الآراء الفقهية حول ايجابية الخطورة الإجرامية في تحديد الجزاء الجنائي

المؤلف : صلاح هادي صالح الفتلاوي
الكتاب أو المصدر : الخطورة الاجرامية واثرها في تحديد الجزاء الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يقتضي مذهب الدفاع الاجتماعي الجديد أن تكون العقوبات والتدابير الاحترازية المحكوم بها ملائمة للشخصية الإجرامية ، بما يسمح بتجاوب هذه الشخصية مع الحياة الاجتماعية العادية(1) ، وقد كان مذهب الدفاع الاجتماعي في ظل أفكار المدرسة الوضعية ، يضع في المقدمة مصلحة المجتمع أو حمايته ضد التصرفات الضارة التي تصدر عن الأفراد ، ولا يتردد في سبيل الصالح العام من التضحية بالمصالح الخاصة لهؤلاء الأفراد(2) .

وقد تغير الوضع وفقاً لمذهب الدفاع الاجتماعي الجديد ، بما يتفق مع حماية الحرية الفردية ، فنادى بوجوب العمل نحو تأهيل المجرم اجتماعياً واستعادته الى حظيرة المجتمع على نحو تحقيق الحماية لكل من الفرد والمجتمع معاً ، فحماية الفرد تتحقق بالعمل على تقويمه وتأهيله اجتماعياً وضمان حريته ، وحماية المجتمع تتحقق بعلاج المجرم وضمان تجاوبه الاجتماعـي ، وقد اقتضى هذا المذهب أن يناط بالخطورة الإجرامية ، القيام بدورها في كيفية اختيار الجزاء الجنائي فتحديد هذا الجزاء يتوقف على درجة الاحتمال نحو الأجرام أو العودة اليه طالما أن الدفاع الاجتماعي لا يتحقق إلا بتأهيل المجرم اجتماعياً وهو ما يفترض في هذا الاحتمال(3) .

إذن فالخطورة الإجرامية هي الاساس الذي يتوقف عليه تحديد الجزاء الجنائي لتحقيق الدفاع الاجتماعي . ولقد اختلفت المدارس الفقهية في نظرتها للخطورة الإجرامية ، كما انها اختلفت في تقدير دورها كأساس لاختيار الجزاء المناسب ، ولقد اعترض البعض على الفكرة استناداً الى اعتبارات معينة ، سوف نعرضها مع عرض الرد عليها وذلك على النحو الآتي(4) :-
لا تصلح الخبرة العادية لقياس درجة الخطورة ، ولا توجد وسيلة صحيحة لمعرفة خطورة شخص معين ، وهذا الأمر قد عرفناه بشكل مفصل عندما تعرضنا لموضوع صعوبة إثبات الخطورة الإجرامية ، على انه مهما صح القول بأن قياس الخطورة الإجرامية لم يصل بعد الى حد الكفاية والكمال ، إلا أن ذلك لا يعني أن هذا القياس امر قد بات مستحيلاً ، فاذا كانت الخبرة العامة للمحاكم غير كافية لتقييم خطورة المتهم فأن من سلطتها أن تلجأ الى البحث الطبي أو النفسي أو الاجتماعي لمدها بالمعلومات اللازمة عن الشخصية الإجرامية الماثلة امامها ، وقد يكون هناك قدر من الصعوبة بالنسبة الى المجرمين المبتدئين الذين لا يتوفر لديهم سجل اجرامي يشهد بماضيهم الخطر ، وعلى العكس من ذلك ، فأن المعتادين على الأجرام يمكن الى حد كبير التحقق من اعتيادهم على السلوك الاجرامي ، وهو ما يفضح خطورتهم الإجرامية الى حد كبير ، ومهما كان الامر ، فأن الفحص العلمي لشخصية المجرم يكفل ايضاح دقائق هذه الشخصية ومعالمها ، وعلى قدر التطور العلمي نحو توافر الامكانيات اللازمة للتحقق من شخصية المجرم ، يتحقق نجاح قياس الخطورة الإجرامية .

