الاختلاف بين الفقه والطب على تحديد مدة أقلّ الحمل

مقال حول: الاختلاف بين الفقه والطب على تحديد مدة أقلّ الحمل

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يعتبر تحديد مدة حمل المرأة من أكثر الموضوعات التي أثير الجدل حولها في الفقه عبر تاريخه الطويل، وذلك لأهمية الموضوع في حياة الأسرة، وعلاقته بمسائل إثبات النسب ونفيه، وثبوت الميراث من عدمه، وارتباطه بأحوال الطلاق والعدة. والناظر المتبصر بهذه القضية بكل معطياتها وأبعادها، يدرك أهميتها وضرورة الوقوف على موقف المشرّع منها في ضوء الاختلاف بين الفقه والطب على تحديد مدة أقلّ الحمل وأكثره؛

فأقل مدة الحمل عند الفقهاء هي ستة أشهر لقوله تعالى في سورة الأحقاف: “وحمله وفصاله ثلاثون شهراً”؛ فالآية الكريمة أشارت إلى المدة التي يجب فيها الرضاع، وهي قوله سبحانه: “وحمله وفصاله” أي فطامه ثلاثون شهراً؛ وهذا دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع حولين كاملين، لقوله تعالى في سورة البقرة: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة”؛ فيبقى للحمل ستة أشهر، وهذا الرأي وافق عليه الخليفة عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهو رأي ابن عباس رضي الله عنه، إذ قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين، لأن الله تعالى يقول: “حمله وفصاله ثلاثون شهراً”. وقال الإمام الشوكاني في تفسير قوله تعالى: “يرضعن” هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقيق مضمونه، وقوله “حولين كاملين” للدلالة على أن هذا التقرير تحقيقي لا تقريبي، وقوله “لمن أراد أن يتم الرضاعة”، فيه دلالة على أن إرضاع الحولين ليس حتماً، بل هو التمام ويجوز الاقتصار على ما دونه.

ولا يبتعد رأي الطب في تحديد أقل مدة الحمل عن الفقه كثيراً، والتي هي ستة أشهر، إلا أنه يؤكد على أن من النادر أن يعيش المولود لستة أشهر في الأحوال العادية. ولكن مع تقدم الطب أصبح بالإمكان إيجاد فرصة أكبر لحياة هؤلاء المواليد عبر الاستعانة بالحواضن الطبية. ولذلك يقرر الأطباء أنه إذا ولد الطفل بين 24 ـ 36 أسبوع، يسمى الطفل “خديجاً”، ويكون في الغالب قابلاً للحياة ولكنه يحتاج إلى عناية طبية خاصة، وهو ما ذهب إليه قانون الأحوال الشخصية السوري في المادة 128 منه؛ بأن أقل مدة الحمل ستة أشهر. كما أن القضاء الإنكليزي أقر بأن أقصر مدة حمل كانت 174 يوماً، أي خمسة أشهر وأربعة وعشرون يوماً، أي ستة أشهر إلا أياماً قليلة.

لكن الخلاف الكبير بين الفقهاء أنفسهم من جهة، وبين الأطباء من جهة أخرى، كان في تحديد أكثر مدة الحمل؛ فهي عند بعض الفقهاء تسعة أشهر قمرية، وهذا قول داود وابن حزم من الظاهرية، وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب الجعفرية، وعند البعض الآخر سنة واحدة (سنة قمرية) وهو قول محمد بن عبد الحكم من المالكية، ورجّحه بن رشد، وعند فريق ثالث هي سنتان، وهو مذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه، والأوزاعي وعائشة، وعند الليث بن سعد هي ثلاث سنين.. وأربع سنوات عند الشافعي. وفي رواية عن مالك، وعند الإمام أحمد بن حنبل، وفي المشهور عند المالكية، أنها خمس سنين.

أما الفقهاء المعاصرون ومنهم الشيخ عبد الوهاب خلاَف، والشيخ مصطفى الزرقا، فقد قالوا بما يقول الأطباء، وهي تسعة أشهر. واستدلوا بأن الأصل في هذه المسألة هي للعادة والتجربة؛ فقد قال الشيخ عبد الوهاب خلاَف: “وأما أقصى مدة الحمل فلم يرد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتفق عليها ما يحددها، ولهذا تعددت فيها آراء المجتهدين؛ فالإمام مالك حددها بأربع سنين، والإمام أبو حنيفة حددها بسنتين، والظاهرية حددوها بتسعة أشهر؛ فمن أجل هذا الاختلاف، ولعدم ورود نص يرجع إليه، سئل رجال الطب الشرعي وهم أهل الذكر في هذا عن أقصى مدة يمكثها الحمل في بطن أمه، وهم قرروا بناء على بحوثهم واستقراءاتهم أن أقصى مدة الحمل تعتبر سنة عدد أيامها”.. وهو ما أخذ به القانون السوري في الشطر الأخير من المادة 128 السابقة بالقول؛ وأكثرها سنة شمسية.

ومدة الحمل الطبيعية عند أكثر الأطباء هي تسعة أشهر أي 280 يوماً.. وعند البعض عشرة أشهر أي 310 يوماً، وهو ما يسمى في عالم الطب بالحمل المديد، وتتراوح نسب حدوثه من 1% إلى 12% من كل الحمول. وقد قرر المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في مؤتمره الرابع بتاريخ 12/12/2012 في جدّة، أن أكثر مدة الحمل هي سنة من تاريخ الفرقة بين الزوجين لاستيعاب احتمال ما يقع من الخطأ في حساب الحمل؛ فإذا مات شخص عن معتدته الحامل، ورث الحمل من أبيه إذا ولد في مدة 365 يوماً على الأكثر من تاريخ الطلاق، أو الوفاة، ويثبت نسبه من أبيه. وإذا كانت الولادة بعد 365 يوم من تاريخ الوفاة أو الطلاق، لم يرث الحمل؛ لأنه لم يكن موجوداً وقت الوفاة أو الطلاق، وهذا رأي القانون السوري في المادة 131 من قانون الأحوال الشخصية؛ إذ نصّ على أن: المطلقة أو المتوفى عنها زوجها المفرّقان بانقضاء العدة، يثبت نسب ولدهما إذا ولد لأقل من 180 يوم من وقت الاقرار، وأقل من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة.

وختاماً، نؤكد على أهمية تضافر جهود رجال القانون مع الأطباء لمعالجة هذه المسألة وغيرها من المسائل التي تحتاج حسماً بشكل نهائي، ومنها ما يسمى (بالسبات) حيث يكون الحمل في المرحلة الأولى في طور النمو ثم يتوقف فجأة لفترة من الزمن؛ كأنه اختفى، وعند إجراء الاختبارات والفحوص يظهر أنه لا يزال موجوداً، ولكنه لا ينمو وهو ما يسمى بالسبات، مما يتعذر معه حساب عمر الجنين ومدة الحمل الحقيقية بدون الاستعانة بالأجهزة الطبية الحديثة.

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.