الإعلام السلبي وأثره على استقلال القضاء

تنوعت وسائل الإعلام الحالية بشكل كبير نتيجة التطور التكنولوجي، وأصبح للإعلام بمختلف وسائله المرئية والمسموعة والإلكترونية كشبكات التواصل الاجتماعي مثل «الفيسبوك» و«التويتر»، سلطته وآلياته الذاتية في تناول القضايا المجتمعية، التي منها أخبار وتغطيات المحاكمات. وأصبحنا نقرأ في الصحف تغطيات خبرية لقضايا منظورة أمام المحاكم، تمتلك عناصر الإثارة الإعلامية المطلوبة لتحويلها إلى مادة مُستهلكة إعلاميّاً، وذلك تماشياً مع مبدأ علنية المحاكمة بالنسبة إلى القضاء وحرية التعبير بالنسبة إلى الإعلام.

لكن المشكلة تثار عندما يفتقد الإعلام أحد أركانه وهو الحيدة والتجرد والمهنية وعدم استباق الأحكام، وصولاً إلى التأثير السلبي على الرأي العام وانحيازه إلى أحد الأطراف، فيصوّر «المتهم» بقضية ما، على أنه المجرم والفاعل الحقيقي، بل قد يحوّل الحادث العرضي إلى قضية رأي عام، ومن ثم التأثير على قناعة القضاة وحيدتهم وزعزعة مواقفهم.

صحيح أن القضاة ملزمون بالحيدة والاستقلال، وأن تكون خطواتهم حثيثة نحو تحقيق العدالة والامتناع عن تغليب أي طرف على الآخر، كما يتركز اعتمادهم على ما يتوافر لديهم من أدلة وأسانيد في القضية. ولا يمكن للقضاة بأي حال أن يعتمدوا أو يستندوا إلى ما تعرضه وسائل الإعلام من طرح بشأن قضية ما أو حتى يعتقدوا بأنها صحيحة. كما لا يمكن أيضاً اعتماد وجهات النظر والآراء التي يقوم الإعلام بالتركيز عليها لأنها تعتبر خارج إطار الدعوى المنظورة. وذلك لأنه بالرجوع للقواعد القانونية المستقرة واستصحاباً لمظاهر الحيدة، فإنه يجب أن يقتصر القاضي في استدلاله ــ فقط ــ على الأدلة المطروحة أمامه والمقدمة من الخصوم، وفقاً للطريق الذي رسمه القانون لتقديمها. ومن ثم فلا يستطيع القاضي الاستناد إلى علمه الشخصي بواقعة معينة متعلقة بموضوع النزاع. ولا يستطيع أيضاً أن يبني حكمه على دليل تحراه بنفسه خارج منصة القضاء وجلسة المحاكمة.

إلا أن القضاة بشر، وهذا واقع – لا نقوله بمعرض التبرير – ومن ثم له مشاعر وعواطف، وبالتالي؛ فإنه يتأثر بوسائل الإعلام بمختلف مشاربها. وعليه فعلى الإعلام ألا يخرق أحد المبادئ التي بُحت حناجر الحقوقيين والقانونيين بمناسبة كل ملف متداول أمام المحاكم في التأكيد عليها، ألا وهي «قرينة البراءة المفترضة في كل متهم إلى أن يثبت العكس».
ولا تبرير له عند خلق صورة متناقضة أو متعارضة أو الدفع باتجاه تشكيل رأي أو حشد باتجاه معين مخالف، وبالتالي الإساءة إلى القضاء.
فعليه أن يتوخى الحذر في التأثير السلبي على حسن أداء القضاة لمهمتهم النبيلة، بل والإضرار بقضية العدالة ككل.
ونستشهد في هذا المقام بالأنظمة القضائية التي يعتمد حكم الإدانة فيها على المحلفين، وليس على القاضي ــ كالنظام الأميركي ــ ففيه تلجأ السلطات القضائية إلى عزل المحلفين بشكل كامل عن الإعلام طيلة أمد نظر القضية المعروضة إن كانت تلك القضية مُتناولة من قبل الإعلام. والعزل هنا يعني حجب كل وسيلة إعلامية عن المحلفين من صحف ومجلات وراديو وتلفاز وغيره.
تلجأ السلطات إلى تلك الطرق القاسية على المحلّفين لأنها الأصوب بمنظورها، من الناحية الحقوقية والقانونية، لضمان عدم تأثرهم في تكوين قناعاتهم بأي مؤثر خارجي خلافاً للمعروض عليهم من معطيات القضية المنظورة. والأمر هنا خاص بالمحلفين، فما بالكم بالقضاة؟

أما في ألمانيا؛ فقد أجريت دراسةٌ علميةٌ على يد الخبير في علوم الاتصال هايتاس كيبلينغر، حول تأثير وسائل الإعلام على إجراءات المحاكمة في ألمانيا، وقد أجري استطلاع شمل 447 قاضياً و271 وكيل نيابة، أثبت أن 50 في المئة من القضاة وممثلي الادعاء العام تأثرت إجراءاتهم بالتقارير الإعلامية، وأن 42 في المئة من ممثلي الادعاء العام يفكّرون في صدى الرأي العام، واعترف ثلث القضاة بأن التقارير الإعلامية تؤثر في حجم العقوبة وتشديدها.
وفي المغرب؛ قامت لجنة إعداد الدستور برئاسة الفقيه المنوني في العام 2011، واعترافاً منه بأثر الإعلام السلبي في التأثير على قناعة القضاة، بالنص في الفقرة الأخيرة من الفصل 109 من الدستور بالآتي: «يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة».

