استقلال القضاء من منظور عراقي وامريكي/ القاضي ناظم حميد علك

ان الحديث عن استقلال القضاء يرتبط تاريخياً بمبدأ فصل السلطات الذي اقترن اسمه بالفقيه الفرنسي (مونتسيكو) وعلى الرغم من الدور الريادي للفقيه المذكور ودوره الفاعل في بلورة صياغة مبدأ الفصل بين السلطات فإن مبادئ العدالة والانصاف تقتضي ان نشير الى المحاولات السابقة والموغلة في القدم التي تشدد في منع تركيز السلطة بيد جهة واحدة او شخص واحد وهذا ما طرحه (افلاطون) الذي شبه الدولة بالكائن الحي المعتمد في حياته على اجزاء مهمة هي بحسب رؤيته القلب والرغبة والعقل , وقد وزع افلاطون وظائف الدولة في كتابه (روح القانون) الى عدة هيئات تختص كل منها بوظيفة محددة ومن ضمن هذه الهيئات هيئة قضائية تتألف من عدة محاكم على مختلف الدرجات للفصل في النزاعات بانواعهاوهذا يعني ان افلاطون فكر منذ القدم في تخصيص هيئة لحل المنازعات تكون مستقلة عن غيرها من الهيئات .

وقد ذهب الفقه السياسي الى ربط فكرة الفص بين السلطات بالفيلسوف (ارسطو) الذي ميّز في كتابة الموسوم (السياسة) بين وظائف ثلاثة الاولى المداولة والثانية الامر والثالثة القضاء وبالتالي نلحظ بأن كلاً من افلاطون وارسطو ميّز بين الهيئات في الدولة .

وبالرغم من تأصيل الفكرة الا اننا نجد الفقيه (مونتسيكو) تميز في وصفه للنظرية ومكمن ذلك متأتي من انه اعطى وصفاً دقيقاً ومميزاً ومتوازناً للقضاء قبالة بقية السلطات فبعد ان قدم تبريراته في صياغة المبدأ وبرؤيته الجدية فقد جعل القضاء سلطة قائمة بذاتها تقف على قدر متوازن وعلى قدم المساواة مع السلطتين الاخريين ويستطرد (مونتسيكو) في وصفه للسلطتين التشريعية والتنفيذية حتى يصل الى السلطة القضائية فيصفها قائلاً : (… وبها يُعاقب من يقترف جرماً , وتفصل بين الناس بالخصومات وتسمى هذه السلطة بسلطة الحكم)

وواقع الاستقلال يتحقق في شخص القاضي , فاذا ما فقد القاضي حياده فقد استقلاله وتعثرت العدالة المنشودة منه ويعتقد (كليفورد والاس) وهو احد قضاة محاكم الاستئناف في الولايات المتحدة الامريكية بأن المجتمع دائماً يفضل قاضياً محايداً , والحياد ينتج عن الاستقلالية .

وقد دافع (الكزاندر هاملتون) وهو احد واضعي دستور الولايات المتحدة الامريكية عن دور النظام القضائي الامريكي في تشكيل الهيكلية الدستورية بقوله ان لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية , وما على الحرية ان تخشى اي امر يتعلق بالنظام القضائي بمفرده ولكن عليها ان تخشى كل امر اذا ما اتحد القضاء مع اي من السلطتين الاخريين .

وممّا تقدم سلفاً يتضح ان الفقهاء الامريكيين وضعوا الاسس والدعامات الاساسية لاستقلال النظام القضائي الامريكي , الا اننا نلحظ اتساع نظام انتخاب القضاة في الولايات المتحدة الامريكية باستثناء ما يجري في المحكمة الاتحادية التي يتم اختيار قضاتها بطرق التعيينمن قبل رئيس الجمهورية وبموافقة مجلس الشيوخ بينما راح البعض في الاتجاه المضاد حيث يقول واحد من احسن المراقبين للنظام القضائي وهو (Bryce ) ان واحدة من ثلاثة امور هي الانتخابات الشعبية وقصر مدة الوظيفة والمرتبات الضعيفة كفيلة بأن تهبط بمستوى القضاء فالانتخابات الشعبية تضع سلطة الاختيار في ايدي الاحزاب السياسية اي في ايدي تلك الطوائف التي تتجه الى ان تستخدم جميع الوسائل لمكافأة الخدمات السياسية وان تضع متابعيها العارفين لجميلها في المراكز التي يمكن ان تكون لها اهمية سياسية , وقصر مدة الوظيفة يكره القاضي على ان يكون حريصاً على ان يرضي هؤلاء الذين صنعوه والذين يضعون مصيره بين ايديهم وهذا ما يفرض الجبن ويثبط الهمة في الاستقلال , ولهذا ليس هناك ما يدعو الى الدهشة (و الحديث لـ Bryce ) عندما نعلم ان القضاة في العديد من الولايات المتحدة ذوو كفاءة محدودة ويمتلكون قليلاً من العلم في مجال اختصاصهم وانهم في كثير من الاحيان ادنى مستوى في الكثير من المحامين الذين يترافعون امامهم .

الا انني اجد ان بعض المفكرين ومن بعدهم بعض (المهيجين السياسيين) توهموا عندما اعتقدوا ان القضاء الامريكي يمكن ان تغمزه الاعتبارات السياسية ذلك ان تصور انتخاب القضاة في الولايات الامريكية لم يقم على اساس نظام القضاء الشعبي وانما حقق هذا النظام نتائج في دولة عريقة كالولايات المتحدة الامريكية ارتبط فيها النظام القضائي بتأكيد وتدعيم الحرية في مواجهة السلطة , فاكتسب النظام جلال الحرية واحترامها . زد على ذلك ان السياسة في الولايات المتحدة الامريكية داعمة للقضاء , والا ماذا يفسر حذو الرئيس الامريكي (روزفلت) الذي اعلن في 6/2/1941 على وجوب العمل على خلق عالم يقوم على حريات اربع في كل بلد في العالم وهي على وجه التحديد حرية الرأي والتعبير , والحرية الدينية , والحق في ان يكون الانسان بمنأى عن الفاقة , والحق في حياة متحررة من الخوف . والتي غدت هذه المبادئ فيما بعد من القواعد الاساسية لمبادئ حقوق الانسان وحرياته الاساسية .

الا ان ما ذهب اليه (Bryce) يمكن ان يُتصور باعتباره القضاء صورة من صور القضاء الشعبي وفقاً لما طبق في دولة الكتلة الشرقية فلا استقلال للنظام القضائي كله إذ يعتبرزائدة من زوائد الحزب المسيطر لا يتلقى التوجيهات فحسب من هذا الحزب وإنما يضعها موضع التنفيذ بوصفها القانون الأعلى !

وبالعودة الى مونتسكيو الفقيه ومبادئ النظرية فقد برر استقلال القضاء بتبريرات عدة منها ماهو تقليدي ومنها ما هو اجتماعي او اقتصادي او سياسي فإنني اسلط الضوء على التبريرات السياسية لإستقلال القضاء والتي تمليها الظروف الخاصة التي تعصف ببعض البلدان التي رضخت ولعقود طويلة تحت الأنظمة الشمولية والعسكرية فعند انهيار هذه الأنظمة وتحول بلدانها الى سيادة الديمقراطية يواجه القضاء عبئاً كبيراً إذ ينبغي على (القيادة القضائية) عموما ان تتحول وبشكل جذري من كونها مجرد امتداد الى السلطة التنفيذية الى جعل هيأتها مستقلة عادلة وكذلك ينتظر منها ويتوقع ان يكون دورها في تعريف وجهات النظر الخاصة بحقوق المواطنين اذ يجد القاضي نفسه في منطقة محورية في صراع القوى السياسية من اجل تعريف المجتمع زد على ما يواجهه القضاة من مخاطر إجرامية غالبا ما تصاحب المتغيرات الانتقالية سواء كانت ناتجة عن الانظمة القديمة ام ناتجة عن متغيرات الظروف . وهذا ما ينطبق تماما على المتغيرات التي حصلت في العراق بعد تاريخ 9/4/2003 (حيث ارتفع الصوت عاليا باستقلال القضاء وبقيت في ضمير كل قاضٍ جذوة الانتصار للحق بوسيلة أو بأخرى ورغبة جامحة في ابعاد السلطة التنفيذية عند التدخل في شؤون القضاء حيث اعيد تأسيس مجلس القضاء الأعلى بالأمر المرقم (35 في 15/9/2003) وقد جاء في ديباجته ( ان السبيل الى فرض حكم القانون هو نظام قضائي من طاقم مؤهل وحر مستقل من التأثيرات الخارجية ) .

بيد ان العديد من الباحثين والدارسين يكتفي بالتطرق لـ (مونتسكيو) الفقيه والنظرية فحسب دون البحث في مونتسكيو الحداثة والتطور الرؤى الفاعلة ولذا فإن النظرية عند رواجها ووضعها موضع التطبيق من قبل الفرنسيين واجهت صعوبة على مستوى التطبيق حيث حاولت كل سلطة من السلطات الثلاث جادهة الاستحواذ على الصلاحيات المنوطة بها دون مد يد العون الى غيرها من السلطتين الاخريين فذاع في حينه ما يسمى بالتطبيق التام والجامد للنظرية وبغية الخروج من مأزق الجمود دعى العديد من الفقهاء الى الفصل بين السلطات على اساس قيام التعاون فيما بينها وهو ما يسمى بالتطبيق المرن للنظرية وهو ما يروق لي تسميته بـ (التفسير المتطور لنظرية الفصل بين السلطات)

ولذا فأننا نلحظ أحيانا ومن خلال عمل مجلس القضاء الاعلى وفي الاطار القانوني مع السلطتين الاخريين تذليل الصعوبات التي تواجه البلاد في المراحل الحرجة من تاريخها الحديث ولا سيما في القرارات التي تصدرها المحكمة الاتحادية العليا لذا فإن البعض يتصور خطأً ان ذلك يعد تدخلاً في عمل السلطة القضائية وواقع الأمر ان عمل مجلس القضاء الاعلى ما هو الا تطبيق حي وواقعي لمفهوم نظرية الفصل بين السلطات في إطارها المرن لا في إطارها الجامد والا لو كان هذا التصور واقعيا لما اصر مجلس القضاء الأعلى على جعل ترشيح السادة أعضاء محكمة التمييز ليس عن طريق التصويت في مجلس النواب العراقي وإنما ترشيحهم عن طريق الصلاحيات المنوطة بالسيد رئيس جمهورية العراق من خلال موقعه (المتسامي)

وبالتالي فإن هذا المفهوم والرؤية العميقة للعمل القضائي وفي ضوء تطبيق هذه النظرية بالمفهوم المرن جعل البعض ممن استباحوا مصطلح (محلل سياسي) وممن وصفتهم سلفاً بـ (المهيجين) السياسيين ينتقد عمل مجلس القضاء من دون رؤية علمية او دراسة قانونية فيطلق التصريحات جزافاً ومن دون رؤية . ومن خلال ما تقدم كله نخلص الى إن كلاً من النظامين القضائيين العراقي والأمريكي يحرصان عظيم الحرص على استقلال القضاء وذلك من خلال تطبيق نظرية الفصل بين السلطات بالمفهوم المرن .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت