أهمية حماية الحيازة

للحيازة أهمية كبيرة في مجال القضاء وفصل الخصومات ، فإن دعاوى الحيازة مرتبطة بإثبات ملكية الشيء المحوز ، والأملاك من أهم أمور الناس المعيشية والدنيوية ، وقد تكلم الفقهاء قديماً عن أهمية دعوى الحيازة ، قال السرخسي : ” وإذا تنازع رجلان في دار كل واحد منهما يدعي أنها في يده ، فعلى كل واحد منهما البينة ؛ لأن دعوى اليد مقصودة ، كما أن دعوى الملك مقصودة ” ، فنرى أن السرخسي قد جعل مرتبة دعوى الحيازة من حيث الأهمية في مرتبة دعوى الملك ، وفي هذا النص الفقهي تقدير كبير لدعوى الحيازة ، ونستطيع تلخيص أهمية الحيازة فيما يلي :

أن الحيازة قرينة على الملكية ، وهذا ما نصت عليه المادة الثامنة والخمسون بعد المائة بقولـها : [حيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكية الحائز له عند المنازعة في الملكية ويجوز للخصم إثبات العكس ] ، وقبل ذلك قول النبي r : « من احتاز شيئاً عشر سنين فهو له » ، وكذلك حديث الأشعث بن قيس في قضيته مع اليهودي في الأرض التي جحدها ذلك اليهودي ، حيث جعل النبي r حيازة اليهودي لتلك الأرض قرينة على ملكه لها ، وطلب من الأشعث بن قيس بيّنة على ما ادعاه من أنه يمتلكها ، ففي هذا الحديث تطبيق عملي قضائي من النبي r لدعوى الحيازة ، حيث جعلها قرينة على الملك ، ومثل هذا الحديث حديث علقمة بن وائل عن أبيه في قصة الحضرمي والكندي ، حيث جعل النبي r حيازة الكندي للأرض قرينة على ملكه لها ، وطلب من الحضرمي بيّنة على دعواه بأنه يمتلكها.

كما أننا نرى أن كثيراً من الفقهاء جعلوا الحيازة قرينة على الملكية ، وطالبـوا الخصم بإثبات عكس ذلك بالبيّنة ، من ذلك ما ورد في المدونة من قوله : “إذا كان الرجل حاضراً وماله في يد غيره فمضت عليه عشر سنين وهو على ذلك كان المال للذي هو في يديه لحيازته إياه عشر سنين ، إلا أن يأتي الآخر بالبينة على أنه أكرى ، أو أسكن ، أو أعار عارية ، أو صنع شيئاً من هذا ، وإلا فلا شيء له “.

فبهذا تتبين الأهمية الكبرى للحيازة حيث أنها مصدر من مصادر اكتساب الملكية في النظام – كما سبق – ، وهي كذلك مصدر من مصادر اكتساب الملكية في الفقه الإسلامي ، ” فقد قسم الفقهاء أسباب اكتساب الملكية إلى أسباب منشئة لملكية العقار ، وأخرى ناقلة لها ، فالمنشئ للملكية هو الاستيلاء على المباح ، وبالاستيلاء تثبت الملكية لوضع اليد عليه ، والناقل للملكية هي العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة ، والوصية ، والخلفية بالميراث “.

ومما يجعل حماية الحيازة لها أهمية كبيرة أن من له الحق بالانتفاع بالعين لا يستطيع الوصول إلى التمتع بمنافع العين إلا بالحيازة ، قال في تبيين الحقائق : يجب رد عينه في مكان غصبه ؛ لأنه بالأخذ فوت عليه اليد ، وهي مقصودة ؛ لأن المالك بها يتوصل إلى تحصيل ثمرات الملك من الانتفاع والتصرف ولهذا شرعت الكتابة والإذن مع أنها لا تفيد سوى اليد فيجب عليه نسخ فعله دفعاً للضرر عنه فيعود إلى ما كان.

وبهذا يتبين أن الحيازة طريق من طرق اكتساب الملكية ، وهي كذلك الطريق التي يتوصل بها من يملك حق الانتفاع بالعين إلى التمتع بمنافعها وثمراتها ، وبهذا تتبين أهمية الحيازة الكبرى في واقع المجتمعات ، فيجب أن يحمى الحائز الشرعي لينال حقه المترتب على هذه الحيازة.

وحماية الحيازة في الشرع قد سبقت معنا في الأحاديث السابقة ، أما حماية الحيازة في النظام فهي واضحة جلية ، فقد حمى نظام المرافعات الشرعية الحيازة ، وجعلها قرينة على الملكية ، فقد سبق معنا نص المادة الثامنة والخمسين بعد المائة والتي جاء فيها : [حيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكية الحائز له عند المنازعة في الملكية ويجوز للخصم إثبات العكس] ، كما حمى نظام المرافعات الحيازة بأن خصص لحمايتها ثلاث دعاوى ، وهي كالتالي :

1- دعوى استرداد الحيازة ، وقد نص عليها نظام المرافعات في المادة التاسعة بعد المائتين ، وفصّل أحكامها.

2- دعوى منع التعرض للحيازة ، وقد نص عليها نظام المرافعات في المادة التاسعة بعد المائتين ، وفصّل أحكامها.

3- دعوى وقف الأعمال الجديدة ، وقد نص عليها نظام المرافعات في المادة التاسعة بعد المائتين ، وفصّل أحكامها.

