مقدمة:

تعتبر المسؤولية المدنية من أهم وأبرز موضوعات قانون الالتزامات والعقود وأكثرها تعقيدا ومثارا للجدل، ولا غرابة في ذلك فموضوعات هذه المسؤولية هي ترجمة لواقع الحياة وما يطرأ عليها من منازعات وخصومات بين الأفراد وأحكامها تمثل الحلول القانونية لتلك المنازعات والخصومات، لذلك فقد فرضت نفسها وأرست وجودها في حياة الأفراد والمجتمع.

ولما كانت الحياة متطورة ومتجددة ومنازعاتها مستمرة ومتنوعة، فإنه كان من الطبيعي أيضا أن تكون أحكام وقواعد المسؤولية المدنية مواكبة لهذا التطور والتجدد.

وإذا كانت المسؤولية المدنية قد نشأت لتنظيم العلاقات الاجتماعية ووضع ضوابط للسلوك الإنساني، فإنها تسعى أيضا لتحقيق أحد أهم وظائفها الأساسية وهي ضمان تعويض المضرور عن الأضرار التي قد تلحق به، ومن هذا المنطلق يعتبر التعويض[1] أداة لتصحيح التوازن الذي اختل وأهدر نتيجة وقوع الضرر، وذلك بإعادة المضرور على حساب المسؤول الملتزم بالتعويض إلى الحالة التي كان مفروضا أو متوقعا أن يكون عليها لو لم يقع الفعل الضار.

فالتعويض[2] إذن هو جزاء ومقابل الضرر الذي أصاب المضرور، ولما كان الضرر يتمثل في الاعتداء على حق أو مصلحة للمضرور، فإن التعويض يتمثل بالتالي في إزالة أثر الاعتداء على حق أو مصلحة للمضرور.

والتعويض باعتباره أثر وجزاء المسؤولية المدنية، يتمثل في إزالة أو جبر الضرر الذي أصاب المضرور، والأصل أن يتم عينا، كما في إصلاح الضرر الذي لحق بمنزل المضرور أو سيارته، أو استبدال سيارة أخرى بهذه الأخيرة مماثلة، فإذا تعذر هذا التعويض العيني فإنه يتم إصلاح وجبر الضرر عن طريق التعويض بمقابل مالي أو نقدي، يتمثل بدفع مبلغ من النقود –أو ما يقابله- للمضرور يساوي قيمة الضرر الذي أصابه[3].

والتعريض يثير العديد من المسائل والموضوعات المهمة، يأتي في مقدمتها تقديره أي تحديد قدره، وعلى الرغم من الأهمية الخاصة لذلك التعويض، فقد وجدنا أن الفقه القانوني القديم لم يكن يميز –في بداية مراحل تطوره- بين المسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية، لذلك كان التعويض يختلط بفكرة العقوبة باعتبارها جزاءا خاصا، وقد ترتب على ذلك الخلط بين التعويض والعقوبة أو الجزاء الخاص والجزاء العام، و تقدير التعويض كان يراعى فيه نفس عوامل تقدير العقوبة، أي الإعتداد بمسلك المسؤول عن التعويض، فكانت جسامة الخطأ تعد عنصرا أساسيا في تقدير التعويض، لذلك كان التعويض يقدر تقديرا شخصيا فيتوقف في مداه على جسامة خطأ المسؤول.

ولكن بعد الفصل بين المسؤوليتين: الجنائية والمدنية، وما ترتب على ذلك من الفصل والتمييز بين التعويض المدني والعقوبة الجنائية، أصبح للتعويض وجوده الذاتي المستقل، باعتباره وسيلة جبر الضرر، متميزا عن العقوبة الجنائية وتخلى بذلك عن كل آثار جنائية علقت به، وأصبح تقديره يتوقف فقط عن مدى وقيمة الضرر الذي لحق المضرور، ولا تأثير من حيث الأصل لدرجة جسامة الخطأ، فالخطأ الجسيم كالخطأ اليسير، وكالخطأ العمد، تؤدي جميعا إلى نتيجة واحدة من حيث تقدير التعويض[4].

وهكذا أصبح التعويض يقدر تقديرا موضوعيا، تكون العبرة فيه بمدى الضرر، وليس بجسامة الخطأ.

بيد أن التقدير الموضوعي للتعويض قد يكون تقديرا موضوعا بحثا أو مطلقا، لا يقتصر عدم الاعتداد بالظروف الشخصية، على تلك الخاصة بالمسؤول، بل وأيضا بتلك الظروف الخاصة بالمضرور.

وهذا الاتجاه الموضوعي المطلق في تقدير التعويض، والذي يتميز بثباته وعدم تغيره من شخص إلى آخر بالنسبة لنفس الإصابة، يجد تطبيقه النموذجي في نظام الضمان في الفقه الإسلامي[5] سواء فيما يتعلق بضمان أذى النفس أو ضمان إتلاف المال في بعض صوره.

فبالنسبة لأذى النفس فإن ضمانه –أي تعويضه- يقدر تقديرا واحدا بالنسبة لجميع الأشخاص ويتمثل في الدية التي تقوم على المساواة بين جميع الأفراد، والمحددة شرعا ومسبقا، يستوي في استحقاقها الذمي والمستأمن والمسلم[6].

نفس الموضوعية البحثة أو المطلقة في تقدير التعويض نجدها أيضا بالنسبة لضمان إتلاف المال في الشريعة الإسلامية.

فالنظام الإسلامي يتطلب لاستحقاق الضمان في حالة تلف المال أن يكون المضمون مالا متقوما في ذاته، وأن توجد المماثلة بينه وبين المال الذي يعطي بدلا منه[7].

ومن ناحية أخرى، فإن الضمان هنا، كما في نظام الدية، لا يعتد بالخطأ وجسامته، ولا بالظروف الخاصة بالمسؤول أو المضرور من حيث الثراء والمركز الاجتماعي.

ولما كان التقدير الموضوعي للتعويض لا يعتد بالظروف الخاصة للمسؤول فيغفل كل تأثير لهذه الظروف، بصفة خاصة جسامة خطئه، وقد أدى ذلك إلى توجيه النقد والهجوم من بعض الفقهاء، في محاولة منهم لإحياء التقدير الشخصي، الذي يعتد بدرجة جسامة خطأ المسؤول في تقدير التعويض الذي يتحمله.

ظهر هذا الاتجاه في ألمانيا، حيث لاحظ الفقيه “أهرنج” تشدد المحاكم الألمانية في تقدير التعويض، لاعتدادها بالضرر الذي حدث فقط، وإغفالها درجة جسامة خطأ المسؤولية كلية، على الرغم من أن مقتضيات العدالة –لديه- تقتضي ضرورة الموازنة بين المسؤولية، أي التعويض ودرجة الخطأ فيزداد التعويض في حالة الخطأ العمد أو الغش، وينقص إذا كان الخطأ يسيرا أو تافها.

وما لبث أن انتقل هذا التفكير الذي يدعو إلى عودة التقدير الشخصي للتعويض إلى بعض فقهاء القانون الفرنسي، وفي مقدمتهم الفقيه “إيجيني” الذي رأى قصور وعدم كفاية نظام التعويض المؤسس على مدى الضرر وحده دون جسامة خطأ المسؤول، مستندا في ذلك إلى أن هناك حالات يصعب فيها تحديد الضرر الذي لحق المصاب ومدى هذا الضرر تحديدا دقيقا.

ومن تم يصعب تقدير التعويض المقابل له، إضافة إلى أن منع الإضرار بالغير يتطلب في بعض الحالات ردعا خاصا أو عقوبة خاصة أشد وأبلغ أثرا من التعويض.

لهذه الاعتبارات نادى “إيجني” بضرورة الاعتداد في تقدير التعويض بمدى جسامة الخطأ، أي الاعتداد بشخص محدث الضرر ومسلكه[8].

وهذا الاتجاه تعتنقه العديد من التشريعات[9] التي تنظم كمبدأ عام تأثير جسامة خطأ المسؤول على مدى التعويض الذي يتحمله.

وهو نفس الاتجاه الذي تبناه المشرع المغربي، حيث تنص المادة 98 من قانون الالتزامات والعقود “…ويجب على المحكمة أن تقدر الأضرار بكيفية مختلفة حسبما تكون ناتجة عن خطأ المدين أو عن تدليسه.”

وبذلك يكون المشرع المغربي قد تبنى التقدير الشخصي للتعويض الذي يعتد بالإضافة إلى الضرر الذي أصاب المضرور بخطأ المسؤول وجسامته.

