دور النيابة العامة في ضمان حقوق المتهم
عبدالله الشملاوي
تتعددُ أجهزة الدولة الحديثة وتختلف أدوارُها، ولكون الدولة تحتكر سُلطات التحقيق والاتهام والمحاكمة ثم العقاب، فقد ظهرت النيابة العامة بوصفها الهيئة التي عهد إليها القانون توجيه الاتهام ومباشرته أمام القضاء، نيابة عن الدولة.

والنيابة العامة لا تُمثل الدولة باعتبارها خصماً عادياً، إنما تنوبُ عنها في تأدية عمل عامٍ من أجل تأكيد سيادة القانون. فالنيابة ليست صاحبة حق كالخصوم العاديين، بل هي صاحبة سُلطة تتولى حراسة الشرعية القانونية من خلال قانونَي الإجراءات الجنائية والعقوبات، ولا تخضعُ لغير مقتضيات الحقيقة. فالفرض أن إدانة المتهم ليست غاية النيابة إلا في الأحوال التي تتحقق فيها من انعقاد مسئولية ذلك المتهم على نحوٍ لا يقبل المنازعة، كما أن من واجب النيابة أن تعرض على المحكمة كل أدلتها ولو كانت في صالح المتهم وقد تؤدي للبراءة أو تخفيف العقوبة، كما أن من واجب النيابة أن تطعن في حُكم الإدانة، أو أن تُقدم الالتماس بإعادة النظر، ولو كان التماسُها أو طعنُها في صالح المتهم؛ لأن واجب النيابة هو حماية مصلحة المتهم إذا اقتضى القانون ذلك.

كي لا يُدان إنسان بعقوبة لمجرد الاشتباه بأنه ارتكب جُرماً، ويجب إجراء تحقيق للوقوف على الأدلة التي تُمكن المحقق، أياً كان مُسمّاه، سواء كان ممثلاً للنيابة العامة أم قاضياً للتحقيق، من تكوين قناعته بأن المشتبه به، إما أن يكون ارتكب الجُرم أو ساهم فيه فيُحالُ للمحاكمة، أو تُمنع محاكمته لعدم توافر الأدلة بحقه، أو لعدم توافر عناصر الجُرم، أو لأي سبب آخر يُبقيه بعيداً عن المحاكمة الجنائية، وإما أنه بريء مما ظُن به.

بمعنى أن النيابة وهي تُباشرُ التحقيق، ينبغي أن تصدَعَ لحكم القانون حين يُفضي التحقيق للبراءة أو الإدانة على حد سواء، فكما أن الوصول للحقيقة غاية سامية، يتعين أن تكون الوسيلة إليها بعيدة عن أي انتهاك لحقوق الإنسان، ولذلك قِيلَ إن النيابة العامة، وهي الساعية في الغالب لإدانة من تحقق معهم من المتهمين، ينبغي أن تضطلع وحدها بسلطة التحقيق، بل لابد من إسناد تلك السلطة لقاضي التحقيق؛ لأن الحياد في جانبه أظهر منه في جانب النيابة العامة.

ولكن مادام نظامنا القانوني، يسير بخلاف النهج القانوني الحديث، ويُسند للنيابة وحدها هذا الدور، كما قررت ذلك المادة الخامسة من قانون الإجراءات الجنائية البحريني بقولها «النيابة العامة شعبة أصيلة من شُعَب السلطة القضائية، وهي الأمينة على الدعوى الجنائية، وتُباشر التحقيق والاتهام وسائر اختصاصاتها وفقاً للقانون» فعليها أن تجعل رائدها أصالة البراءة، فإن تطابقت تحقيقاتها مع تلك الأصالة فنورٌ على نور، وإن قاد التحقيق، بإجراءات مشروعة، لغير ذلك، فلا مندوحة منه.

بمعنى أنه ينبغي على النيابة العامة وهي تؤدي وظيفتها التي ندبها القانون إليها، أن يكون لها دورٌ في تحقيق الضمانات القانونية للمتهم، وهو ما سنراه تفصيلاً، ابتداء من مرحلة التحريات التي تتم بمعرفة الضبطية القضائية، أو بتكليفٍ من النيابة العامة وفقاً لحكم المادة (85) من قانون الإجراءات الجنائية التي تنص على أن «لعضو النيابة العامة أن يندب أحد مأموري الضبط القضائي للقيام بعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم»، حيث تكون للنيابة العامة سُلطة الرقابة، في مرحلة التحقيق وما تليه من محاكمة.

ومن وسائل تلك الرقابة المقررة للنيابة العامة ما يأتي:

1- رقابة النيابة العامة على التحريات الجنائية

لكون النيابة العامة صاحبة الدعوى الجنائية والأمينة عليها، بحسب صريح نص القانون، فإنها تباشر رقابتها على أعمال الضبطية القضائية، من خلال عرض الأخيرة لأعمالها في البحث الجنائي على النيابة العامة؛ لتقرر مدى كفاية الدلائل للاقتناع بوجود جريمة وإمكان نِسبتها لشخص معين، ومدى التزام من قام بالتحريات بحدود الشرعية القانونية؛ لتكوين السبب الصحيح كي تبني عليه النيابة قرارها بالتدخل على الوجه الذي تراه مناسباً لكشف الحقيقة. وللنيابة في سبيل إجراء تلك الرقابة، عدم الاكتفاء بما حوته أوراق التحري المعروضة عليها، بل لابد أن تعمل في دائرتي المشروعية والموضوعية؛ وذلك لمنع تعسف سلطات الضبط القضائي، مع الأفراد، لما لتلك الجهات من سلطات واسعة قد يُفضي تحركها بلا رقابة من النيابة، ومن ورائها القضاء، للمساس بحقوق الأفراد وحرياتهم وتلك السُلُطاتِ نزّاعة بطبعها للتسلُّط.

ولما كانت ضرورة وحدة التحقيق وسيره وفقاً للنزاهة والحيادية، تقتضي الإشراف الكامل من جانب النيابة العامة على جميع إجراءات التحري والاستدلال وتبعية مأموري الضبط القضائي اليها لمراقبة أعمالهم والتأكد من قانونية الإجراءات المتخذة منهم، وضمان عدم المساس بحريات الأفراد، بوصف أن رجال الضبط القضائي تابعون للنائب العام، كما نصت على ذلك المادة (44) من قانون الإجراءات الجنائية، حيث تقول: «يكون مأمورو الضبط القضائي تابعين للنائب العام وخاضعين لإشرافه فيما يتعلق بأعمال وظيفتهم».

وسنعرض لجوانب رقابة النيابة العامة على مأموري الضبط القضائي بوصفها إحدى الضمانات التي تُحققها النيابة العامة للمتهم، في الفترة التي يكون في عُهدتها، منطلقة من مفهوم أصل البراءة، الذي لا يتمخض عن قرينة قانونية ولا هو صُورة من صورها، وإنما يتأسس افتراضُ البراءة على الفطرة التي جُبل الإنسان عليها، فقد وُلِدَ حُراً مُبرأً من الخطيئة، ويُفترض امتداد ذلك الوصف وملازمته للإنسان طوال حياته، إلى أنْ يُنقضَ ذلك الأصل بحكم جازم، صادرٍ في محاكمة منصفة بالمفهوم المقرر في المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وعلى ضوء أدلة متولدة من شرعية إجرائية، تُعتبر حمايتُها مُفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية؛ ليوفر من خلالها لكل فرد في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة من دون دليل، وبما يرُدُ المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية تحكميّة يُنشئها، ويُتاح للنيابة العامة ترسيخ الشرعية الإجرائية تفريعاً على أصل البراءة وذلك من خلال ما يأتي:

أ- تقديركفاية الاستدلالات ومدى صلاحيتها لتكوين قناعة بنسبة الواقعة لشخص معين، وتكييفها القانوني، ثم تحديد نوع الإجراء الملائِم لكشف الحقيقة، وأخيراً شرعية وسائل التحريات وغاياتها.

