختصاصات المهمة التي قد تكون موزعة بين عدة جهات حكومية حالياً ، أو مهدرة لا يوجد لها جهة ترعاها ؛ يمكن أن تُجمع كلُها وتعطى لوزارة الشؤون القانونية المقترحة .
ولعل من أبرز الجهات التي تتولى حالياً مهمة الإفتاء القانوني أو تقديم الاستشارة القانونية ديوان المظالم ، وهيئة الخبراء بمجلس الوزراء – وهذه يمكن أن تكون هي النواة لوزارة الشؤون القانونية وتنفصل عن مجلس الوزراء، وتقوم بأعمالها بهذه الصفة الجديدة – وكذلك وزارة الخدمة المدنية في تفسير أنظمة الخدمة المدنية ، ووزارة المالية في عقود الدولة وتطبيقاتها .. وغيرها من الوزارات .
وبهذا يتحقق لدينا فصل تام – وهو المطلوب – بين التنظيم وتفسير الأنظمة والإفتاء في المواضيع النظامية ، وبين التطبيق والتنفيذ الذي يجب أن يقتصر دور الوزارات الأخرى عليه .

ولعل من أبرز فوائد إيجاد مثل هذه الوزارة أيضاً : 

– تقديم الخدمات الاستشارية والدراسات والرأي القانوني لمجلس الشورى بما يساعده كثيراً على أداء عمله بأحسن الوجوه.
– توفير فرص العمل لعدد كبير من أبنائنا المبتعثين خاصة دارسي القانون.
– إشاعة الثقافة القانونية وتنمية احترام الأجهزة الحكومية أولاً للنظام، وإدراك المسؤولين لأهمية الاستفتاء النظامي قبل قيامهم بأي عمل قد يرتب ُ ضرراً ومن ثم َّ تعويضاً على وزارته.
ولاشك أن تفعيل عمل هذه الوزارة سيكون له آثار كبيرة في الحفاظ على المال العام، وحماية الخزينة العامة التي يذهب جزء كبير منها بسبب الجهل وضعف الثقافة القانونية لدى المسؤولين والوزارات ، وأبرز مثال على ذلك ما يصدر من أحكام تعويض ضد هذه الجهات الحكومية.
كما أن هذه الوزارة ستؤثر إيجاباً وبشكل كبير في تحسين صياغة اللوائح التنظيمية والتنفيذية التي تصوغها الوزارات حالياً وفيها من الضعف والركاكة الشيء الكثير ، ما ينعكس سلباً على تطبيقها.
وستكون هذه الوزارة أيضاً خير عون للقضاء عموماً، والقضاء الإداري على وجه الخصوص لما سيكون لها من أثر إيجابي على تقليل التجاوزات النظامية أو على الأقل تحديد المسؤولية عنها عند وقوعها بشكل دقيق لا يضيع معه وقت وجهد القضاء في بحث ذلك..
إلى غير ذلك من فوائد يصعب حصرها وكلها مهمة وضرورية ، وأعتقد أن تنفيذ هذا الاقتراح قد لا يترتب عليه الكثير من الأعباء خاصة في حال الأخذ بفكرة تحويل هيئة الخبراء إلى وزارة للشؤون القانونية ، بما لدى هذه الهيئة من كفاءات وخبرة طويلة يمكن الاعتماد عليهما . ثم إنه مهما كانت تكاليف هذه الوزارة إلا أنها لا تقارن بما لها من فوائد، وبما ستوفره مستقبلاً من أموال للخزينة العامة .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وهو رب العرش الكريم..

*القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً