لقد ذهب جانب من الفقه إلى أن عقد العلاج مرتبط باحد العقود التي نظمها القانون المدني ، فهو مما يمكن ادراجه ضمن العقود المسماة ، كما ذهب جانب اخر إلى انه ذو طبيعة مختلفة تجعل من غير الممكن ربطة بأحد تلك العقود ، وهو لذلك عقد غير مسمى وفيما يأتي تفصيل ذلك:

الوجهة الاولى : أن عقد العلاج عقد مسمى ، لقد انضوت تحت هذه الوجهة اراء عديدة فثمة راي يقول بان عقد العلاج هو عقد وكالة ، وثمة راي ثاني يقول بانه عقد عمل ، وثمة راي ثالث يقول بانه عقد مقاولة ، ولكل من هذه الآراء التي سنبسطها تباعاً أسانيده وحججه.

اولاً: عقد العلاج عقد وكالة:

ذهب جانب من الفقه إلى أن العلاقة بين الطبيب والمريض هي علاقة عقدية تندرج ضمن عقد الوكالة وقد اشار إلى ذلك بعض الفقهاء السويسريين مستمدين نظرتهم هذه مما يتضمنه نص المادتين ( 162 و394) من قانون الالتزامات السويسري وهو أن مبدأ التوكيل ينبسط على الاعمال الفنية وذلك لان الوكيل ، بخلاف المقاول ، لا يلتزم بتحقيق نتيجة ،ومن هنا فان عقد الوكالة يكون هو العقد المناسب لطبيعة العمل الطبي(1). والحقيقة أن هذا الرأي هو تعبير عن الوجهة الفقهية التقليدية اذ تمتد جذورها إلى القانون الروماني ، حيث كان الرومان يميزون بين المهن الحرة والحرف اليدوية ، وكانوا يعتبرون العقد مع اصحاب المهن الحرة عقد وكالة ومع اصحاب الحرف اليدوية عقد ايجار(2). .وكـان اصحـاب المهـن الحـرة يقدمون خدماتهم فيكون لها قيمة ولا يكون لها ثمن وذلك بالنظر إلى اهميتها وعدم امكـان تقويمها بالمال وكانوا يعتبرون الاطباء من اصحاب المهن الحرة وان عمل الطبيب لا يقدر بثمن فعلى الطبيب أن يقدم خدماته للمريض كما يقدم المحامي خدماته لمن هو بحاجة اليها ، وان ما يحصل عليه ليس اجراً بل هو مجرد اعتراف بالجميـل أو اتعـاب لمـا قـام به من عمل تجاه المريض(3).وان فكرة الوكالة عند الرومان تقوم على الصداقة(4). وليس معناها الاجر ، وعقد العلاج لا يقـوم علـى اجر ، فمعنى ذلك يكون عقد الاجر عقد وكالة. وقد تعرضت هذه النظرية للنقد من جهة أن الوكيل يخضع لرقابة الموكل وتوجيهه ويكون ملزماً بتقديم الحساب له عن النشاط المكلف به ، في حين أن الطبيب يزاول مهنته بكل حرية وطبقاٍ لما يمليه عليه ضميره من خلال تطبيق الاصول الفنية لمهنة الطب ، والوكالة المقترنة بأنابه تجعل من الوكيل نائبا عن الموكل يعمل بأسم الموكل ولحسابه وتنصرف اثار تصرفه إلى ذمة الموكل مباشرة ، بينما الطبيب يعمل بأسمه ولحسابه أو لحساب المستشفى الذي يعمل فيه وليس لحساب أو صالح المريض(5). هذا فضلا عن أن الاصل في العلاج الطبي أن يكون بأجر ، وان الاصل في عمـل الوكيـل أن يكـون مجانيـاً ولا يكون بأجر الا على سبيل الاستثناء(6). وان قيـام هـذه النظريـة علـى التفـاوت في المهن انمـا هـو امـر لا اسـاس لـه في القانـون(7). وان الوكالـة تنتهي بحكم القانون عند خروج احد طرفيها عن اهليته(8). وليس لخروج المريض عن اهليته اثر على عقد العلاج. ولا شـك أن هذه الانتقادات قد اصابت تلك النظرية في الصميم وكشفة عن عجزها.