ب – التقدير المذكور لابد أن يستند لمعيار موضوعي منطقي، بعيداً عن الأهواء، أو المخاوف التي قد تُطيح بحريات الأفراد وتنسف قرينة البراءة، بما يضرُ بالعدالة، بخلاف مقصود المشرع من إسناد حماية الشرعية وإنفاذ حكم القانون للنيابة العامة، مع عدم الاعتداد بما صار يُعرف في التقاضي الجنائي بالمصادر السرية التي تُحجب حتى على المحكمة، ولقد قضت محكمة التمييز الكويتية، بحق، بشأن حُجية وصدقية تحريات المصادر السرية، بقولها: إن القاضي إذ يُقيمُ حكمه على دليل مصدره سرّي، فإن ذلك القاضي يكون قد استقال من وظيفته، تاركاً إياها لصالح من قدم ذلك الدليل من مصدرها السرّي؛ ذلك لأنه يتعين أن يكون الحكم القضائي كاشفاً عن عدالته، دالاً على أن المحكمة أحاطت بواقع الدعوى، ومحصت ما طُرح أمامها من أدلة وبيّنات وانتهت إلى النتيجة الحُكمية بعد أن أحاطت بمفردات الدعوى، وما تضمنته من دفوع ودفاع ، بحيث استقرت تلك النتيجة في وجدان وصارت إليها في استخلاص سائغ تحمله أوراق الدعوى.

لما كانت حقيقة وظيفة النيابة هي اتخاذ الاجراءات في كل جريمة تُبلّغُ إليها، طالما توافرت العناصر القانونية لتلك الجريمة وفقاً للتطبيق الجاد للشرعية واحترام القانون، بأن تبدأ في التحقيق، وتُحيل الدعوى بعد ذلك للمحكمة لتطلب منها معاقبة المتهم الذي أحالته بموجب الدعوى الجنائية، بعد تمام استجوابه، فلابد أن يُفصِحَ ممثل النيابة عن صفته للمتهم بعد أن يتحقق ممثل النيابة ذاته من شخصية المتهم قبل الشروع في استجوابه. والمتهم هو الخصم المقابل للنيابة في الدعوى الجنائية، سواء فاعلاً أصلياً للجريمة أم شريكاً لفاعلها الأصلي. ويشترط فيمن توجّه له التهمة أن يكون سليماً في قواه العقلية كي يكون قادراً على الدفاع عن نفسه أصالةً أو من خلال مدافع يختاره أو يقبله، فإن كان المتهم مجنوناً أو مصاباً بعاهة تُقعده عن الدفاع عن نفسه، تعيّن على النيابة أن تُصدر أمراً بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية؛ لانعدام المسئولية، مع وجوب إيداع المتهم الذي منعت العاهة العقلية من إقامة الدعوى الجنائية ضده، إحدى المحال المُعدة للأمراض العقلية، وهو أمر وجوبي يكون إغفاله مُعيباً للأمر أو الحكم بألا وجه لتحريك الدعوى العمومية.

وبعد التحقق من شخصية المتهم وعدم وجود مانع مما تقدم في شخصه، تشْرَعُ النيابة في استجوابه فيما هو منسوبٌ إليه على نحو تفصيلي وصولاً لتوجيه التهمة له ومواجهته بالأدلة القائمة ضده، ويجب على النيابة العامة، وهي تباشر التحقيق مع المتهم مراعاة ما يلي :
1. ليس لممثل النيابة، في سبيل الوصول للحقيقة، أن يعمد لخداع المتهم بالكذب أو الاحتيال عليه؛ لما في ذلك من تضليل للمتهم يمس حريته في إبداء أقواله.