الحكمة من حماية الحيازة

تمهيد :

تعد الحيازة مصلحة من المصالح التي يرعاها الشارع ويحميها إلى أن يتبين أنها ترتكز على سبب باطل ، فحينئذ لا يعترف بها ولو طالت ، والشارع إنما يحمي الحيازة لأهمية الحيازة نفسها ، فمن يملك حق الانتفاع بالشيء – سواء كان مالكاً أو مستعيراً أو مستأجراً أو نحوهم – لا يستطيع الانتفاع بهذا الشيء إلا عن طريق الحيازة ، ومن ثم تظهر أهمية الحيازة ؛ إذ لا يستفيد المالك من ملكه بدونها ، ولا يستفيد المستأجر من الشيء الذي استأجره بدونها ، ولا يستفيد المستعير من العارية بدونها ، وعلى ذلك فقس ، قال السرخسي : ” وإذا تنازع رجلان في دار كل واحد منهما يدعي أنها في يده فعلى كل واحد منهما البينة ؛ لأن دعوى اليد مقصودة ، كما أن دعوى الملك مقصودة ؛ لأن باليد يتوصل إلى الانتفاع بالملك والتصرف فيه “.

فبيّن السرخسي في كلامه السابق أهمية دعوى الحيازة ، بل إنه قد قارنها بدعوى الملكية ، ثم بيّن علة أهمية دعوى الحيازة بأن الحيازة يتوصل بها إلى الانتفاع بالملك والتصرف فيه ، فلكل ما سبق ، كانت الحيازة مصلحة من المصالح المهمة التي يحميها الشارع ويصونها عن الاعتداء.

وينتج عن حماية الحيازة الحكم التالية :

1- في حماية الحيازة حماية وصيانة لحق الملكية ؛ وذلك أن الاعتداء على الحيازة الناشئة عن حق هو اعتداء على الحق نفسه ، ولا مجال للشك في أن الشرع أولى عناية خاصة لممتلكات الأفراد ، ووضع الأحكام التي تمنع من الاعتداء على الأملاك والأموال ، ومن النصوص العـامة التـي تدل على هذا المعنى قوله تعالى : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وقوله تعالـى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل}، وقال جل وعلا في مال اليتيم : {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ، وقال جل حلاله في مال اليتيم كذلك : {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، وغيرها من النصوص الكثيرة في القرآن والتي يطول سردها ، وكلها جاءت في صيانة ممتلكات الأفراد – حتى غير المسلمين من غير المحاربين – وحمايتها عن الاعتداء ، بل وعن مجرد الإيذاء.

ومن نصوص السنة النبوية نذكر الحديث الذي رواه أبو بكرة أن النبي r قعد على بعيره ، وأمسك إنسان بخطامه ، أو بزمامه ، قال : « أي يوم هذا » ، فسكتنا حتـى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، قال : « أليس يوم النحر » ، قلنا : بلى ، قال : « فأي شهـر هذا » ، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : « أليس بذي الحجة » ، قلنا : بلى ، قال : « فإن دماءكم وأموالكم وأعـراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ».

وكذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل المسلـم على المسلـم حرام دمه وماله وعرضه » .

فهذان الحديثان صريحان واضحان في بيان حرمة أملاك الأفراد ، وصيانتها وحمايتها عن الاعتداء والإيذاء.

قال الدكتور محمد نعيم ياسين : وإنما أُعطيت الحيازة في نظر الشارع هذه الأهمية ؛ لأنها تدل على ظاهر ينبغي احترامه ما دامت الشواهد لم تقم على بطلانه ، ويتفرع عن هذا الظاهر حق الملكية ؛ إذ أنه من المقرر أن حق الملكية يمنح صاحبه حقوق التصرف ، والاستعمال ، والاستغلال ، ولما كانت هذه الحقوق لا يستكمل الانتفاع بها إلا بحيازة العين المملوكة صح اعتبار الحيازة من السلطات التي يمنحها حق الملكية أيضاً ، فإذا كان الأمر كذلك صح اعتبار الحيازة مرجحاً أولياً يدل على الملكية.

2- أن الشارع يفترض أن الحائز هو المالك ، فحماية الحائز إنما هي في الواقع حماية لصاحب الحق ؛ لذا أجاز له رفع دعاوى الحيازة ليدفع بها الاعتداء على ملكيته ، وهي دعاوى يسيرة الإجراءات ، فضلاً عن أنها سهلة الإثبات مقارنة بدعوى الملكية ، والشارع بافتراضه أن الحائز هو المالك حتى يقيم المدعى عليه الدليل على عكس ذلك وضع الحائز في مركز المدعى عليه دائماً في دعاوى الملكية ، ويسر له إثبات ملكيته باتخاذ الحيازة وسيلة لإثبات حق الملكية ، فالشارع جعل الحيازة المادية قرينة على الملكية ، وعلى من ينازع الحائز أن يثبت عكس ذلك.

فالمنظم أجاز للحائز الشرعي أن يسترد حيازته عن طريق دعاوى الحيازة المستعجلة كيلا يُحرم من تمتعه بالحيازة إلى حين الفصل في دعوى الملكية التي قد تطول ، ومن جهة أخرى فإن من يستطيع إثبات الحيازة المادية لنفسه له أن يتخذ منها قرينة على الملكية ، وفي هذا تيسير كبير لإثبات الملكية.

3- أن في حماية الحيازة محافظة على النظام العام ، والأمن ؛ إذ أنه لا يجوز اغتصاب الحقوق ولو كان من يغتصبها هو حقيقة صاحبها ، وإلا أدى ذلك إلى الفوضى والاضطراب ، والافتيات على النظام والمحاكم التي وكل إليها إرجاع الحقوق.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت