الرابطة الوثيقة بين نظام العقاب الجنائي ونظام التأديب الإداري

في هذا الإطار تعدل النظام الإداري في بلادنا في مراحل متفاوتة ، وفي هذا الإطار من العلاقات المعدلة والأوضاع التنظيمية والتشريعات المصاحبة جري تعديل نظام تأديب العاملين في الإدارة العامة . ويمكن ضرب المثل في ذلك من تجربة محمد علي باشا في حكم مصر والسودان والشام في فترات تراوحت بين أعوام 1805 و 1848م. وكانت هذه هي الفترة التي شهدت تعديل أساليب الإدارة العامة إلى النمط الحديث ، وهي ذاتها الفترة التي شهدت حركة مماثلة في عاصمة الدولة العثمانية في استانبول.

وأول ما نلاحظه هو تلك الرابطة الوثيقة بين نظام العقاب الجنائي ونظام التأديب الإداري ، وانعكس ذلك في أن عقوبات الإيذاء البدني التي تقتصر في تصوراتنا الحالية علي الجرائم الجنائية دون المخالفات التأديبية – كالحبس والجلد وغيرها – هذه العقوبات كانت توقع بوصفها من جزاءات التأديب للعاملين بالدولة ، حتى بدا أن العقوبة ذات الطابع الجنائي كانت هي الأصل في نظام التأديب ، وكانت تصل إلى حد الإعدام. ومن الطريف أن عرف نظام التأديب وقتها عقوبة الحبس في مكان العمل ، فيقضي العامل مدة العقوبة في مكان عمله يمارسه فيه.

وفي عهد محمد علي صدر عدد من التشريعات ، منها ما سمي ” قانون الفلاحة ” الذي صدر في 1830 ، ومنها ” قانون سياسة نامة ” الذي صدر في 1837 ، وقانون “المنتجات” الذي جمع عدداً من القوانين السابقة.

ونحن عندما ننظر في قانون سياسة نامة نجد أن الفصل الثالث منه خصص لمخالفات المصالح العامة ، ومنها ما يتصل بالجرائم الجنائية التي يرتكبها الموظفون مثل الاختلاس والرشوة والتزوير وأتلاف الأمتعة ، وهذه الجرائم يتنوع العقاب فيها بين الحبس في اللومان مع الربط بالزنجير (القيود) مددا تتراوح بين الشهور والخمسة الأعوام وبين الربط في القلعة ، ومنها ما لا يجاوز المخالفات التأديبية بالمعني المحدد لها في مفاهيم الحاضر مثل مخالفة “مضمون الأوامر ومنطوق اللوائح والقوانين” وممارسة ما يجاوز الاختصاص المحدد للموظف والإهمال والتكاسل في العمل ، وهذه المخالفات يعاقب عليها بالحبس مددا محددة أو بتحديد الإقامة بالمنازل “بلا معاش” أو “الحبس بمحل المصلحة المأمور بها بلا معاش من ثلاثة اشهر إلى ستة اشهر” . . . الخ.

كما نجد انه من الصعب الفصل بين ما نتعارف علي تسميته ألان بالاختصاص القضائي ، وبين ما يعرف ألان بوصف الاختصاص الإداري ، وجري نوع من الشيوع بين الوظيفة القضائية وبين الوظيفة الإدارية ، أضف الى ذلك أنه لم يكن هناك تمييز واضح بين ما نسميه الآن بالوظائف المدنية وبين الوظائف العسكرية ، أي ما كان يسمي في وثائق تلك الأيام “بهيئة طوائف المستخدمين (المدنيين) والعسكرية”. وكانت مجالس الأحكام تختص بنظر الدعاوى المتعلقة “بالعسكرية والأهالي”.

وبالمقابل لهذه الصورة التي تقرن الجزاءات التأديبية بالعقوبات الجنائية ، نجد العكس عندما ننظر في “قانون الفلاحة” وقد تضمن عديداً من المخالفات التي توقع علي المزارعين بسبب إهمال الزراعة وأشغال الترع والجسور أو عدم أداء الضرائب أو امتناع الفلاح عن الحضور عند استدعائه أو الرعي في الزراعة الغير أو أتلاف السواقي . . . الخ. وقد اشتملت أنواعها من الجزاءات تتراوح بين عقوبات الإيذاء البدني أو الحرمان من بعض المزايا أو الغرامات المالية. وهنا اقترنت أحيانا العقوبات الجنائية بما يشبه مخالفات العاملين والموظفين المستوجبة توقيع الجزاء التأديبي ، وان بعض الأفعال المعاقب عليها كانت تدخل في وصف “الإخلال بالعمل” المستوجب توقيع الجزاء التأديبي منها في وصف الفعل المجرم المستوجب العقاب الجنائي ، وهذا يعكس نظرة من الحكومة لجمهور المواطنين بوصفهم من عمال الحكومة ، وخاصة في مشروعات الإنتاج الزراعي ، فان صفة الحاكم التبست بصفة رب العمل ، وكذلك التبست صفة المواطنة ببعض سمات صفة العامل.

ويلاحظ انه حتى ألان في نظمنا المعيشية المعاصرة ، لا يزال يقوم قدر من التداخل بين أنواع العقوبات التأديبية والجنائية ، وبين صفة الإخلال بالعمل ووصف ارتكاب الجرم ، وبين وصف المواطن ووصف العامل ، وبين وصف رب العمل ووصف سلطة الحكم ، وذلك في مجال الخدمة العسكرية وتنظيم الجيوش ونظمها الانضباطية.