شـهـادة اللّفيـف

محفوظ أبي يعلا
مجاز في القانون الخاص
الكلية المتعددة التخصصات
تطوان/مارتيل

مقدمّــة

و العـدل يكفـي في سمـاع البينـة ** من اللّفـيف فتراهـا هينـة (1)

لا شـكّ أن لدلائل الاثبات أهميّة كبيـرة في القضـاء . فهـي الوسيلـة الوحيـدة للوصول إلى الحـقّ. فالقـاضيّ يحـكم بالظـاهر , و بمـا يأتي بـه الخصـوم من حـجج . و قد ورد في الحديث الشريف ما يلي : ” إنكم لتختصـمون إليّ , و لعلّ بعضكـم أحقّ بحجتـه عن بعـض فـمن قضيـتُ لـه بحـق أخيّـه شيئـاً بـقوله , فانّمـا أقطـع لـه قطعـة مـن النّـار فـلا يأخذهـا ” (2) .

و تعتبر شـهادة اللفيف وسيلـة من وسائل الاثبات , اذ انّها تعتبر بينة شرعيّة . و بالتّالي فهي تندرج في المرتبة الثالثة من طرق الاثبات حسبما هو وارد في الفصل 404 من قانون الالتزامات و العقـود المغربيّ (3) .

و أهميّة شـهادة اللّفيـف لا تخفـى علـى أحـد , فمـن خلالها يتم الحفـاظ على حقـوق النّـاس الماليّة و الغيـر الماليّة . لا سيـما و نحـن نعلم أنه يتعـذر في أمـاكن كثيـرة من المغرب إقـامة الحـجة العدليّـة .

و في هـذا الموضوع سأحاول معالـجة موضـوع شـهـادة اللفيـف انطـلاقـاً من الأسـئلـة التّـاليّة : ما معنّى شهادة اللفيـف؟ و هل هناك ضرورة أدت إلى اعتبـار شهـادة اللفيـف وسيلة من وسائل الاثبـات؟ ثمّ مـا أهم الاجتهادات الّتي حسمـها العمـل القضائيّ في موضوع هـذه الشهـادة؟

و كلّ هـذه الأسئلة و غيـرها سأعرض لهـا من خـلال مبحثيـن علـى النّحـو التّالي :

المبحث الأوّل : اضـاءة على شهادة اللفيف
المبحث الثانيّ : شـهادة اللّفيف بين العمل القضائيّ و القانون .

المبحث الأوّل : اضـاءة على شهادة اللفيف

جـاء في المعجـم الوسيط : الشّـهادة : أن يخبر بما رأى . و الشّهـادة أن يقـر بما علـم
و الشهـادة : مجموع ما يدرك بالحس . و الشّهادة البينة ( في القضـاء ) : هي أقـوال الشهود أمام جهـة قضائيّـة .

و جـاء في نفس المعجم : اللّفيـف : ما اجتمع من النّاس من قبائـل شتّـى , أو من أخـلاط شتّـى . فيهـم الشّريف و الدنيء و المطيعُ و العـاصـي , و القـويّ و الضعيـف . و فـي التّنزيـل العزيـز : ” جِـئْنـا بيِـكُـم لفيــفـــاً ” أي مجتمعيـن مختلطـين .

و هـكذ , فإنّه بالجمـع بين الكلمتين الشهادة و اللفيـف , يتبين لنا أن المقصود بشـهـادة اللّفيف تلـك الشـهــادة الّتـي اجتمـع لـلادلاء بهـا جـملـة من الشـهـود , بعضهـم عـدلٌ و بعضهم غيـر ذلك . و هـذه الجمـاعة من الشهود “التفت” حول الواقعـة للشهـادة . و لهـذا سميت بهـذا الاسم , أي بشهـادة اللفيف( 4) .

و قـد بدأت شـهادة اللفيف بالبروز بكثـرة كوسيلـة اثبـات بعيد الاستقـلال . غيـر أن العـمل بها أو وجودها كشهـادة اثبات فهو وجودٌ قديـم . فالثابت أن الفقهاء أجـازوا العمل بشهـادة اللفيف قبـل حلول القرن العـاشر . و في هـذا الصدد ينقـل بعض شراح لاميّة الزقاق عن سيـدي العربيّ الفاسيّ قولـه : ” و قد جَرى العمـل باللفيف فيما أدركنا , قبـل الألف , و لا ادري متى حدث ذلك … ” (5).

و قد وضع الفقهاء شروطا للأخذ بشهادة اللفيف . هـذه الشروط نجملـها فيما يلـي :

أ ـ أن يكون أفراد الشـهادة من الرّجال . و قد رأى بعـض الفقهـاء بالاقتصـار على اثنـى عشـر رجـلاً في عـدد اللفيـف . و أفتـوا في أن اللفيـف من النّسـاء و لـو بلـغ عـددهن المـائة لا يقضـى بـه .

ب ـ سلامة الشهـود من أسبـاب التـجريـح . و الشهود في هـذه الشـهادة , كمـا قدمنـا , لا تستلـزم فيـهم العـدالة الّـتي عـرفها ابـن رشد بكونها هيئـة راسخة في النّفس تحث على ملازمـــة التّقـــــوى, باجتنـــاب الكبـائر و توقــــي الصغائـر و التّحاشـي عـن الرذائــل المباحـة(6)و انّما يكتفي في شهـود اللفيف ستر الحال و عدم ظهور الجرح . و قد جـاء في العمـل الفـاسيّ : و لابد في الشهـود في اللفيـف /// من ستر حـالهم علـى المعـروف .

و ينبـغي في الشـهود أن لا يكونوا من مقربي المشـهود لـه أو من أعدائه .

ج ـ استفسـار الشـهود ورد شـهادة من اختـلف قولهـم عن ما ورد في رسـم اللفيـف . و في هـذا الصدد قال الفقيـه عبد الكريم اليازغـي : ” الّذي يجب في هـذا الزّمن أنه لا يقضـي بشهـادة بينـة اللفيـف إلا بعـد الاستفسـار حضـر الشهـود أو غابـوا قربـت غيبتـهم أو بعدت إذ كثيـراً ما ينكر الواحـد منهـم الشـهادة رأسـاً أو يقـول خلاف ما قـالهُ أولاً( 7) . و قد جرى العمل بترك الاستفسار ان مضت ستة أشـهر عـن أداء الشـهود لشهـادتـهم فقد ورد في العـمل المـطلق : ” واستحسنـوا إن مـرّ نصـف العـام /// من الاداء ترك الاستفهام ” (8) .

هـ ـ أن لا يشـهد شهـود اللفيـف في شـيء اعتـاد النّـاس توثيقـه لـدى العـدول . و في هـذا الصدد نص الفقيـه سيدي المهدي الوزانيّ في الجز التّاسـع من نوازله الكبـرى عـلى ما يلـي : ” العـادة الجـاريّة فـي بيـع الأصـول أن يكـون بالعـدول , لا باللـفيف , إذ لا موجـب لاشـهـاد اللفيــف , و الاعـراض عـن العـدول … ” (9) . فالخلاصـة هي أن الأصل في الإثبـات هو شـهـادة العـدول , و أن الأخـذ بشـهادة للفيـف هو استثـناء تـفرضـه الضـرورة .

د ـ تحليـف شهـود اللفيف . فقد قام كثيـر من القضـاة بتحليـف شهـود اللفيـف بعد أن ظهر لهم زيـادة الفجـور في أهـل الزّمـان . و في هـذا الشـأن جاء في العـمل الفـاسـيّ :
و حـلف ابن سـودة ( قـاضي ) الشـهود /// من اللفيـف لفجـور زيـدا (10) .

المبحث الثانيّ : شـهادة اللّفيف بين القانون و العمل القضائيّ .

ان طريقة اقامـة شهـادة اللّفيـف تكون بأن يأتي المشـهود له باثنى عشـر رجـلاً إلى عدل منتصب للشـهادة ـ هناك من قال بضرورة تلقي الشهادة من طرف القاضي ـ فيقـوم هـذا العدل بكتابـة مضمـن الشهـادة الّتـي تلقـاها , و يضـع أسمـاء الشـهود , ثم ينتقل إلى كتابة رسم آخر , فيه تسجيل على القاضي و صحته لديه , ثم يطالع العدل القاضي بذلك فيكتب هذا الأخير في الرسم العبارة التاليّة : ” شهدوا لدي من قدم لذلك لموجبه فثبت ” و يضع علامته , ثم يضع العدلان علامتيهما .

ثم يخاطب القاضي على الرسم الثاني( 11 ) . و في هـذه الحالة , أي في حالة تدوين القاضي على الرسم , فإن شهادة اللفيف تكون بمثابة حجة كتابيّة من نوع الأوراق الرسميّـة و قد نصت الفقرة الأولى من الفصل 419 من ق ل ع على ما يلي : ” الورقـة الرسميّـة حجـة قاطعـة حتـى على الغيـر في الوقـائع و الاتفاقات التي يشهـد الموظـف العمومـي الذي حررهـا بحصـولها في محـضره و ذلـك إلى أن يطعـن فيها بالزور ” . أما اذا لم يكن هناك تدوين للقاضي فإنه يكون لشهادة اللفيف صفة الحجة العادية القابلة لاثبات العكس . و هـذه المسألة مهمة من حيث تحديد قوة شهادة اللفيف الاثباتيّة .

لقـد وجهـت الكثيـر من الانتقـادات لشهـادة اللفيـف , نظـراً لعـدم احتـرام اللّفيفيـات للقواعـد و الشروط الّتي وضعـت لقبولـها . فذهب تيـار من الفقهـاء إلى اعتبـار اللفيـف شهـادة لا ترتبـط بالشريعـة في شيء , بل هي وليـدة الضرورة لا غيـر (12) . و ذهـب تيـار آخـر إلى اعتبـار إشكـال شهـادة اللفيـف يكمـن في انعـدام الضمانـات , فالواقـع أنّـه ينبغـيّ أن تسمـع شهـادة الشهـود بمجـلس القضـاء و ليس أن تقـرأ في وثيقـة كمـا هو الحـال في اللفيـف (13) .

و المتتبـع لقرارات المجلـس الأعلـى في هـذا الشـأن يلاحظ الاختـلاف و الاضطـراب في موقفـه من شهـادة اللفيـف . ففـي القـرار عـدد : 224 و الصـادر بتـاريخ : 11 يونيـو 1974 ورد الآتـي : ” إن الشـهادة اللفيـفيّة تعتبـر قرينـة فعليّـة تخضـع فـي تقديـر قيمتـها كوسيـلة للإثبـات لقضـاة الموضوع في نطـاق سلطتـهم التّقديـريّـة ” . و هـكذا , نلاحـظ أن المجلس الأعلى في هـذا القـرار اعتبر اللفيـف قرينـة فعليّـة (14) . و يـرى الأستـاذ محمـد الربيعـي أن ادخـال اللفيـف ضمن وسائـل الاثبـات المنصوص عليـها في ق ل ع هو ادخال غير سليم و لا يصـح لأن اللّفيـف , حسب رأيه , مؤسسّـة فقهيّـة مستقلـة , لهـا قواعـدها الخـاصّـة و لا ينبغـيّ اعتبـارهـا قرينـة فعليّـة .

و في القرار عدد 529 الصـادر بتـاريخ : 21 شتمبـر 1977 نجد أن المجلس الأعلى اعتبر اللفيـف مجـرد لائحـة شهـود .و بالـتّالي فهـو موقف جرد اللفيـف , نوعـا ما , من قوتـه الإثباتيّـة .

بيـد أن القرار عدد 809 بتاريـخ 25 دجنبـر 1982 اعتـبر اللفيـف ورقـة رسميّـة من حيث الشكل و مجـرد شهـادة من حيـث المضمـون . و بالتّـالـي يكـون قد أدخـل اللّفيـف ضمـن وسائـل الإثبـات .

و نجـد في القـرار 354 الصـادر بتاريـخ 21 مارس 1987 ما يلـي : ” شهـادة اللفيف الّتي يتلقـاها العدول نيـابة عن القـاضي و تسجل عليـه هـي بمثابـة شهـادة العـدول في إثبـات الحقـوق و ليسـت مجـرد لائحـة شهـود ” . و في هـذا الشأن نتـذكر ما ذكـره سيـدي العربـيّ الفـاسـيّ , حيث أشـار إلى أن ابن رشد كـان يعتبـر اللفيـف مجـرد جمع يُسَهل على القاضي اختيار الشهود , فإن وجد فيهـم من يزكى ألغى الزائد , و إن لم يجـد أحداً ألغـى الجميـع . ( 15 ) و هو الموقف الذي عمل به المجلس الأعلى في القرار 529 الذي عرضناه .