Ãتحديد موضوع البحث ونطاقه

إن الأصل في التعويض أن يتم قضائيا أي بواسطة القاضي، إلا أنه يجوز للأطراف أن تتفق مقدما على قدر التعويض الذي يستحق عند تحقق شروطه، فيكون التعويض عندئذ اتفاقيا، كما يتدخل المشرع في حالات معينة ليحدد قدر التعويض، فيكون تحديده عندئذ تشريعيا، وهكذا يتم تقدير التعويض وتحديد قدره، إما عن طريق القضاء (التقدير القضائي)، وإما عن طريق الاتفاق (التعويض الاتفاقي للتعويض أو الشرط الجزائي)، وإما تشريعيا (التحديد القانوني للتعويض).

ونظرا لما يثيره التقدير القضائي للتعويض من مشاكل قانونية تحتاج إلى الدراسة والتحليل، فقد ركزنا دراستنا عليه خصوصا إذا علمنا أن قانون الالتزامات والعقود المغربي جاء خلوا من أي نص في هذا الشأن عكس بعض التشريعات الأخرى[10].

أما التقدير الاتفاقي فيتولى تحديده وتقديره الأطراف، والمشرع عزز تدخل القاضي فيه بمقتضى المادة 264 من ق.ل.ع، في حالة ما إذا كان التعويض المتفق عليه مبالغا، فيه أو زهيدا، وذلك بتخفيضه أو رفعه، هذا فضلا على أن التعويض الاتفاقي مجاله هو المسؤولية العقدية ولا يمكن تصوره في المسؤولية التقصيرية إلا نادرا، وبالتالي فإنه بعيد كل البعد عن موضوع بحثنا.

كما أن التقدير القانوني بدوره لا يثير أي إشكالات على اعتبار أن المشرع تولى بنفسه تحديد المعايير والمقاييس التي يتم على أساسها هذا التعويض[11].

Ãأهمية الموضوع وصعوبات البحث

تنبع أهمية البحث، من كون هذا الموضوع -العوامل المؤثرة في تقدير التعويض عن الفعل الضار- يعد بحق، من أدق موضوعات المسؤولية المدنية بالنظر لما يثيره من إشكالات نظرية وعملية على السواء احتدم بشأنها الجدل فقها وقضاء.

وكذلك لارتباط فكرة التعويض بالحياة العملية المتشابكة للأطراف ولاتصالها اتصالا وثيقا بعلاقات الأفراد وأعمالهم، حتى إنه ليمكن القول إنه ما من تصرف قانوني أو فعل مادي إلا ويحتمل أن يترتب عليه أو ينشأ عنه ادعاء بالتعويض، لأن الحياة بطبيعتها في كل عصر وفي كل بيئة، عبارة عن صراع ومزاحمة بين الأشخاص، وأكبر مظهر لاستغلال الحقوق هو تحصيل المنافع، وفي الغالب لا يتأتى تحصيل المنفعة من جانب دون إلحاق ضرر بالأهداف والمبادئ التي يقوم عليها تنظيم المجتمع الإنساني، إذ الغاية التي يصبوا إليها كل مجتمع هو استقرار الأوضاع فيه بصورة تكفل الأمن والاستقرار والطمأنينة والرفاهية لأفراده.

وما يزيد من أهمية هذا الموضوع كونه لم يحظى بنفس القدر من الاهتمام والدراسة، التي حظيت بها موضوعات أخرى مرتبطة بالمسؤولية المدنية كالمسائل المتعلقة بمصادر هذه المسؤولية، وأسباب قيامها، وأركانها من خطأ وضرر وعلاقة سببية، بالرغم من أهميته العملية، باعتباره الهدف النهائي من بحث المسؤولية وهو ما ينشد المدعي الوصول إليه في دعوى المسؤولية، ويسعى المدعى عليه إلى تجنبه واستبعاده.

ورغم أن التعويض يثير كذلك الكثير من الموضوعات الشائكة والمهمة وعلى رأسها تقديره، فقد لمسنا قلة، بل ندرة الدراسات المتعمقة التي تناولته بالتحليل والتأصيل وخصوصا منها الكتابات المغربية، حيث بقي هذا الموضوع حبيس فقرات محدودة في أبحاث الفقه المغربي، وبالتالي فإنه لم يتم التعرض له بكيفية مستقلة وشاملة.

إشكالية البحث

يختزن موضوع العوامل المؤثرة في تقدير التعويض عن الفعل الضار إشكالية أساسية تتمثل في الضوابط المقبولة أو المعايير التي يأخذها قاضي الموضوع في الاعتبار عند تقدير التعويض عن الفعل الضار؟

وما هي حدود سلطته في تقدير التعويض؟ وهل يخضع في ذلك لرقابة المجلس الأعلى؟

Ãالمنهج المعتمد

تأسيسا على ما سبق، اعتمدنا من أجل تقديم هذا البحث على المنهج التحليلي للنصوص والوثائق والأحكام والقرارات التي لها علاقة بمادة البحث لنتمكن من الربط بين الإطار النظري والواقع العملي، ولرفع كل لبس، استعنا بالمنهج المقارن وذلك بتحليل النصوص، استنادا إلى ما ذهب إليه الفقه والقضاء المقارنين .

