استخدام وسيلة التحليل التخديري في التحقيق

المؤلف : بن لاغة عقيلة
الكتاب أو المصدر : حجية ادلة الاثبات الجنائية الحديثة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت

أولا: الجوانب الفنية لاستخدام التحليل التخديري:
1- التعريف بوسيلة التحليل التخديري.
لقد قام الباحث فيزي vissie في عام 1925 بنشر الأغراض الناشئة عن استخدام عقار سكوبولامين، واكتشف أن الشخص الخاضع لتأثير هذا المخدر يكون فاقد الوعي ولا يمكنه التحكم في إرادته، وفي عام 1930 قام العالم الانجليزي هورسلي هو الأخر بملاحظة أن الشخص الذي يكون تحت تأثير بعض الأنواع المخدرة يفقد السيطرة على وعيه مما يجعله يبوح بأسرار، خاصة ما كان ليبوح بها لو كان بكامل وعيه(1)

كما اتجهت أبحاث علم النفس الجنائي هو الأخر نحو الاستفادة من وسائل التحليل النفسي من اجل الاستفادة بها في عملية الإثبات الجنائي، ويعد سيجموند فرويد أول من اهتم بالتحليل النفسي وعلق أهمية كبيرة على اللاشعور أو العقل الباطن، واتخذ منه وسيلة للوصول إلى ما تخفيه النفس البشرية من ذكريات ورغبات وانفعالات، وقد استخدمت طريقة مماثلة لطريقته بوصفها أسهل وتؤدي إلى نتائج أسرع منها، عن طريق حقن الأشخاص بمادة مخدرة، أطلقت عليها تسميات مختلفة مثل العقاقير المخدرة، ومصل الحقيقة والتحليل عن طريق التخذير.

والجدير بالذكر أن استعمال مادة الكلوروفورم في الأبحاث الطبية هو الذي شد انتباه الأطباء إلى هذه المسألة، حيث وجدوا أن الأشخاص الذين يوضعون تحت تأثيره يتكلمون بسهولة لتجردهم من الرقابة المفروضة على وعيهم، ولقد بدا استخدام هذه الطريقة في المجال الطبي بهدف تشخيص الأمراض النفسية ومعالجتها، ولقد أدت هذه النتائج المتوصل إليها عن طريق هذه الوسائل إلى شد انتباه علماء القانون للاستعانة بها في فك عقدة اللسان، الأمر الذي أدى إلى مناداة البعض بضرورة استعمال التحليل التخذيري كوسيلة للكشف عن الجرائم والمجرمين(2) يعتبر التحليل التخديري أو ما يسمى بمصل الحقيقة نوع من العقاقير المخدرة التي تستخدم لإحداث نوع من التخفيض أو التعطيل في التحكم الإرادي لدى الفرد، ونزع حواجز عقله الباطن بما يمكن معه التعرف على المعلومات المختزنة في داخل النفس البشرية، فيفضي بما في داخل نفسه من مؤثرات وصدمات سابقة تعرض لها في حالة الإدراك والوعي”.(3)
2- كيفية استخدام التحليل التخديري.
يتم استخدامه عن طريق حقن الشخص المراد سؤاله أو استجوابه بالمادة المخدرة، بعد ذلك يدخل الشخص في حالة تخدير ويمكن تقسيم مراحل التخدير إلى ما يلي:
أ- مرحلة الإعداد النفسي: وهذه المرحلة تسبق عملية الحقن بالعقار المخدر، حيث يستلقي الفرد على سرير ويوضع رأسه على وسادة مرتفعة قليلا في الوضع الذي يجعل عضلاته في أكثر حالات الاسترخاء الممكنة ويتم ذلك بحجرة هادئة خافتة الإضاءة وترجع فائدة هذه المرحلة إلى إيجاد جو من الثقة بين الفرد وبين الطبيب القائم على عملية التخدير.