ثانياً: عقد العلاج الطبي عقد عمل :

ذهبت هذه النظرية إلى اعتبار عقد العلاج الطبي عقد عمل وذلك بأعتبار الطبيب أجيراً يعمل لحساب المريض ، ومن هنا فانه لا يختلف عن العامل في شيء ، فالطبيب الذي يقوم بممارسة مهنته يتعاقد كأي شخص اخر من ارباب الحرف حيث انه يقوم بعمل لقاء اجر(9). وان التشريعات الحديثة لا تفرق بين الاعمال الفكرية والاعمال اليدوية(10). ولكن نرى أن اصحاب هذه النظرية يؤمنون بوجود علاقة تبعية بين الطبيب والمريض ، وقد انتقدت هذه النظرية على اساس أن فكرة التبعية غير موجودة بين الطبيب والمريض ، وذلك لان الطبيب لا يمكن أن يكون تابعا للمريض ، فهو مستقل في عمله ولا سلطان عليه الا ضميره بتطبيق الاصول العلمية لمهنة الطب. ويعرف عقد العمل بانه ذلك العقد الذي يتعهد فيه شخص بالعمل لفترة من الوقت لخدمة شخص اخر ، وتحت اشرافه مقابل اجر(11). ومعنى ذلك أن عقد العمل يقوم على الاعتبار الشخصي من جانب العامل هو عقد يقوم على تنفيذ متعاقب من جانب العامل مقابل دفع الاجرة ، وخضوع العامل لتوجيهات رب العمل وأوامره. اما عقد العلاج فيقوم على الاعتبار الشخصي من جانب المريض لاعتبارات رآها المريض في الطبيب فتعاقد معه لمعالجته ، ولا توجد في عقد العلاج ، خلافاً لعقد العمل تبعية من جانب الطبيب للمريض ولا يكون الطبيب منفذا لتوجيهات المريض بل انه يقوم على استقلال الطبيب في مواجهة المريض ولا يمكن أن يقوم الا على هذا الاساس وذلك بجهل المريض لمهنة الطب. ومن هنا لا يمكننا اعتبار عقد العلاج عقد عمل لا سيما أن المادة (900) من القانون المدني العراقي قد نصت على أن((عقد العمل عقد يتعهد به احد طرفيه بان يخصص عمله لخدمة الطرف الاخر ويكون في ادائه تحت توجيهه وادارته مقابل اجر يتعهد به الطرف الاخر . ويكون العامل اجيراً خاصاً)).

ثالثاً : عقد العلاج الطبي عقد مقاولة:

ذهب جانب من الفقه إلى اعتبار عقد العلاج الطبي عقد مقاولة تأسيساً على استقلال المقاول في تنفيذ عمله وتوجيه العمال الذين يعملون معه لتنفيذ العقد ، وكذلك استقلال الطبيب في عمله بوصف العلاج أوفي اجراء العملية ، فالخصائص المشتركة بين العقدين والمتمثلة في استقلال كل من المقاول والطبيب في عمله ، وفي تقاضي كل منهما اجره على العمل الذي يقوم به هي التي دعت إلى القول بان عقد العلاج الطبي هو عقد مقاولة. ولقد انتقدت هذه النظرية من منطلق أن التزام المقاول هو التزام بتحقيق نتيجـة وان التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية ، وهذا اختلاف جوهري فيما بينهما ، كما أن المقاول يستطيع اسناد العمل إلى مقاول ثانوي وان الطبيب لا يفعل مثل هذا وذاك لان عقـد العـلاج قائم على الاعتبار الشخصي(12). فالمريض قـد اختـار الطبيب اختياراً مبنيا على ما يتحلى به من صفات معينة وليس اعتباطاً ، وهذه الصفات المعينـة قـد لا تتوفـر فـي غيـره مـن الاطبـاء ،هـذا إلـى جــانب أن عقــد المقاولـة مبني على الجانب الاقتصادي وحسابات الربح والخسارة وهذا ما يخلو منه عقد العلاج بوصفه عملاً مدنياً ، ويفترض أن يكون فضلاً عن ذلك انسانياً. وبناءً على ما تقدم لا يمكن وصف عقد العلاج الطبي عقد مقاولة مع اقرارنا بانه يقترب احيانا من هذا الاخير مادام الطبيب يجري عملا باستقلالية فلا يخضع لاشراف أو لتوجيه من احد وبانه يكون مقابل اجر ، ومادامت هناك اعمال طبية يكون التزام الطبيب فيها التزاماً بتحقيق نتيجة وهي من مثل عمليات نقل الدم أو نقل الامصال وكذلك الاعمال المختبرية وعمل التركيبات الصناعية (طقم الاسنان أو الاطراف الصناعية ) (13).وكذلك التزام الطبيب أو المستشفى بسلامة المريض داخل المستشفى من الامراض المعدية. واذ نفرغ من الكلام في هذه النظريات والانتقادات التي وجهت اليها فأظهرت انها لا تسعف في شيء فلنبحث عن التكييف الملائم فعسى أن نجده في الوجهة الثانية التالية:

