شخصية المحقق

المؤلف : سلطان الشاوي
الكتاب أو المصدر : اصول التحقيق الاجرامي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

أثر العوامل النفسية على شخصية المحقق :
يجب ان ينظر الى الشخص الإنسانية ككل، اذ ان تكوينها يأتي نتيجة تداخل جميع العوامل المكونة للإنسان من عضوية وغريزية ونفسية، فكل جانب من تلك الجوانب يؤثر ويتأثر بالجوانب الأخرى وتعمل كلها في تكوين الشخصية والتأثير في استجابة الشخص للعوامل أو المؤثرات الخارجية. ويجب كذلك عدم إهمال تأثير البيئة على التكوين النفسي وعلى الشخصية، فعلى ضوء الظروف الخارجية، والعوامل البيئية المختلفة يحاول الشخص تكييف طباعه وصفاته بطريقة تتجاوب مع البيئة المحيطة به ومن هنا تأتي ظاهرة تجاوب الشخص مع المجتمع الذي يعيش فيه (1).

المحقق باعتباره انسانا قد يصيب وقد يخطئ عند القيام بإجراءاته التحقيقية ويعود خطؤه الى عوامل مختلفة أهمها العوامل النفسية، فاذا لم يفطن لهذه العوامل فإنها قد تبعده عن الطريق المؤدي الى الحقيقة، وسنستعرض أهم هذه العوامل تباعاً.
1-التأثر بالرأي العام :
ان المحقق فرد يعيش ضمن جماعة معينة فهو بدون شك يشعر بشعورها ويتأثر بالآراء والأفكار التي تسود فيها. فهو يسمع تعليقات الناس – ومنها الكذب والاختلاق – في بيته وفي ناديه وفي الطريق وعن طريق قراءة الصحف وقد يصيب المحقق من ذلك إيحاءات خطيرة تؤثر بطريقة او بأخرى على سير التحقق وتحرفه عن جادة الصواب (2).
2-تكوين الفكرة السابقة لأوانها :
يحدث كثيرا أن تستولي على المحقق فكرة ما قبل جمع الأدلة ومشاهدة البراهين فيبدأ بتفسير كل ما يراه تفسيرا ينطبق على ما تسلط عليه مقدما، ولا نعني هنا بأن المحقق يعمل على تحرير الحقائق قاصدا ذلك وشاعرا به، بل هو في إيمانه بفكرته التي أخذ بها، يجد ان من حقه ان يضيف بعض التعديلات او يفسر بعض الوقائع والأقوال بحيث تؤيد فكرته وتنسجم معها. وقد يصل به تحمسه في بعض الاحيان حد توجيه الشهود ودفعهم في طريق فكرته، وتكذيب المتهم في كل ما يدلي به مخالفا لهذه الفكرة – وهكذا ينتهي به الأمر لأفظع الأخطاء، وبذلك تشوه معالم الحقيقة (3). إن خير طريقة لضمان الوصول الى الحقيقة هي ألا يبدأ المحقق بتكوين فكرة ما حتى يباشر التحقيق بنفسه ويجمع الأدلة اللازمة، فهو يبدأ بالمعلوم أولاً ويسير خطوة خطوة حتى يصل الى معرفة المجهول حينذاك فقط يمكنه تكوين فكرة صائبة عن ظروف الحادثة التي يحقق فيها (4).

3-الايحاء التوقعي :
يلعب الايحاء التوقعي دورا مهما في تشويه مدركات المحقق وإبعاده عن الواقع فعندما يبدأ بالتحقيق في قضية ما، فإنه في أحيان كثيرة يتأثر لا شعوريا بالقضية التي قبلها والتي سبق ان حقق فيها خاصة اذا كانت تتشابه معها من حيث هيكلها العام وخطوطها العريضة رغم اختلافها معها بالتفاصيل.

فنجده يتوقع ان الباعث على الجريمة الحديثة هو نفس الباعث بالنسبة للجريمة السابقة ويأخذ بعد ذلك بتكملة التفاصيل الجزئية من عندياته مستندا في ذلك الى خبرته السابقة بصورة لا شعورية .. وهكذا يوجه التحقيق وجهة غير صحية بتأثير تلك الإيحاءات التي تكون في معظم الأحيان سببا في ضياع معالم الجريمة. ان المؤثرات الإيحائية لا تظهر في القضايا الواضحة، حيث تكون الأدلة ظاهرة فيها ابتداءا والفاعلين معلومين، الا انها تلعب دورا مهما بالنسبة للجرائم الغامضة حيث الأدلة غير ظاهرة وخاصة المباشرة منها، ولكي لا يتخبط المحقق في التحقيق ويكون نبها للإيحاءات عليه ان يضع لكل جريمة يحقق فيها خطة مدروسة يستطيع عن طريقها معرفة الحقيقة.