2. معاملة المتهم بأدبٍ واحترام لحقوقه الإنسانية وصولاً للحقيقة، مع تمكين المتهم من إبداء أقواله في حُرية تامة بعيداً عن التعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة، فقد يتعرض المتهم أثناء الاستجواب لمؤثرات عدة، منها الوعد والإغراء بالإفراج عنه أو بتحسين مركزه في المحاكمة، فتتأثر حريته بين الإقرار والإنكار؛ وهو لذلك سببٌ للارتياب في الاعتراف المتولد عن ذلك الاستجواب، يُهددُ قوته كدليل. ويزداد الوهن الذي يلحق ذلك الدليل إذا حصل التأثير على إرادة المتهم من خلال الإكراه المعنوي بتهديده. فالوعيد والتهديد يُنقِصُ من حرية المتهم في اختيار ما يقول؛ لأنه يُنذر بالشر إن لم يوجّه الخاضع له إرادته للسلوك المطلوب، ومن قبيل ذلك تهديد المتهم الخاضع للتحقيق بقتله أو تسليمه لأهل المجني عليه لينتقموا منه، أو بالقبض على عزيزٍ له، حيث نصت الفقرة (د) من المادة العشرين من الدستور على أنه «لا يُعرّض أي إنسانٍ للتعذيب المادي أو المعنوي، أو للإغراء، أو للمعاملة الحاطة بالكرامة، ويُحدد القانون عقاب من يفعل ذلك. كما يبطُل كل قول أو اعتراف يثبتُ صدوره تحت وطأة التعذيب أو بالإغراء أو لتلك المعاملة أو التهديد بأي منها.

3. عدم جواز انتهاك خصوصية المتهم باستراق السمع على حديثه مع أهله أو محاميه، ولا بتعريضه للوسائل الفنية أثناء الاستجواب حتى لو وافق هو على ذلك؛ لما فيها من مساس بحقه كإنسان في سلامة جسمه مادياً ومعنوياً، وهو حقٌ لا يملك التنازل عنه؛ لكون حياة الفرد تندمج مع حياة المجتمع اندماجاً غير قابلٍ للإنفكاك. وعدم الاعتداد برضا المتهم هنا مردّه أن الرضا يفترض حُرية الاختيار والقرار، وهو ما لا يمكن الزعم بتوافره لمتهم يخوض خطر أن تكون نتيجة استعمال تلك الوسائل ضده؛ وهي نتائج لا يمكن افتراض قبول البوح بها، وإلا فما الذي حال بينه وبين البوح بها دون إخضاعه لتلك الأجهزة الفنية.

4. عدم إرهاق المتهم باستجواب مطول؛ لأن الاستجواب إجراءٌ غير مشروع من إجراءات التحقيق، فلا يكون ما ترتب عليه صحيحاً ما لم يكن متوافقاً مع القانون، ولكون إطالة الاستجواب تضعف معنويات المتهم وتقللُ من حدة انتباهه أثناء إجابته على أسئلة ممثل النيابة، فيحمله على الاعتراف، أو الإدلاء بقول ليس في صالحه. وقد أوصت اللجنة الدولية للمسائل الجنائية بتحريم إخضاع المتهم لاستجواب مطول، دون السماح له بالراحة والتغذية الطبيعية والنوم في الأوقات المناسبة. وقد استقر الفقه والقضاء الجنائي المقارن على اعتبار الاستجواب المطول من وسائل التعذيب غير العنيف؛ لأنه يُضعفُ إرادة المتهم، بحيث يجعلُ الاعتراف المترتب عليه جديراً بالبطلان.

5. للمتهم أن يصمت ويرفض الكلام أو الإجابة على أسئلة ممثل النيابة خشية الإدلاء بأقوالٍ تضره، وذلك حق مُستمدٌ من حريته في إبداء أقواله، وقد أكدت هذا الحق التشريعات المقارنة، فأوجبت المادة (78) من القانون الإيطالي على ممثل النيابة أن يُخطِرٓ المتهم بحقه في الصمت؛ وزاد على ذلك القانون الهندي فاستوجب أن يُعلن المتهم استعداده للاعتراف بأن أقواله قد تستخدم ضده أثناء محاكمته مع منحه مهلة (24) ساعة للتفكير.

وقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه طالما كان صمتُ المتهم وامتناعه عن الإجابة استعمالاً لحق مقرر بمقتضى القانون، مستمدٍ من حريته في إبداء أقوال، فلا يجوز للمحكمة أن تستخلص من صمت المتهم قرينة ضده.

6. دعوة محامي المتهم للحضور مع موكله، فقد نصت الفقرة (ج) من المادة (20) من دستور البحرين على أن‌ المتهم بريءٌ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفقاً للقانون. في حين قررت الفقرة (هـ) من ذات النص أنه: «يجب أن يكون لكل متهم في جناية محامٍ يدافع عنه بموافقته».

