عقود الإنشاءات العامة – التوازن مقابل التكلفة
تبرم الدولة العديد من العقود للإنشاءات العامة والتوريدات والعديد من الخدمات التشغيلية وغيرها. تستحوذ هذه العقود مجتمعة على قدر كبير من الإنفاق الحكومي إن لم تكن الحصة الأكبر في بنود الموازنة العامة ، مما يوجب التحديث المستمر لهذه العقود وتصميمها وإدارتها وفق معايير إحترافية متقدمة.

تتسم العقود الحكومية بالنزعة القانونية ، وهي أقرب للمواد النظامية منها للرؤية العملية . ورغم ما مرت به من مراجعات وتحديثات إلا إنها حافظت على بنيتها الهيكلية في إطار السيادة النظامية العامة وفق مرجعيات نظامية مقيدة ، تحد من استيعابها لكثير من الاشكاليات والتعقيدات العملية التي تتبدل بتبدل الظروف . في هذا الطرح نقدم وجهة نظر تستعرض الجوانب الجوهرية التي نرى ضرورة تطويرها بما يتوافق مع الإستراتيجيات المثالية للشراء ، التي تحقق أفضل الحلول بأفضل الأسعار.

ما يتفق عليه مختصو العقود أن بنود العقود تؤثر سلبا وإيجابا على العطاءات المقدمة ، فكلما أحكم العميل قبضته على بنود العقد كلما أحكم مقدمو العروض قبضتهم على السعر. وجديرا بالقول إن كل بند بالعقد يقابله تكلفة مالية مباشرة أو غير مباشرة. بالنظر لهذه المسودة الموحدة التي تستخدم في كل الأعمال ومع جميع المتعاقدين نجد أنها مدججة باشتراطات نظامية وفنية، عدا القيود القانونية التي قد تفوق في مخرجاتها ومضامينها ما يحتاجه المشروع أو العمل المراد تنفيذه . هذه البنود في تقييمها من قبل المتقدمين تصنف كمخاطر توجب التحوط من خلال رفع التكلفة المالية بما يقابل كل شرط أو قيد . فهي – أي البنود – رغم ما توفره من حصانة قانونية وفنية للعقد من وجهة نظر معدية ، إلا إنها في المحصلة النهائية تكلفة مضافة لقيمة العقد الإجمالية ، وفي أحيان كثيرة تضطر كثيرا من المتقدمين للانسحاب،مما يضيق دائرة المنافسة و فرصة تنوع الحلول المعروضة.

عقود الأعمال في مبدأها يفترض أن تكون آلية مشتركة تنظم العلاقة وتخرج بها لبر الأمان بما يحقق مصلحة الطرفين ، فهي تساعد المقاول على تنفيذ العمل محل التعاقد وتمكن الجهة الحكومية من الإشراف ومراقبة سير هذا العمل . إذا استوعبنا هذا الدور الوظيفي لمسودات العقود أدركنا أهمية التوازن والجوانب العملية في العقود التي نبرمها مع الأطراف الأخرى. للوصول لهذا التوزان الإيجابي يتوجب على العقود الحكومية الخروج من الاطر النظامية والتخلص من النزعة القانونية لطرح مسودات عملية تتفهم الجوانب التجارية والآليات التنفيذية التي تمكن المقاول من إتمام عمله. مع إدراكنا لأهمية المسؤولية التعاقدية وما يجب أن توفره وتوجيه وثائق العقود إلا إن الهدف الأسمى الذي من أجله ينشأ العقد وتلتقي به الإرادتين هو الحصول على الخدمة ، فالعقود تبرم لإنفاذ الأعمال وتحقيق المصالح لا لإدانة أطرافها وتكبيلهم . هذه البنود المجحفة التي عادة ما يفرضها الطرف الأقوى على الطرف الأضعف قد توفر الحماية النظامية والترسانة القانونية المحكمة ، إلا إنها في ذات الوقت قد تكون سببا رئيسيا في إخلال الطرف الأضعف بالتزاماته وبالتالي تعثر العقد وهو الأمر الذي يجب أن نتجنبه.

النموذج الحالي والمعروف لدى الجميع يعتبر مسودة بالية وجامعة ، تستخدم لمعظم إن لم تكن لكل الأعمال ومع جميع المنفذين . رغم المناشدات المتكررة من قبل العديد من المهتمين و لجان المقاولين والغرف التجارية المطالبة بالمراجعة الشاملة لـ مسودات العقود وتطبيق النماذج الحديثة مثل عقود فيديك (FIDIC ) على سبيل المثال ، إلا إن المراجعات ما زالت شكلية ومحدودة ، ولعل نظام المشتريات والمنافسة الجديد الذي يخول بتطبيق العقود الإطارية يسمح بتطوير شامل يستهدف البنية الهيكلية لـ مسودات العقود ، ويمنح التفويض اللازم لتكييفها وفق حاجة كل مشروع أو خدمة على حدة . المشاريع الحكومية عبارة عن مزيج من الخدمات والأعمال المتنوعة بهندسات وتقنيات مختلفة ، منها المرافق والمستلزمات الطبية ، وأعمال الإتصالات وتقنية المعلومات والشبكات ، والبنية التحتية ، والتوريد المباشر ، والأعمال المدنية . لا يمكن لمسودة موحدة أن تحيط بهذه الأعمال المتنوعة كما وكيفا. إن إعتماد نماذج مختلفة لكل عمل بحسب طبيعته وحجمه يعزز جودة المسودة وتركيزها على الاعمال المستهدفة ، ويسهل العملية الإدارية التي تمكن التنفيذ الأمثل لمعطيات العقد . فضلا عن أن هذه المسودة المخصصة ستتخلص من البنود الإضافية التي لا تمت للعمل بصلة وتكبل العقد بمخاطرها وهواجسها القانونية والنظامية .

إضافة لمسودة الشروط كركيزة أساسية فإن إدارة العقد وتنفيذه لا تقلان أهمية عن إعداده. الوضع القائم حاليا يعطي الإدارة لوزارة المالية والتي تمسك بزمام الحوكمة ولا تكاد تبقي شيئا للإدارات المعنية. هذا الدور يثقل كاهل الإدارات المالية التي تبتعد طبيعتها عن الجوانب الفنية ومراحل التنفيذ على أرض الواقع . يجدر بوزارة المالية وفروعها التمسك بإدارة الجوانب المالية من خلال مفاصل حوكمة ذكية ،لتبقى إدارة العقد ومراقبة تنفيذه مسؤولية إدارات المشاريع في الأجهزة المختلفة ، مع منح صلاحيات التعديل لمعالجات الإنحرافات بوقت قياسي دون الحاجة للمسار النظامي البيروقراطي الذي تتعثر معه كل حلول ممكنة. المعالجة المباشرة من قبل المختصين توفر آلية مرنة تساهم في الحد من التعثرات وتوفر الجهود والاعمال المتراكمة للجان المنازعات والمحاكم الإدارية ، فضلا عن أنها تعالج حجما هائلا من إشكاليات العقود التي غالبا ما ينتهي بها المطاف للتعثر في ظل غياب الآلية المرنة المدعومة بصلاحيات نظامية.

م. عبدالخالق بن شبرين القرني
مهندس حاصل على الاعتماد الدولي لإدارة العقود الهندسية
إعادة نشر بواسطة محاماة نت