ب- مرحلة الحقن: وتتم هذه المرحلة عن طريق الحقن الوريدي للمخدر في بطء شديد، ويلاحظ أن كمية المخدر المستخدمة تختلف من شخص إلى آخر وذلك بحسب درجة حساسيته، أما عن المادة المخدرة فأنواعها كثيرة غير أن المادة الأكثر شيوعا هي مادة بنتوثال الصوديوم، ويحدد الطبيب درجة حساسية الشخص وحالته الصحية وكذا المادة المخدرة قبل عملية الحقن.
ج- مرحلة التخدير: عقب عملية الحقن يدخل الفرد في حالة الثبات، وبعدها يدخل إلى مرحلة التخليط النومي الذي يقترب من النوم ولا يصل إليه لمدة حوالي 2 إلى 3 دقائق ويعقب هذه المرحلة مرحلة النصف شعور، وفي المرحلتين الأخيرتين يزداد وضوح الذهن، وتختفي حالة التردد وتضعف الإرادة وتظهر اتجاهات الفرد الداخلية، واهتماماته المكبوتة في حالة اليقظة، فيتكلم ويبدأ في الحديث عن أسراره وذكرياته(4)
ثانيا: مشروعية التحليل التخديري.
لم تسلم وسيلة التحليل التخديري هي الأخرى من النقد، فلقد ثار جدل فقهي وقانوني حول مدى مشروعية استخدامها للحصول على اعترافات المتهمين أو المشتبه بهم. وفيما يلي سوف ندرج موقف الفقه والقوانين المقارنة بخصوص مشروعية الاستعانة لهذه الوسيلة في المجال الجنائي.
1- موقف الفقه :
انقسم الفقه بشأن هذه المسألة إلى اتجاهين، الأول يدافع ويؤيد استخدام هذه العقاقير في مجال كشف الجريمة، في حين ذهب الفريق الثاني إلى ومعارضة الاعتماد على العقاقير المخدرة ولكل حججه ومبرراته وسوف نتناول كلا الاتجاهين وما استندوا إليه.
أ- الاتجاه المؤيد: ذهب جانب من الفقه إلى تأييد استخدام العقاقير المخدرة والقول بأنه لا يوجد مانع قانوني يحول دو استجواب المتهم بواسطة هذه العقاقير، خاصة إذا تم ذلك برضا المتهم، أو بناءا على طلبه من اجل تبرئة نفسه(5) ولقد أسسوا قبولهم هذا مستندين إلى عدد من الحجج منها :
– أن يتم استخدام العقاقير المخدرة برضاء المتهم أو بناءا على طلب منه وسيهم هذا القبول في تحقيق موازنة بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد معا، من خلال الكشف عن الحقيقة، ومعرفة البواعث التي دفعت بالمتهم لارتكاب الجريمة.
– يمكن إخضاع النتائج المستمدة من استعمال العقاقير المخدرة للمراجعة الدقيقة، شأنها في ذلك شأ باقي طرق البحث التقليدية، وطبقا لمبدأ حرية القاضي في تكوين إقناعه يمك للقاضي استبعاد أي دليل يشوبه البطلان(6)
– كما استند أنصار هذا الاتجاه إلى أنه يجوز استخدام هذه العقاقير المخدرة في الجرائم الأشد خطورة، مثل جرائم القتل، الاغتيال… شرط أن يكون هناك دلائل قوية للاتهام، وقد اعتبروا هذا الإجراء استثنائي يلجأ إليه عند الضرورة(7) ليس هناك آية مخاطر مؤثرة على السلامة النفسية أو المادية للشخص من جراء مباشرة هذا الأسلوب، خاصة إذا قام بعملية التخدير طبيب مختص(8)
ب – الاتجاه الرافض لاستخدام العقاقير المخدرة: لقد وجه معارضو وسيلة التحليل التخديري انتقادات شديدة لهذه الوسيلة، يمكن إجمالها فيما يلي:
– ضعف مصداقية النتائج المتحصل عليها من هذه الوسيلة: إن النتائج التي يتم التوصل إليها عن طريق استخدام التحليل التخديري ما زالت تثير شكوك الباحثين، لأن العلم لم يصل بعد إلى التأكد من صحة النتائج المتحصل عليها، إضافة إلى هذه النتائج لا تتسم بدرجة كبيرة من الدقة، فنتيجة استخدام العقاقير المخدرة قصد العلاج النفسي يكون لها آثار ايجابية لدرجة الثقة التي يعطيها المريض لطبيب المعالج، لكن استخدام هذه الوسيلة على المجرم يكون أثاره سلبية ذلك، لأن المتهم يحاول الكذب بغية الإفلات من العقاب الأمر الذي يؤثر على النتائج المتحصل عليها.(9)
