العقوبات والحدود .. التعذير تهذيب وإصلاح

الخطأ في تقدير العقوبة لايعني عيب في العقوبة وانما فيمن أوقعها لذا فإن الهجوم علي الحدود في الاسلام هجوم ليس في مكانه.
يقول د. سعدالدين الهلالي -استاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر-: إن عقوبة التعذير عقوبة تأديبية تهذيبية القصد منها والهدف إحداث الأمر المستقيم بعد الاعوجاج وتركها الإسلام للقاضي ولولي الأمر لاختيار أفضل الوسائل التي تحقق هذا المراد وهو ما يطلق عليه في الشريعة الجمع بين المقاصد والأدلة وما يدل عليه الدليل من مفهوم شرعي يجب أن يتطابق مع المقصد الشرعي من الحكم المراد بيانه.
أضاف: لهذا ترك الإسلام تقدير العقوبة التعذيرية لولي الأمر كيفما شاء. شريطة أن تحقق العقوبة المختارة المقصد من ورائها. هو تأليف قلب المخطيء ورجوعه إلي الصواب وزجر الآخرين. فإذا كانت العقوبة المختارة تحقق هذا المراد من زجر الآخرين إلي آخر. فهي عقوبة شرعية صحيحة. وإذا كانت العقوبة تقضي إلي نقرة الناس أو سخطهم أو ازدياد بُعد المخطيء عن الحق وتعنته وبعده عن الدين فهي عقوبة خاطئة يجب أن يتوب من وضعها ويجب علي عموم الناس عزله لأنه صار مفسدا في الأرض وزارعا للفتنة بين الناس.
أشار إلي أنه ورد في الحديث الصحيح أن النبي أرسل رجلا من الأنصار قائداً لسرية و قال للصحابة: اسمعوا له وأطيعوا وبينما هو في عمله غضب عليهم. فقال لهم: ألم يأمركم النبي أن تسمعوا لي وتطيعوا. قالوا: بلي. قال: فاجمعوا لي حطباً. فجمعوا. فقال: أوقدوا فيه. فأوقدوا. فقال: صفوا “أي اصطفوا طابوراً” فادخلوا فيه واحداً بعد الآخر. فحدثت فتنة وهمّ بعضهم بالدخول. وأمسك البعض بمن هموا بالدخول في النار. وقالوا: ما آمنا بالإسلام إلا لطلب النجاة من النار.
وبينما هم علي هذه الحال خمدت النار. وهدأ الرجل فسكت وعادوا إلي المدينة. ورفعوا الأمر للنبي. فقال: “لو دخلوها ما خرجوا منها إلي يوم القيامة” ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم: “إنما الطاعة في المعروف”.. وهذا الحديث يدل علي أن للإمام حق التأديب شريطة ألا يكون مؤديا إلي معصية مثل بُعد الناس عن الحق والفتنة بينهم وغير ذلك من المفاسد.

الرحمة أولاً 

أكد د. الهلالي أن فلسفة الإسلام في نظرية الجريمة والعقوبة التعذيرية هي الرحمة.. لقوله تعالي: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” وقول النبي: “إنما أنا رحمة مهداة” وقوله أيضا: “إن الله يحب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة”. وقد استدل الفقهاء من هذه النصوص تداخل العقوبات للجرائم المتعددة في الحق الواحد فإذا كان هناك سب لشخص لعدة مرات. فالعقوبة التعذيرية واحدة.
أضاف أنه إذا كانت هناك عقوبة لسبه الجيران أو الأهل أو ثبوت الكذب في مسألة واحدة عدة مرات فالعقوبة التعذيرية واحدة. أما إذا تعددت الحقوق في القضايا المختلفة مثل القذف وإيذاء الجار. وإهمال العمل. فهذه حقوق متعددة يستحق من اقترفها التعذير كل حق علي حدة وتداخل هذه العقوبات التعذيرية للجرائم المتعددة في الحق الواحد مبينة علي فلسفة العقوبة في الإسلام وهو الزجر والردع وتأليف قلب المخطيء إلي العودة للطريق السليم.

جرائم لا تتغير 

يقول د. طه خضير – أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر – : إن من منطلق فلسفة الإسلام في العقوبة أنه وضع عقوبات شديدة الصرامة لجرائم إنسانية لا تتغير بتغير الزمان والمكان مثل جريمة القتل والسرقة والزني وهتك العرض بالقذف والاعتداء علي العقل بشرب الخمر ووضع لها عقوبات صارمة من أجل حماية النفس والمال والعرض وقال تعالي: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تعقلون”.
أضاف أن الله تعالي ذكر أن القصاص يؤدي إلي الحياة الآمنة ولا يؤدي إلي الفساد وأن ما ذكره بعض المناهضين للعقوبات الشرعية الحدية عن طريق القصاص قد يؤدي إلي تصفية الشعوب الإنسانية من علي وجه الأرض عن طريق النفس بالنفس والعين بالعين.. هذا الفكر تشاؤمي قائم علي افتراض أن الناس جميعاً معتدون وقاتلون وسارقون ومن أجل ذلك سيتم القصاص من النصف الآخر.
اكد د. خضير ان هذا الفكر يؤمن بأن الطبيعة البشرية شريرة بطبعها ولكن الإسلام يعلمنا أن النفس البشرية جبلت سوية: “فطرة الله التي فطر الناس عليها”. وهذا بيان أن طبيعة النفس البشرية سامية والشر قليل وليس بكثير وتنفيذ العقوبات علي القلة يكون رداً لكل من تسول له نفسه اقتراف مثل هذه الجريمة وفي نفس الوقت تأديب للمجرم وتطييب لخاطر المجني عليه حتي يحدث الأمن في المجتمع وبغير ترضية المجني عليهم وتأديب المجرمين لن ينصلح حال المجتمع أمنيا وهذا هو المعني في الآية: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”.

قال: إن كل العقوبات الحدية قائمة علي مبدأ فقهي مجمع عليه وهو أنها تدرأ بالشبهات لقول النبي صلي الله عليه وسلم: “ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم” سواء كانت الشبهة يدعيها المجرم أو يسعي إليها القاضي بتحريه الخاص إذا ارتاب في ملابسات الجريمة وفي جميع الأحوال تتحول العقوبة إلي عقوبة تعذيرية تأديبية تهذيبية بضوابط هذه المعاني بحيث إذا لم تحقق العقوبة التعذيرية معني التآلف والتأديب والتهذيب والزجر بالآخرين فلا تكون عقوبة تعذيرية مناسبة.
ولابد للفقيه وولي الأمر من تجديد وضع العقوبات التعذيرية بتجدد الأيام والأحداث والمناسبات فلا يجوز وضع قانون تعذيري من 100 عام ويطبق في زماننا الحالي لأنه إذا كان صالحا خلال تلك الفترة قد يكون غير صالح. وعلي جميع الفقهاء وولاة الأمر أن يتذكروا قول النبي صلي الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” وهذا أوضح دليل لبيان أن التعذير قائم علي إعادة المخطيء إلي طريق السلامة والاستقامة.