خـاتمــة :

يظهـر لنـا أن الفقهـاء و القضـاة , أخـذوا بشهـادة اللفيــف بسبب الضرورة و الاستثنـاء .

و لا يفوتنـي في هـذه الخاتمـة أن أبـدي بعـض الملاحظـات حـول شهـادة اللفيـف :

ـ أولاً , ينبغـي اعـادة النـظر في الاتجـاه القـائل بالأخـذ بشهـادة اللفيـف , لأن العمـل بهـذه الشـــهـادة هـو عمـــــلٌ بشهـادة جامـدة و صامتـة , تفتقــــر لضمانـات الصـــــدق و الوضـوح .

ـ ثانيـاً , اشتـراط الفقهـاء أن يكون أفراد الشهـادة من الذكور , و الافتاء بأن اللفيـف من النّسـاء و لـو بلـغ عـددهن المـائة لا يقضـى بـه . هـو شـرط يدخـل في التمييز بين الرجل و المرأة , و بالتّـالي فهـو شرط لا يتنـاغم مع روح العصـر .

ـ و أخيـراً أقتـرح تدخل الدّولـة عن طريق تشجيـع النّـاس على توثيـق حقوقـهم توثيقـاً رسميّـاً يعتـدُ بـه و يكون منسجمـاً مـع الحداثـة و دولـة الحـقّ و القـانـون , و لن يكـون ذلك إلا بعـد تطويـر المدن و تقريب و تسهيـل الخدمـات للنّـاس , بحيث لا يتعـذر عليـهم توثيـق حقوقـهم توثيقـاً رسميـاً .

عسـى أن يكلل جهـدي في هـذا البحث المتواضـع بالنـفع . فمـا رجـوت إلا عملاً صالحـاً ينتفـع به . و اللـه من وراء القصــد .

هوامش :

1 ـ من العمل الفاسي .
2 ـ صحيح البخـاري .
3 ـ الفصل 404 ق ل ع : ” وسائل الاثبات التي يقررها القانون هي : 1 ـ إقرار الخصم . 2 ـ الحجة الكتابية . 3ـ شهادة الشهود . 4ـ القرينة . 5 ـ اليمين و النكول عنها ” .
4 ـ عبد العلي العبودي , سماع دعوى الزوجية بصفة استثنائية , مجلة الملحق القضائي , العدد : 26 , ماي 1993 . ص : 41 .
5ـ أحمد أمغار , شهادة اللفيف و اعتمادها كحجة إثبات , رابطة القضاة , السنة : 22 , عدد : 16/17 , مارس 1986 , ص 20 .
6 ـ عادل حاميدي , التطليق للشقاق و اشكالاته القضائيّة , ص : 39 . و في هـذا يقول صـاحب التّحفة : وشـاهد صفتـه المرعيّـة / عـدالة تيقـظ حرّيّـة / و العـدل من يجتنب الكبـائرا / و يتقي في الغـالب الصغائـرا / و ما أبيح و هـو في العيـان / يقـدح في مـروءة الإنسـان
7 ـ محمد الربيعي , موقف الفقـه و القضاء من اللفيفيات قديماً و حديثاً , الاشعاع , العدد : 15 , السنة التاسعة , يناير 1997 , ص : 107
8 ـ أحمد أمغار , مرجع سابق , ص : 24
9 ـ أحمد أمغار , مرجع نفسه , ص : 24
10 ـ محمد الربيعي , مرجع سابق , ص : 109
11 ـ أحمد أمغار , مرجع سابق , ص : 21 .
12 ـ محمد الربيعي , مرجع سابق , ص : 111
13 ـ محمد الربيعي , مرجع نفسه , ص : 111
14 ـ محمد الربيعي , مرجع نفسه , ص 112
15 ـ محمد الربيعي , مرجع نفسه , ص 112