– الاعتداء على حقوق المتهم: إن إباحة استخدام العقاقير المخدرة يتعارض مع النزاهة الذي يحكم التحقيق الجنائي والذي يقض إن للمتهم الحق في التزام الصمت، حيث تستدعي مصلحته أن يتكلم، كما أنه ومن جانب آخر لا يمكن للخاضع لهذه التجربة أن يدافع عن نفسه، ويقدم تبريراته التي تنفي ما هو موجه إليه من تهم(10) إضافة إلى ذلك فإن استخدام هذه الوسيلة يصطدم بعقبة أساسية وهي أن تكون الاعترافات التي يدلي بها المتهم وليدة استجواب نزيه، بعيدا عن وسائل الحيل أو المباغتة.(11)
– يشكل استخدام التحليل التخديري جريمة: مما لا شك فيه إن استخدام هذه الوسيلة عن طريق إعطاء الشخص العقاقير المخدرة أو الحقن، حتى لا يستطيع التحكم في إرادته ويفقد القدرة على الاختيار والتحكم الإرادي، وهذا قد يعتبر في حد ذاته جريمة. و بالرغم من أن الفقه سلم بان استخدام هذه الوسيلة يعد جريمة، إلا أنهم اختلفوا في تكيفها، فمنهم من يقول أنها جريمة ضرب أو جرح، ومنهم من يقول أنها جريمة إعطاء مواد ضارة(12)
لذلك يجب التفرقة بين أمرين:
– إذا كان استخدام هذه الوسيلة عن طريق العقاقير المخدرة: إذا تم التحليل التخديري عن طريق العقاقير المخدرة، قامت جريمة إعطاء مواد ضارة، وذلك لان هذه العقاقير المخدرة تؤدي إلى الإخلال بيسر الأجهزة العضوية، ويتحقق هذا الإخلال إذ ما توقفت وظيفة من الوظائف أيا كانت مدة توقفها، فإذا ما ترتب على المصل أو العقار الإغماء أو العجز اعتبر ذلك إضرار بالصحة، ويتسع مدلول الصحة ليشمل الصحة البدنية والنفسية على السواء(13)
– أن تكون الوسيلة المستخدمة في التحليل هي الحقن: إذا كانت الوسيلة المستخدمة في التحليل التخديري هي الحقن نكون بصدد الركن المادي لجريمة الضرب والجرح(14)
2- موقف التشريع:
أ- موقف التشريعات المقارنة: تتجه اغلب التشريعات إلى حظر الاستعانة بهذه الوسيلة في المجال الجنائي لان استخدامها يشكل اعتداء على الحرية الشخصية للفرد ومساسا بكرامته والتغلغل في مكنون سره للوصول إلى معلومات سرية. لذلك فقد نص المشرع الايطالي في قانون العقوبات وفي المادة( 213 ) على معاقبة كل من تسبب في سلب حرية الإرادة، والتفكير لدى الشخص من خلال استخدام العنف أو التنويم المغناطيسي أو باستخدام المواد الكحولية والمخدرة سواء كان ذلك بموافقته أم بدونها(15)
أما بالنسبة لموقف المشرع المصري، فقد قضت محكمة النقض بحظر استعمال هذه الوسيلة، لأنها تعد من قبيل الإكراه المادي الذي يؤثر في أقوال المتهم الصادرة بناء عليها، فيشوبها البطلان(16)
ب – موقف المشرع الجزائري: لم ينص المشرع الجزائري صراحة على عدم مشروعية استعمال التحليل التخديري، إلا أنه وباستقراء نص المادة 100 من قانون الإجراءات الجزائية، يتضح لنا عدم مشروعية هذا الإجراء من أجل الحصول على اعتراف من المتهم، لأن المشرع يؤكد في نص هذه المادة على أنه:” يتحقق قاضي التحقيق حين مثول المتهم لديه لأول مرة من هويته ويحيطه علما صراحة بكل واقعة من الوقائع المنسوبة إليه، وينبهه بأنه حر في عدم الإدلاء بأي إقرار وينوه عن ذلك التنبيه في المحضر، فإذا أراد المتهم أن يدلي بأقواله تلقاها قاضي التحقيق منه على الفور…”.وبما أن هذه العقاقير تفقد الشخص القدرة على الاختيار والتحكم الإرادي، فالواضح أن المشرع يرفض استخدام هذه الوسيلة من اجل الحصول على اعتراف المتهم.