4-الترجيح :
يميل المحقق أحيانا الى الأخذ بالفرض الراجح على أنه الحقيقة، وقد لا يكون الحقيقة إلا في أبعد الفروض، فعلى المحقق إذن ان يتعمق في دراسة جميع الفروض وألا يهمل أي واحد منها مهما بدا تافها.

5-التجربة المؤلمة :
ان التجارب والخبرات المؤلمة التي يمر بها المحقق سواء الحديثة منها أم القديمة تؤثر على التحقيق الذي يجريه وتحرفه عن جادة الصواب. فقد وجد ان احد المحققين كان يستعمل قسوة متناهية خلال استجوابه للمتهمين في جرائم الدهس، وبعد التعمق في دراسة حالته غير الاعتيادية هذه وجد بأنه قد مر بتجربة مؤلمة تركت أثراً عميقا في نفسه فقد توفي ابنه نتيجة لحادث دهس (5).
6-الاندماج :
يحصل في بعض الأحوال ان يدمج المحقق شخصيته في شخصية المتهم او في شخصية المجني عليه، فيشاطره مشاعره وعواطفه، وغني عن البيان ان تقمصه او اندماجه في شخصية المتهم يدفعه لان يتساهل معه في التحقيق وذلك رأفه به، وبالعكس فان اندماجه في شخصية المجني عليه يدفعه الى القسوة والتشدد في التحقيق. ان هذه العملية لا شعورية، بمعنى ان المحقق لا يقصر ان ينحاز الى هذا الجانب او ذاك، ولكنه يندفع الى احد الجانبين دون اني يدري. غن أعمال الإنسان ليست كلها صادرة بارادته وإنما كثير ما يأتي اعمالا توحيها إليه دوافع نفسية لا دخل لإرادته فيها. وعلى كل حال اذا وجد المحقق نفسه يميل الى احد طرفي الحادث سواء كان جانيا ام مجنيا عليه، وجب عليه ان يترك التحقيق لغيره (6).
____________
1-انظر مأمون سلامة، أصول علم الاجرام 1967، دار النهضة العربية القاهرة، ص212.
2-نظر أحمد محمد خليفة، علم النفس الجنائي والقضائي، بغداد، 1949 ص87.
3-انظر احمد محمد خليفة، المرجع السابق، ص88
4-انظر كامل احمد ثابت، علم النفس القضائي، الطبعة الأولى، سنة 1927 ص49
5-وقد لوحظ بان احد المحققين كان يلجأ الى تعذيب المتهمين في قضايا الاعتداء على شرف الفتيات لحملهم على الاعتراف، وكان همه محصورا فقط على الحصول على الاعتراف. وبعد دراسة سلوكه ظهر بأنه قد وقع في حب فتاة فخطبها وعقد عليها الزواج ولكنه فسخ بعد أن ظهر له بأنها قد اعتدي على شرفها بالقوة، فتركت هذه التجربة صدمة شديدة في نفسه، ترى ما ذنب المتهم البريء الذي يقع تحت رحمة هذا المحقق المريض؟ إنها لمأساة حقاً.

6-صادف ان قبض على احد النشالين من الاحداث وهو متلبس بالجريمة وخلال استجواب المحقق له وجد نفسه عطفا شديدا عليه، وبالفعل اخذ ينصحه بان يترك الجريمة ويسلك طريق الحياة الشريفة، ويبين بأن (هذه النصيحة أبوية خالصة) وخلال ذكره هذه العبارة انتبه المحقق وعلم أن سر هذا العطف هو شبه المتهم الحدث بأبنه الكبير في معظم ملامحه، فاضطر ان يتوقف عن استجوابه ويكلف زميلا له لكي يقوم به، حتى يتفادى تأثير العاطفة الأبوية التي قد تؤثر على سير التحقيق، انظر أحمد محمد خليفة، المرجع السابق ص89-90.