Ãخطة البحث

إن الهدف الرئيسي من هذا البحث، يتمثل في محاولة معرفة العوامل المؤثرة في تقدير التعويض، انطلاقا من عنصر الضرر في محاولة دراسة مدى ارتباط التعويض بالضرر مركزين على الضرر القابل للتعويض وكذلك مدى تأثير الاعتبارات الشخصية على تقدير التعويض، ومن جهة ثانية بحثنا حدود سلطة محكمة الموضوع في تقدير التعويض بدءا بأهم الإشكالات التي يطرحها تقدير التعويض وعلى الخصوص وقت تقدير التعويض وإشكالية الضرر المتغير في قدره وقيمته، وصولا إلى تقييم مدى سلطة القاضي في تقدير التعويض.

وذلك وفق الخطة المنهجية التالية:

الفصل الأول: مدى ارتباط التعويض بالضرر

الفصل الثاني: حدود سلطة المحكمة في تقدير التعويض

—————————————————

[1] – يعرف الأستاذ سليمان مرقس التعويض بقوله: “الجزاء الواجب لإصلاح نتائج فعل ضار أو الامتناع عن الوفاء بالتزام ما، وبوجه عام، فهو جزاء المسؤولية المدنية، وفي هذا إظهار للوظيفة الزجرية للتعويض ومن الملاحظ أن أهميتها طفقت تتضاءل لتحل محلها الوظيفة التعويضية له ومن تم قيل بأن المراد بالتعويض هو جبر الضرر الحاصل للمصاب”.

أنظر:

-سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، في الالتزامات، المجلد الثاني، في الفعل الضار والمسؤولية المدنية، منشورات مكتبة صادر، الطبعة الخامسة، 1988، ص: 527.

[2] – يميز الفقه بين التعويض بمعناه العام، ويطلق عليه تسمية Indemnisation والتعويض بمعناه الضيق ويطلق عليه تسمية Réparation.

[3] – إبراهيم الدسوقي أبو الليل، تعويض الضرر في المسؤولية المدنية، مطبوعات جامعة الكويت، 1995، الكويت، ص: 13.

[4]– محمد إبراهيم دسوقي، تقدير التعويض بين الخطأ والضرر، الإسكندرية، 1972، ص: 121.

[5] – إن عبارة الضمان أو التضمين تقابل عبارة التعويض في القانون فعبارة الضمان يستخدمها الفقه الإسلامي وتضمين الإنسان هو الحكم عليه بتعويض الضرر الذي أصاب الغير من جهته.

أنظر في ذلك:

-أحمد أطرطور، الضمان والمسؤولية، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، الرباط، 1988 -1989.

– محمود الشربيني، المسؤولية المدنية في الفقه الإسلامي مجلة العدالة، أبو ظبي، العدد 19، سنة 6 -979، ص: 29.

– عبد الله مبروك النجار، الضرر الأدبي ومدى ضمانه في الفقه الإسلامي والقانون –دراسة مقارنة- دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990.

[6] – وإن كان هناك خلاف بين الفقهاء في هذا الصدد، فبعضهم رأى أن دية أهل الكتاب نصف دية المسلم، وذهب بعضهم إلى أن ديتهم ثلث دية المسلم، إلا أن الرأي الراجح هو المساواة.

[7] – عبد الرزاق أحمد السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الجزء 6 دار النشر للجماعات، 5219، ص: 169.

[8] – إبراهيم الدسوقي أبو الليل، مرجع سابق، ص: 39 وما بعدها.

[9] – أنظر القانون المدني التونسي في مادته رقم 107 وكذلك قانون الالتزامات السويسري المادة 44/2 والقانون المدني المصري المادة 237.

[10] – تنص المادة 221 من القانون المدني المصري أنه “إذا لم يكن التعويض مقدرا في العقد أو بنص القانون فإن القاضي هو الذي يقدره…”

أنظر في نفس المعنى المادة 222 من القانون المدني السوري.

[11] – كما هو الشأن بالنسبة لظهير 2/10/1984 المتعلق بالتعويض عن حوادث السير والقانون المتعلق بالتعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية، الصادر في فبراير 2003.