ولكن تجدر بنا الإشارة إلى أن المشرع الجزائري نص وفي المادة 68 من ق إ ج على أنه: “…ويجوز لقاضي التحقيق أن يأمر بإجراء الفحص الطبي كما له أن يعهد إلى طبيب بإجراء فحص نفساني أو يأمر باتخاذ أي إجراء يراه مفيدا. وإذا كانت تلك الفحوص الطبية قد طلبها المتهم أو محاميه فليس لقاضي التحقيق أن يرفضها إلا بقرار مسبب.” ويتضح لنا من نص هذه المادة أن المشرع أجاز اللجوء إلى الفحص النفساني من تشخيص وعلاج الأمراض، أي من أجل الكشف عن انعدام الإرادة أو الإدراك عند المتهم بغرض علاجه، وليس من اجل الحصول على اعترافه.
___________________________
1- العقيد غازي مبارك الذنيبات، التنويم المغناطيسي و مصل الحقيقة في مجال التحقيق الجنائي، الندوة العلمية ،الجوانب الشرعية والقانونية لاستخدام الوسائل العلمية الحديثة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، عمان، 2007 ، ص 8 .
2- كوثر أحمد خالند، الإثبات الجنائي بالوسائل العلمية، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية القانون و السياسة، جامعة صلاح الدين، العراق، 2007 ، ص، 65 .
3- فيصل مساعد العنزي، أثر الإثبات بوسائل التقنية الحديثة على حقوق الإنسان، بحث مقدم للحصول على درجة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية،عمان،2007 ، ص 95
4- مصطفى محمد الدغيدي، التحريات والإثبات الجنائي، دار الكتب القانونية، مصر، 2006 ، ص 265
5- محمد حماد الهيتي، التحقيق الجنائي والأدلة الجرمية، الطبعة الأولى، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2010 ، ص 374 .
6- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع السابق، ص 273 .
7- عادل عبد العال خراشي، ضوابط التحري والاستدلال عن الجرائم في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، دون طبعة، دار الجامعة الجديدة للنشر، الإسكندرية ، ص 431
8- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع السابق، 274 .
9- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع نفسه، ص 268.
10- محمد حماد الهيتي، المرجع السابق، ص 376 .
11- مصطفى محمد الدغيدي، المرجع السابق، ص 273.
12- رمزي رياض عوض، المرجع السابق، ص 151 .
13- رمزي، رياض عوض، سلطة القاضي الجنائي في تقدير الأدلة، دون طبعة، النشر دار النهضة العربية، القاهرة، 2004 ،ص 151 .
14- رمزي رياض عوض، المرجع نفسه، ص 152 .
15- كوثر أحمد خالند، المرجع السابق، ص86.
16- عادل عبد العال خراشي، المرجع السابق، ص 433