ولاشك أن كلمة جميع مراحل التحقيق الواردة في النص الدستوري تشمل الفترة التي يكون فيها المتهم في عُهدة النيابة، عملاً بدلالة كلمة (جميع) التي لا يُفهم منها سوى الإطلاق والاستغراق، لكن الفقرة (ج) توحي بأن الوجوب مقصورٌ على حالة كون التهمة جناية وعلى ذلك جرت أحكام المحاكم في تفسير ضيق ضار بمركز المتهم الذي تقضي الفلسفة القانونية الجنائية حملها لصالح المتهم وليس بما يضره!

وبذلك جرى حكم المادة (134) من قانون الإجراءات الجنائية التي تُقرر أنه «في غير حالتي التلبس والاستعجال بسبب الخوف من ضياع الأدلة، لا يجوز لعضو النيابة العامة في الجنايات أن يستجوب المتهم أو يواجهه بغيره من المتهمين أو الشهود إلا بعد دعوة محاميه للحضور إن وجد. وعلى المتهم أن يُعلن اسم محاميه بتقرير في قسم كتاب المحكمة أو إلى مأمور السجن، كما يجوز لمحاميه أن يتولى هذا التقرير».

ولا يجوز للمحامي الكلام إلا إذا أذن له عضو النيابة العامة، وإذا لم يأذن له وجب إثبات ذلك في المحضر». ويتطابق النص البحريني المتقدم مع النص المصري الذي بعد أن جعل حضور المحامي مع المتهم في تحقيقات النيابة وجوبياً، عاد ليفرغَ ذلك الوجوب من محتواه، باستيجاب دعوة المحامي للحضور، إن وجد!

وتستطرد المطابقة مع النص المصري في جعل حق المحامي الذي اعتبر القانون حضوره وجوبياً، إن وجد! وغالباً لا يكون موجوداً، كما وقد أنيط بممثل النيابة سلطة الإذن للمحامي بالكلام؛ مما يمكِّن ممثل النيابة من أن يجعل حضور المحامي مع المتهم الخاضع للتحقيق في جناية، مجرد ديكور أو شكل يُضفي مشروعية ظاهرية على تحقيقات النيابة مع المتهم بجناية. وقد بالغت النيابة العامة في فهم هذا الجواز الممنوح لها على سبيل الرخصة ومارسته كما لو كان عزيمةً واجبة! وهو خلاف ما قصده المشرع وما نهجته العهود الدولية ذات العلاقة، والتي انضمت إليها البحرين، وأصبحت جزءاً من نسيجها التشريعي، بل لا نُغالي إن قلنا إنها تعلو على التشريع الوطني؛ ولذلك يتعين على عضو النيابة المباشر للتحقيق أن يدعو محامي المتهم في جناية على الأقل، إن وُجد، وإثبات ذلك بمحضر التحقيق، وإثبات عدم وجود المحامي بعد سؤال المتهم، ولن يضير التحقيق التريث لحين حضور المحامي بعد دعوته في وقت مناسب، وانتظاره الوقت المناسب، مهما كانت سرية التحقيق وتعجُل النيابة في الفراغ من ذلك التحقيق؛ لما في ذلك من شهادة على سلامة التحقيق ونزاهته، ودفعٍ للقيل والقال.

على أنه لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن، بأن الفهم الضيق لحق المتهم في حضور مدافعٍ عنه، والذي يُقصَرُ على حالة التحقيق معه في جناية، ليس معناه منع محاميه من الحضور معه حتى لو كان متهماً في جُنحةٍ، فلا يصحُ منعه من الحضور.

وانطلاقاً من كون النيابة العامة هي الخصم الشريف، والحارس الذي مهمته سيادة القانون، فينبغي ألا ينحرف عضو النيابة بسلطته المقررة بالفقرة الثانية من النص التي تمنع المحامي من الكلام إلا إذا أذِنَ له عضو النيابة، بأن يسمح للمحامي بالتداخل كلما أراد، وكان ذلك لمصلحة التحقيق كما تطلب القانون والعهود الدولية التي غايتها دائماً الحفاظ على حقوق المتهم كإنسان، وأهمها حصوله على مُحاكمة منصفة وفقاً للمقرر بالمادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والتي لا تتحقق بغير ضمان حق المتهم في الحصول على مدافع يختاره أو يقبله، في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة .

7. جرى نص المادة (135) من قانون الإجراءات الجنائيةِ على أنه «يجب أن يمكّنَ محامي المتهم من الإطلاع على التحقيق قبل الاستجواب أو المواجهة بيومٍ على الأقل ما لم يقرر عضو النيابة العامة غير ذلك». ولتعزيز دور النيابة العامة في توفير ضمانات المتهم، ومن باب حُسن الصناعة التشريعية، كان يتعين أن يتطلب نص القانون هنا أن يُسبب عضو النيابة قراره في هذه الحالة.

وفي جميع الأحوال لا يجوز الفصل بين المتهم ومحاميه الحاضر معه أثناء التحقيق، فهما يُعتبران من جهة الحضور شخصاً واحداً بحسب عبارة الأستاذ الفقيه رؤوف عبيد؛ مما مقتضاه ولازمه أن ظهور المحامي في دور إيجابي مع المتهم يحقق مزيداً من الضمانات التي تطلبها الدستور والقوانين المحلية، والعهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي تعلو مرتبة على التشريع الوطني لو تعارضا، كما تدفع عن إجراءات التحقيق شبهة مخالفة القانون، وتُحصِنُها من الدفوع بالبطلان، أثناء فترة المحاكمة، على أساس مُخالفة الشرعية الإجرائية.

نظّم قانون الإجراءات الجنائية مسألة سلطة النيابة العامة في حبس المتهم احتياطياً على ذمة التحقيق، وذلك في النصوص التالية من قانون الإجراءات الجنائية، كما في المادة (142) التي تُقرر أنه: «إذا تبين بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه أن الدلائل كافية وكانت الواقعة جناية أو جنحة معاقباً عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر، جاز لعضو النيابة العامة أن يصدر أمراً بحبس المتهم احتياطياً.

ويجوز دائماً حبس المتهم احتياطياً إذا لم يكن له محل إقامة ثابت ومعروف في دولة البحرين وكانت الجريمة جنحة معاقباًَ عليها بالحبس».

مادة (143): يجب عند إيداع المتهم السجن بناء على أمر الحبس أن تسلم صورة من هذا الأمر إلى مأمور السجن بعد توقيعه على الأصل بالاستلام.

مادة (144): لا يجوز تنفيذ أوامر القبض والإحضار أو أوامر الحبس بعد مضي ستة أشهر من تاريخ صدورها ما لم يعتمدها عضو النيابة العامة لمدة أخرى.

مادة (145): لا يجوز لمأمور السجن أن يسمح لأحد أفراد السلطة العامة من غير المأذون لهم بتفتيش السجن والاتصال بالمحبوس داخل السجن إلا بإذن كتابي من النيابة العامة، وعليه أن يدوّن في دفتر السجن اسم الشخص الذي سمح له بذلك ووقت المقابلة وتاريخ ومضمون الإذن.

مادة (146): للنيابة العامة أن تأمر بعدم اتصال المتهم المحبوس بغيره من المسجونين وبألا يزوره أحدٌ وذلك من دون إخلال بحق المتهم في الاتصال دائماً بالمدافع عنه من دون حضور أحد.

مادة (147): الأمر بالحبس الصادر من النيابة العامة لا يكون نافذ المفعول إلا لمدة السبعة أيام التالية لتسليم المتهم لها. وإذا رأت النيابة العامة مدّ الحبس الاحتياطي وجب قبل انقضاء مدة السبعة أيام أن تعرض الأوراق على قاضي المحكمة الصغرى ليصدر أمره بعد سماع أقوال النيابة العامة والمتهم بمد الحبس لمدة أو لمدد متعاقبة لا يزيد مجموعها على خمسة وأربعين يوماً أو بالإفراج عن المتهم بكفالة أو بغير كفالة.