كما أن المشرع البحريني نص في المادة (245) من قانون العقوبات، مسايراً بذلك المشرع المصري في المادة (187) على الآتي: «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة التي لا تجاوز مئة دينار من نشر بإحدى طرق العلانية أموراً من شأنها التأثير في من يناط بهم الفصل في أية دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء أو المكلفين بالتحقيق أو بأعمال الخبرة أو التأثير في الشهود الذين قد يطلبون لأداء الشهادة في تلك الدعوى أو ذلك التحقيق أو أموراً من شأنها منع الشخص من الإفضاء بمعلوماته لذوي الاختصاص أو التأثير في الرأي العام لمصلحة طرفٍ في الدعوى أو في التحقيق أو ضده، فإذا كان النشر بقصد إحداث التأثير المذكور أو كانت الأمور المنشورة كاذبة عدَّ ذلك ظرفاً مشدداً». والذي يعني ترتيب جزاء على الجهة التي تنشر أموراً من شأنها التأثير في القضاة الذين أنيط بهم الفصل في دعوى مطروحة أمام جهة من جهات القضاء.
ولما سبق؛ فقد بات من الضروري تنوير الإعلام بواجبه في هذا الشأن، وتجنب الخوض في تفاصيل القضايا المطروحة أمام القضاء بتفنيدها، وبيان الرأي الصحيح المفترض فيها، أو بتهييج الرأي العام لمصلحة أحد الأطراف فيها، وتشكيل ضغط وانحياز إلى أحد الأطراف من دون النظر إلى المعطيات القانونية للقضية، فمهنية الإعلام تستلزم عدم التأثير على ضمانات وإجراءات المحاكمة العادلة، وتجنب التأثير السلبي في مسار القضية المطروحة.

فعند تأجيج الرأي العام مثلاً بإحدى القضايا التي لها أبعاد معينة، سيحمل ذلك الأمر قدراً من الإكراه المعنوي في نفس القاضي وتصرفاته بل وقراراته، ومن ثم حكمه في القضية المطروحة، وبالتالي سيمتد أثر ذلك على استقلالية القضاء ومن ثم العدالة بكاملها. كما أن التحليلات والاستنتاجات التي قد تنشرها وسائل الإعلام في تناول قضية معينة لم تزل معروضة ومنظورة أمام القضاء، ستؤثر سلباً في تكوين قناعة ووجدان القاضي. وتتعارض أيضاً مع الاعتبارات والضمانات التي وفّرها القانون للمتهم في ضمانات المحاكمة المنصفة العادلة والتي تسبقها سرية التحقيق… التي توفر الحماية للمتهم من كل تشهير يقع عليه، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ونشر أية معلومة متعلقة بقضيته قد يضر بمصلحته أو مصلحة غيره من الأطراف.

من جهةٍ أخرى؛ فإن القضاء ملزمٌ بالتمسك بالاستقلالية والحياد كمبدأ ثابت من الثوابت القضائية. كما أنه ملزم بممارسة التجرد والحياد بل وحسم القضية المعروضة أمامه ـ فقط ـ بأدلتها، من دون أن يرزح تحت نير قيود وضغوط الإعلام والرأي العام.
ومع ذلك كله؛ فإننا نرى أن ترسيخ هيبة السلطة القضائية واحترام استقلاليتها، لن يكون بانغلاق القضاء كليّاً على الإعلام، حيث إن هناك دوراً إيجابيّاً للإعلام المتوازن، وهو الذي لا ينتهك المحظورات بل يعرض القضية بكامل معطياتها وبصورة حيادية ومن دون الانحياز إلى أحد أطرافها أو ربطها بأبعاد سياسية أو طائفية. ففي ظل التطور المعلوماتي الهائل بات من الضروري وجود تنسيق إعلامي بين عمل السلطة القضائية والمؤسسة الإعلامية، حيث إن التكامل بين السلطتين مطلوبٌ باعتبار أن القضاء سلطةٌ ثالثة، والإعلام باعتباره سلطة رابعة يقع عليهما واجب الحفاظ على سيادة دولة القانون، وحماية حقوق المجتمع والأفراد، وترسيخ قيم العدالة. كما أن للرقابة الإعلامية المتوازنة دوراً بارزاً في تعزيز قوة ومنعة القضاء باعتبار أن الإعلام بوابة المعرفة والتنوير بحقوق الأفراد والمجتمع.

خلاصة القول، نجد أن التفرقة باتت ضروريةً بين الإعلام المتوازن الذي يخدم القضاء بل ويحقق غاياته في صون حريات وحقوق الأفراد بل وخدمة المجتمع والعدالة، وبين الإعلام المنحاز الذي لا يخدم إلا الفئة المنحاز إليها.
هذا ونشير إلى أننا بحاجة إلى إجراء الدراسات العلمية والإحصاءات التي تخدم الإطار المذكور بمملكة البحرين، بل وترتيب إجراءات وضوابط وجزاءات قانونية معينة لتخليص القضاة من التأثر بالإعلام السلبي وضغط الرأي العام نحو اتجاه معين، وحماية القضاة من التضليل الإعلامي والمواقف المنحازة، للحيلولة دون الإخلال بشرط البراءة المفترضة في كل متهم حتى تثبت إدانته. فمن المفترض أن يكون القضاة مستقلين ولا سلطان عليهم في قضائهم إلا القانون، وأن يعملوا في جو هادئ يضمن حرية التحري والتدقيق.

* بقلم : دنفيسة دعبل *