أما الاعتراض الثاني الذي اورده الفقهاء على دور الخطورة الإجرامية في تحديد الجزاء فيتمثل في أن الخطورة كمعيار لا تصلح لتحديد نوع الجزاء الجنائي وقدره . إلا أن هذا الاعتراض غير سديد ، بالنظر لما ينطوي عليه هذا القول من افتراض تحديد الجزاء الجنائي وفقاً لمعيار حسابي بحت ، وهو أمر لا يمكن ضمانه بالنسبة الى الامور التقديرية كلها ، لانها مسألة ذهنية يتفاوت فيها التفكير ، وبالرغم من عدم ضمان الدقة الحسابية في تحديد الجزاء الجنائي ، إلا انه لاجدال في انه من الممكن تحديد قدر الجزاء الضروري لمواجهة الخطورة الإجرامية .

وفي هذا المجال ، يقول أحد الفقهاء(5) ((أن التفكير الواقعي يقتضي بقدر الأمكان عدم اشتراط الدقة الحسابية في تحديد الجزاء الجنائي وفقاً للخطورة الإجرامية بل يتطلب مواجهة مشاكل الدفاع الاجتماعي ضد الخطورة الإجرامية ، سواء في مصادرها أو في المظاهر المختلفة لانماط المجرمين)) . ويلاحظ أيضاً أن ارتباط الجزاء الجنائي بالخطورة الإجرامية يقتضي عدم التقيد عند تنفيذه بالمدة المقررة له في الحكم ، فقد يثبت فيما بعد نقص ما لدى المجرم من خطورة على نحو لا يتناسب مع المدة الباقية في تنفيذ الجزاء الجنائي ، ولهذا نص قانون العقوبات الايطالي في المادة (208) على انه بعد انقضاء الحد الادنى المنصوص عليه في القانون عن كل تدبير احترازي يفحص القاضي من جديد أحوال الشخص المعروض عليه للتحقيق من مدى خطورته الاجتماعية ، فاذا تبين انه لازال على خطورته ، حدد أجلاً جديداً لفحصه بعد ذلك .

والواقع من الامر ، أن تحديد الجزاء الجنائي وفقاً لدرجة الخطورة الإجرامية هو السبيل الى منع المجرم من التصرف بحرية مطلقة في المجتمع وهو السبيل الوحيد لتحقيق الدفاع الأجتماعي(6) .

ومن الاعتراضات الأخرى التي ساقها الفقهاء على فكرة تحديد الجزاء الجنائي بما يتوافر من خطورة إجرامية في شخص الجاني ، أن الجزاء الجنائي لا يؤثر فقط في تحديد الخطورة المستقبلية ، ومن ثم فلا يكون من المنطقي بعد ذلك أن يتحدد الجزاء الجنائي وفقاً لهذه الخطورة ، وهو قول مردود عليه بأن جوهر الخطورة هو ما ينبعث من الشخص من احتمالات العودة الى الأجرام ، وهي أمور نفسية يجب التثبت منها بفحص دقيق في شخصية المجرم ، يتناول سائر الظروف التي مرت به والعوامل التي ساهمت في تكوين خطورته الإجرامية ، وقد اقتضى مذهب الدفاع الاجتماعي الجديد الفحص العلمي لشخصية المجرم ، حتى يتمكن القاضي من تقدير الجزاء وفقاً لخطورته ، إما السجل الاجرامي للشخص فهو ليس دليلاً حاسماً على خطورته وإنما العبرة دائماً بالملاحظة الدقيقة لشخصيته لاستجلاء خطورتها وقد اهتمــــت المؤتمرات والحلقات والدراسات الدولية بملاحظة شخصية المجرم لأجل بيان مدى خطورته وأولته عنايتها وأوصت بأتخاذها(7) .

ويرى المعترضون على فكرة الخطورة أن الأخذ بها يؤدي الى تعليق المسؤولية الجزائية على امر محتمل وقوعه في المستقبل بما يخلق صعوبة في كيفية تحديد المعاملة العقابية للمجرم(8) .

ويعلق على ذلك بأن الامر المحتمل في الخطورة الإجرامية هو الجريمة المستقبلة وأما الخطورة في ذاتها فليست مستقبلاً محتملاً وإنما هي امر حاضر ثابت ، كما أن الجزاء الذي يحكم به على المجرمين ليس مجرد اذى يقاس بمقدار الاذى الذي حققته الجريمة ، وإنما هو وسيلة لعلاج الخطورة في هذا المجرم ، بمعنى منع الجريمة الجديدة التي يحتمل أن يكون هو نفسه مرة أخرى مصدراً لها(9) . كما أن الخطورة النفسية التي تحدد احتمالات العودة الى الأجرام بأعتبارها جوهر الخطورة يمكن التثبت منها بفحص دقيق لشخصية المجرم يتناول سائر الظروف التي مرت بها والعوامل التي ساهمت في تكوين خطورته الإجرامية(10) .

ومن جانب أخر يعترض على فكرة الخطورة الإجرامية بأن تعليق المسؤولية على امر محتمل يعطي ثمة مجال لتحكم القاضي ، ويرد على ذلك بأن الجريمة التي يرتكبها الجاني هي أهم إمارة تكشف عن وجود الخطورة الإجرامية فيه كما أن هذه الجريمة هي حقيقة واقعة لا يبقى معها أي مجال لتحكم القاضي(11) .

كما قيل بأن الأخذ بفكرة الخطورة الإجرامية يؤدي الى الاعتداء على الحريات الفردية ، والى وجود المجرم من دون وجود الجريمة ، كما أن من شأنه أحلال السلطة التحكمية محل مبدأ الشرعية ، ويرد على ذلك بأن التوفيق بين الحريات الفردية وتحقيق متطلبات الدفاع عن المجتمع هو أساس الدور الذي يقوم به القضاء مما يدرأ اية شبهه على الحريات(12) . وبصفة عامة ، فأن هذه الاعتراضات لم تنل من نظرية الخطورة الإجرامية التي أخذت بها معظم التشريعات الجنائية الحديثة ووجدت تطبيقاً لها بالنسبة الى فئات عديدة من المجرمين الخطرين علاوة على انها ساهمت في تطوير الكثير من احكام قانون العقوبات ومبادئ علم الأجرام وهو ما نجد تطبيقه عند دراسة أثر الخطورة الإجرامية في تحديد الجزاء الجنائي .

وهكذا فأن هناك أسباب عديدة تستوجب الأخذ بفكرة الخطورة الإجرامية من وجهة نظر الفقهاء(13) وعلى سبيل المثال :-
معالجة مشكلة المجرم العائد الذي ينظر الى المجتمع بسخط وحقد ويعارض دائماً القيم الأخلاقية في مجتمعه ، فهو بالتالي في انحطاط مستمر ولا يشغل باله فكرة العقوبة حيث انه يعتادها كما يعتاد الجريمة ، وبالتالي فأنه مثل هذا الشخص يستحق معاملة عقابية تتجه الى التشديد من العقوبة التي تفرض عليه بسبب خطورته الإجرامية .

المساهمة في حل مشاكل المتسولين حيث لا تسعف المعالجة التقليدية في معالجتهم ومواجهتهم ، حيث انهم لم يرتكبوا جرماً محدداً رغم انها فئات لها استعداد فطري الى السكون والخمول الذي لا ينتهي ، لذلك فأن مقتضيات التضامن الاجتماعي تستوجب التدخل لمساعدتها وخاصة أن العلم الحديث قد بين انهم مرضى بضعف عصبي يجعلهم مسلوبي الارداة والاهلية تجاه أي تصرف ومن ثم فأنها تشكل خامات تؤهل لخلق المجرم الخطر .

التدخل لمواجهة فئات مدمني الخمور والمخدرات لأنهم فئة يفوقون خطورة الفئة السابقة حيث انها تتسبب في تعطيل الانتاج في المجتمع .

مواجهة الحالات الأخرى التي تستوجب التدخل الحتمي للسلطة العامة ولو لم تكن في دائرة الجريمة ، وتتمثل نماذجها في الشواذ خلقياً أو عصبياً والقصر الجانحين والمعتوهين والمحرضين على ارتكاب الجرائم والمجرمين ذوي المسؤولية الخاصة والمجرم بالميلاد ، حيث أن هذه الطوائف لا يصلح معها العقاب الزاجر والذي يكون هنا ظالماً وغير مفيد ، إذ سيحل العقاب بمن يجب الدفاع عنه نظراً لأن الجريمة بالنسبة لهم وليدة ظروف قاسية خارجة عن ارادتهم ، وفي الوقت نفسه فأن تركهم بلا جزاء يعد أمراً يهدد الحياة الاجتماعية والسكينه العامة ، مما يوجب التدخل لأصلاحهم وعلاجهم ، حتى لا يشكلون خطراً اجتماعياً .

وخلاصة ما تقدم فأن الفضل الكبير الذي يعود لفكرة الخطورة الإجرامية يكمن في أهمية هذه الفكرة في تأثيرها على الجزاء الجنائي ، من حيث أخذها بنظر الاعتبار عند ايجاد المعالجة العقابية للمجرم عند تعرضه للجزاء الجنائي ، وهذا يعني أن الخطورة الإجرامية هي المناط لكثير من الانظمه المأخوذ بها في قانون العقوبات ، كالاعتياد على الأجرام ، والافراج الشرطي ، ورد الاعتبار ، وكذلك في مجال التنفيذ العقابي وتقييم المجرمين داخل المؤسسات العقابية(14) … .
_______________
1- د- أحمد فتحي سرور، نظرية الخطورة الإجرامية، مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثاني، السنة الرابعة والثلاثون، مطبعة جامعة القاهرة، يونيه 1964، ص 555 .
2-Levasseur ، Les orginismens prononeant Les measures de detence socid (publications du center de`tudes de de`fence social) ، paris 1954 ، P 202 Levasseur ، op . cit ، P 203 .3-
4- أنظر كل من : Kinberg ، op . cit . P 142 .
كذلك : د- محمود عباس قرني، النظرية العامة للتدابير الاحترازية 1970، ص 184 .
د- رمضان السيد الألفي، نظرية الخطورة الإجرامية، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1966، ص 249 .
د- احمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص 555 .
5- Kinberg ، op . cit ، P 143 .
6- د- احمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص 557 .
7- من تلك المؤتمرات المؤتمر الثاني للدفاع الاجتماعي المنعقد في لييج 1949 ، والحلقة الدراسية الدولية الأولى لعلم الأجرام المنعقد في باريس سنة 1952 ، والمؤتمر الدولي الثالث للدفاع الأجتماعي المنعقد في انفيرس سنة 1954 وغيرها من المؤتمرات والحلقات الدراسية الأخرى .
انظر في ذلك ، د- احمد فتحي سرور ، المرجع السابق ، ص 558 .
8- د- رمسيس بهنام ، النظرية العامة للقانون الجنائي، الطبعة الثالثة، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1971، ص 904 .
9- د- رمسيس بهنام ، علم الأجرام ، ص 315
10- د- رمضان السيد الألفي ، المرجع السابق ، ص 249 .
11- د- رمسيس بهنام ، علم الوقاية والتقويم، الأسلوب الامثل لمكافحة الأجرام – منشأة المعارف، الإسكندرية، 1986، ص 69 .
12- د- رمضان السيد الألفي ، المرجع السابق ، ص 250 .
13- أنظر : Aly Badwy ، op . cit ، P 37 .
كذلك د- عبد الرحيم صدقي، الظاهرة الإجرامية – دراسة تأصيلية تحليلية في الفقه المصري المقارن، دار الثقافة العربية، 1979، ص 126 .
14- د- مأمون محمد سلامه ، النظرية العامة للعقوبة والتدبير الاحترازي ، ص 143 .