وفي الجرائم المنصوص عليها في الباب الأول من القسم الخاص من قانون العقوبات يكون للنيابة العامة سلطات قاضي المحكمة الصغرى المنصوص عليها في الفقرة السابقة.

مادة (148): إذا لم ينتهِ التحقيق ورأت النيابة العامة مد الحبس الاحتياطي زيادة على ما هو مقرر بالمادة السابقة وجب قبل انقضاء المدة سالفة الذكر إحالة الأوراق إلى المحكمة الكبرى الجنائية منعقدة في غرفة المشورة لتصدر أمرها بعد سماع أقوال النيابة العامة والمتهم بمد الحبس مدداً متعاقبة لا تزيد كل منها على خمسة وأربعين يوماً إذا اقتضت مصلحة التحقيق ذلك أو الإفراج عن المتهم بكفالة أو بغير كفالة.

ومع ذلك يتعين عرض الأمر على النائب العام إذا انقضى على حبس المتهم احتياطياً ثلاثة شهور وذلك لاتخاذ الإجراءات التي يراها كفيلةً للانتهاء من التحقيق.

وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على ستة شهور ما لم يكن المتهم قد أعلن بإحالته إلى المحكمة المختصة قبل انتهاء هذه المدة، فإذا كانت التهمة المنسوبة إلى المتهم جناية فلا يجوز أن تزيد مدة الحبس الاحتياطي على ستة شهور إلا بعد الحصول قبل انقضائها على أمر من المحكمة المختصة بمد الحبس مدةً لا تزيد على خمسة وأربعين يوماً قابلة للتجديد لمدد أخرى مماثلة وإلا وجب الإفراج عن المتهم.

والملاحظ أن المادة (148) وبعد أن وضعت سقفاً زمنياً للحبس الاحتياطي مقداره ستة شهور، عادت لتفرغ هذا القيد الزمني من محتواه، فأجازت طلب تجديد الحبس لما يزيد على ذلك بطلب من المحكمة لمدة (45) يوماً قابلة للتجديد ومن دون سقف زمني، وبذلك تستطيع النيابة أن تحبس المتهم من دون حكم، وفي ذلك تطويحٌ بقرينة البراءة؛ مما استوجب بحث هذه المسألة، لحثّ المشرع على التدخل صيانةً لحقوق المتهم؛ وخصوصاً إذا نظرنا لتخلف نُظمِنا القانونية عن ركب الأمم المتمدنة.

فهذه فرنسا وفي قانون صادر في (14 يوليو/ تموز) لسنة (1865) توجب الإفراج عن المتهم بعد انقضاء خمسة أيامٍ على حبسه احتياطياً، إذا كانت العقوبة المقررة للفعل المسند للمتهم أقل من سنتين، ثم جاء تعديل لذلك القانون سنة (1933) فأوجب الإفراج عن المتهم بعد خمسة أيام، إلا إذا أصدر القاضي أمراً مُسبباً باستمرار الحبس.

قيود على الحبس الاحتياطي

وواصل المشرع الفرنسي التدخل مستهدفاً توفير مزيدٍ من الضمانات لحقوق وحريات الأفراد، أثناء التحقيق معهم لدى النيابة العامة، فاستحدث نظام المراقبة القضائية، وذلك بموجب القانون الصادر سنة (1970)، وكان مِسكُ ختام التعديلات التشريعية في فرنسا القانون الذي صدر في (15 يونيو/ حزيران 2000) حيث أنشأ نظام قائمة الحريات والحبس الاحتياطي الذي يكون له بناءً على طلب لقاضي التحقيق، إحلال إجراء آخر محل الحبس الاحتياطي. ويتجه الفقه القانوني الحديث لاعتبار الأمر بالحبس الاحتياطي حكماً تمهيدياً بعقوبة تسبق الإدانة، فضلاً عن أن طول مدة الحبس الاحتياطي إن لم يكُنْ تضليلاً للعدالة فهو على أقل تقدير يُشكل تأثيراً على المحكمة؛ إذ يُلقي في روعها أن المتهم ذو خطورة جُرمية على المجتمع، أو أن أدلة النيابة العامة من المتانةِ بما يُرجح الحكم عليه بالإدانة، وذلك أمر مهما كانت احتماليته ضعيفة، فهو يصل لحد إجهاض العدالة، وبالتالي، ومع القصور التشريعي الذي يواجهنا، يمكن للنيابة العامة، بالوصف الذي تتباهى به دائماً، وهو حماية الشرعية القانونية وتحقيق العدالة، تستطيع أن تسير في شأن الحبس الاحتياطي وفق القيود المتعلقة بالمتهم المقرر حبسه احتياطياً والقيود المتعلقة بالأمر الصادر بحبسه، وذلك على النحو التالي:

