التعذيب القضائي .. اعترف واحصل على حكم مخفف

دخول السجن في الولايات المتحدة، خصوصاً بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى، هو على الأرجح دخول في دهر من العذاب.
أثارت قضية ثلاثي بنك ناتويست قلقاً هائلاً في أوساط مجتمع الأعمال في بريطانيا. لكننا علمنا هذا الأسبوع أن المصرفيين (البريطانيين) الثلاثة الذين كانوا يعملون في السابق لدى بنك ناتويست أقروا في لائحتهم الجوابية على الاتهامات الموجهة إليهم بأنهم مذنبون بتهمة التحايل للحصول على أموال بسبل غير مشروعة من خلال الاتصالات الإلكترونية. فهل كانت الضجة الهائلة التي أثيرت حول الموضوع مجرد جعجعة بريطانية لا طائل من ورائها؟ جوابي عن هذا السؤال: “لا”. إن كون هؤلاء الرجال الثلاثة أقروا بالذنب في لائحتهم الجوابية لا يثبت أنهم مذنبون. وإنما يثبت أن العروض التي قدمها لهم ممثلو المدعي العام الأمريكي هي من النوع الذي لا يستطيع الإنسان العاقل رفضه. فالضغوط التي يستطيع أن يبذلها مكتب المدعي العام هناك تجعل من المعقول، حتى بالنسبة للإنسان البريء، أن يقر بالذنب في لائحته الجوابية. ولا علم لي إن كان هذا ما حدث في الواقعة الحالية، لكن إن كان هذا ما حدث فليس في ذلك مفاجأة كبيرة.

هناك جانب آخر في هذه القضية يبعث على القلق والانزعاج، وهو أنه تم تسليم المتهمين الثلاثة إلى حكومة الولايات المتحدة بموجب معاهدة تم التوقيع عليها بين بريطانيا والولايات المتحدة عام 2003، تتيح للمحاكم الأمريكية استجلاب الأفراد دون إقامة دعوى ظاهرة الوجاهة ضدهم أولاً في إحدى المحاكم البريطانية. ويرى كثيرون أن السبب الوجيه لهذا التغير كان الحاجة إلى التعاون حول قضايا الإرهاب. ومع ذلك هذه المعاهدة من الناحية العملية استخدمت بصورة مكثفة ضد رجال الأعمال البريطانيين من قبل ممثلي المدعي العام الأمريكي الذين يستهدفون مكافحة الجرائم في عالم الأعمال والمسؤولين الحكوميين.

ولأن كثيراً من رجال الأعمال البريطانيين لهم تعاملات بشكل أو بآخر مع الولايات المتحدة، فإن انكشافهم أمام هذا النشاط القضائي المندفع أمر بيِّن تماماً. والأمر الذي جعل قضية ثلاثي ناتويست لافتة للنظر أكثر من غيرها هو أن البنك الذي يفترض أنه الضحية المفترضة لعملية التحايل، لم يطالب السلطات البريطانية قط بالتحقيق في هذه الأحداث.

ومع ذلك، فلماذا ينبغي على أي شخص الاعتراض على تسليم ثلاثة مشبوهين بريطانيين لمواجهة النظام القضائي الأمريكي؟ أليست أمريكا هي قلعة سيادة القانون؟ أخشى أن الجواب “لا للأسف”. إن الرغبة في العثور على مذنبين اكتسحت افتراض البراءة (كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته) الذي يقوم عليه النظام القضائي الأنجلو سكسوني. من السهل أن نفهم الإحباط الذي يشعر به ممثلو النائب العام الطموحون والسياسيون الجماهيريون حول صعوبة إرسال المجرمين إلى السجن. لكن القضايا الصعبة يغلب عليها أن تؤدي إلى الغموض في القانون الواضح من خلال الاستثناءات في التفسيرات وتحميلها ما لا تطيق. وما نراه الآن هو مثال جيد على هذه الحقيقة البدهية.

إن التفاوض حول اللائحة الجوابية (بين ممثلي المدعي العام ومحامي المتهم) أمر فعال، بسبب وجود أربع سمات بارزة تميز النظام القضائي الأمريكي، وهي القسوة المفرطة للعقوبات؛ والارتياع المفهوم مما يمكن أن يحدث داخل السجن؛ والنتيجة غير المؤكدة للقضايا حين تجري محاكمتها أمام هيئة محلفين؛ وإمكانية الحصول على حكم مخفف للغاية (قياساً بالعقوبة الأصلية) في حالة الموافقة على الإقرار بالذنب في اللائحة الجوابية.
في حالة ثلاثي ناتويست، يواجه المتهمون إمكانية الحكم عليهم لمدد تصل إلى 35 سنة في السجن على جرائهم المزعومة. وهذا دليل على الهوة في الثقافة التي اتسعت بين الولايات المتحدة وبريطانيا، من حيث إن هناك إمكانية لفرض عقوبة تعتبر في حكم السجن المؤبد على ضلوعهم المزعوم في مساعدة أندرو فاستو، الذي كان كبير الإداريين الماليين لدى شركة إنرون في ذلك الحين، في التحايل على إنرون.

إن حكماً من هذا القبيل يمكن أن يكون أطول بكثير من أي حكم يمكن أن يتوقع أن يمضيه أي مجرم في بريطانيا، باستثناء قلة قليلة من المجرمين. ومع ذلك هذا الحكم على ما يبدو يعتبر وكأنه منطقي تماماً في الولايات المتحدة. لكن الموضوع لا ينتهي عند هذا الحد. إن الحكم بدخول السجن في الولايات المتحدة، خصوصاً بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى، هو على الأرجح حكم بالدخول في دهر من العذاب. وما يؤكد ذلك أن عدداً من الأمريكيين الساخرين علقوا على الشكاوي التي أثيرت بخصوص عمليات التعذيب التي تعرض لها السجناء العراقيون في سجن أبو غريب بقولهم إن ما حدث لا يعتبر تعذيباً بالمعنى الفعلي، على اعتبار أنه ليس بأسوأ مما يمكن أن يحدث للسجناء في أحد السجون الأمريكية.

والآن تخيل أنك ستواجه حكماً من هذا القبيل إن تمت إدانتك. تخيل أيضاً أنك تؤمن ببراءتك من جميع التهم المنسوبة إليك، لكنك تدرك التعقيد الكبير للقضية والسهولة التي يستطيع بها ممثل الادعاء العام تحوير الأدلة ضدك أمام هيئة محلفين لا علم لها بذلك (ولعلها تكون متحاملة عليك). ربما تفترض أن أمامك فرصة نسبتها 20 في المائة أن تثبت عليك التهمة. وهذا أمر معقول بصورة خاصة إذا نفدت مواردك المالية وبالتالي لم يعد بمقدورك توظيف فريق محامين من الطراز الأول. ماذا سيكون موقفك إذا عرض عليك ممثلو الادعاء العام صفقة في تقديم الدفع القانوني تمضي بموجبها 37 شهراً في السجن في بلدك الأصلي (وأن تدفع تعويضات مقدارها 7.3 مليون دولار إلى رويال بانك أوف سكوتلاند، المالك الحالي لبنك ناتويست)؟

الجواب هو أن معظم الناس سيقولون إنهم مذنبون، ليس لأنهم مذنبون بالفعل، وإنما لأن هذا ما يفعله أي إنسان لا يريد المجازفة بمستقبله.
من وجهة نظري هذا النظام هو في حكم من ينتزع الاعتراف بالذنب تحت شكل من أشكال التعذيب النفسي. يتألف هذا التعذيب من الخوف المعقول من أن يجد المرء نفسه مذنباً خلال المدة التي يمكن أن يقضيها في السجن والخوف مما يمكن أن يحدث أثناء وجود المرء هناك. وأي شخص، باستثناء أشجع الشجعان، سيعترف بأية تهمة تقريباً في سبيل النجاة حتى من إمكانية التعذيب. وبالطريقة نفسها، فإن غالبية الناس ستعترف بالتأكيد بأية تهمة تقريباً لتجنب إمكانية تمضية بقية حياتهم في السجن. إن إدراك عدم جدوى الاعترافات التي تنتزع تحت التهديد بالعذاب كان السبب الرئيسي الذي من أجله تخلت الأنظمة القضائية المتحضرة عن استخدامه. وينطبق الشيء نفسه على اللائحة الجوابية التي تتضمن الإقرار بالذنب في بعض ما يوجه إلى المتهم والتي يتم التوصل إليها من خلال التفاوض على الدفع القانوني المستخدم في حالة ثلاثي ناتويست.

دعوني أكون واضحاً. إنني لا أؤكد هنا أن الرجال الثلاثة هم أبرياء. لكن كونهم قدموا لائحة جوابية بالإقرار بالذنب لا يثبت أنهم مذنبون. وإنما يمكن أن يثبت بالقدر نفسه أن النظام القضائي الأمريكي توجد فيه آلة قوية لانتزاع الإقرار بالذنب بتهم مخففة. بهذه الطريقة يكون النظام قد قضى تماماً على افتراض البراءة. ولهذا السبب فإنه ليس نظاماً ينبغي على بريطانيا أن تحافظ فيه على الترتيبات الحالية لتسليم المتهمين. على الأقل يجب أن يُطلب من الولايات المتحدة تقديم قضية ظاهرة الوجاهة في البداية. هذه النتيجة هي على هذه الدرجة من البساطة

* – مارتن وولف – 30/11/1428هـ*