أ- كشَفَ الواقع العملي سوء استخدام إجراءات الحبس الاحتياطي وكثرة اللجوء إليه دونما حاجة، فضلاً عن ضرورة، ما اضطر المشرع للتدخل في الكثير من الدول لفرض قيودٍ عدة؛ بهدف ترشيد اللجوء للحبس الاحتياطي حمايةً لحقوق الإنسان عندما يكون مُتهَماً، ومع ذلك بقيت تلك القيود التشريعية قاصرةً عن مُحاصرة التعسف في الأمر بالحبس الاحتياطي، ووضعه في موضعه كإجراء احترازي شديد الاستثنائية.

ففي حين لاتزال التشريعات العربية، بشكل عام، تسير على خُطى التشريع المصري؛ بوصفه أصلها التاريخي، من إجازة الحبس الاحتياطي متى كانت الواقعة جناية، أو جنحة تزيد عقوبتها على ثلاثة أشهر، كما هو المقرر بحكم المادة (-142- من قانون الإجراءات الجنائية البحريني والتي تقابل المادة – 2/134 من التشريع المصري)، نجد التشريع الفرنسي السابق للتشريعين المذكورين بعقود كثيرة يضع قيوداً هي كون عقوبة الجنحة لا تقل عن ثلاث سنوات حتى يجوز الحبس الاحتياطي، ومنعته فيما هو أقل من ذلك الحد. وفلسفة ذلك القيد هي أنه مادام المشرع قد فرض عقوبة الحبس لمدة قصيرة، وأجاز العقوبات البديلة لها فمن باب أولى يكون الحال بالنسبة للحبس الاحتياطي، بوصفه إجراءً احترازياً أثناء مرحلة التحقيق.

حبس الصحافيين والأطفال

كما أن شخصية المتهم لابد أن تكون ضمن القيود على سلطة النيابة في الأمر بالحبس الاحتياطي، كالصحافيين، حيث هناك توجه عالمي لعدم حبسهم إطلاقاً على جرائم تتصل بعملهم، فمن باب أولى أنه لا يجوز حبسهم احتياطياً.

كما يتعين التحوط في حبس الأطفال وفق تعريف الطفل في ظل الاتفاقيات الدولية التي تسمو على التشريع الوطني، من دون التفاتٍ لأي تفسير سياسي لنصوص القانون، بما يطوّح بكل الضمانات القانونية للحقوق والحريات العامة ويهدم فلسفة التشريعات الجنائية التي تقوم على قاعدة أن الشك يُفسرُ لصالح المتهم، فإذا قام الشك هنا في تحديد سن الطفولة وجب حملها على الأصلح واتباع نهج العهود الدولية من أجل ذلك؛ لما فيها من تخفيفٍ على المتهم، كما يتعين وعلى سبيل الاستعجال أن يتدخل المشرع باشتراط تسبيب قرارات النيابة العامة بدلاً من إيرادها بعبارة نمطية «ما لم ترَ النيابة غير ذلك أو إذا رأت النيابة غير ذلك».

ختاماً ندعو بالسلامة لكل أشقائنا المواطنين العرب في هذا الوطن العربي الممتد من البحرِ إلى البحرِ في ظل عدم وضوح الرؤية القانونية بشأن ضمانات المتهم منذ اعتقاله وخلال التحقيق معه ومحاكمته، ثم أثناء تنفيذه لمحكوميته. (انتهى).

إعادة نشر بواسطة محاماة نت