الوجهة الثانية : أن عقد العلاج الطبي عقد غير مسمى وبعد أن تبين لنا فشل النظريات التقليدية في تكييف عقد العلاج فثمة نتيجة مفروضة هي أن نعتبره عقداً غير مسمى(14).

وذلك لان عقد العلاج له مميزات خاصة وقواعد لم توضع ولا تتفق مع العقود المسماة كما تبين لنا من قبل فهو عقد خاص مختلف عن العقود الاخرى ، اما التشابه بينه وبين بعض العقود فانه لا يفقده صفته واستقلاليته(15). ومما يميز عقد العلاج هو حق كلا المتعاقدين (الطبيب والمريض) في فسخ العقد متى شاءا ، ولكن حق الطبيب في فسخ العقد يكون مقيدا نسبيا بان لا يقع هذا الفسخ في وقت غير منـاسب أو يكـون مجلبـة للاضـرار بالمـريض(16). كمـا أن مما يميز هذا العقد هو أن مصالح اطرافه غير متنافرة خلافاً للعقود الاخرى التي يعمـل كــل متعاقد فيها على احراز الظفر على حساب المتعاقد الاخر ، فمصالح اطراف العقد الطبي تكون متفقة ومتوجهة نحو هدف واحد هو شفاء المريض(17). والى جانب ما تقدم فان عقد العلاج من العقود المدنية ، فممارسة العمل الطبي ليست ممارسة لعمل تجاري ولا يغير من هذا أن يمارسه الطبيب في مستشفى خاص أو شركة أو مصنع فهو عمل مدني ، وان التزام الطبيب بوجه عام هو التزام ببذل عناية وليس التزاما بتحقيق نتيجة. ومن هنا فلا يبقى امامنا الا التسليم بان عقد العلاج الطبي هو عقد غير مسمى ولكن من نوع خاص وقائم بذاته وهو يختلف عن عقود القانون المدني ويحتاج إلى تنظيم خاص الامر الذي يدعونا إلى أن نتمنى على المشرع تنظيمه وذلك لما له من اهمية خاصة تنبثق من اهمية ما ينظم من روابط لها مساس بحياة الفرد والمجتمع.

___________________________

– د.احمد محمود سعد –المرجع السابق –ص222.

2- د.حسن زكي الابراشي –المرجع السابق –ص92.

وكذلك د.عبد الرشيد مأمون –عقد العلاج بين النظرية والتطبيق ، المرجع السابق –ص98.

3- د. عبد الرشيد مأمون –المرجع السابق –ص99.

4- د. عبد الرشيد مأمون –المرجع السابق –ص99.

5- انظر تفصيل ذلك أستاذنا د.جاسم العبودي –النيابة عن الغير في التصرف القانوني –رسالة دكتوراه بغداد –1990 فالوكالة عقد والنيابة تفويض بارادة منفردة ، واذا لم تكن الوكالة نيابية ، ومثلها الوكالة وعقد المسخر –فأن الاثار تنصرف إلىذمة الوكيل ويلتزم أن ينقلها بتصرف لاحق إلىالموكل –ص47 –ومابعدها.

6- د. عبد الرزاق السنهوري –الوسيط –العقود الواردة على العمل ، جـ7 ، المجلد الاول القاهرة 1964-ف208-ص372 -. وكذلك د. عبد الرشيد مأمون-المرجع السابق –ص103.

7- د. حسن زكي الابراشي –المرجع السابق –ص93.

8- تنص المادة (946) من تقنيننا المدني على انه ((تنتهي الوكالة بموت الوكيل أوالموكل أوبخروج احدهما عن الاهلية…)

9- د.عبد الرشيد مأمون –المرجع السابق –ص106.

0- د. حسن زكي الابراشي –المرجع السابق –ص94.

1- د. عبد الرشيد مأمون –المرجع السابق –ص107 .

وكذلك د. اسعد عبيد عزيز –المرجع السابق –ص57.

2- د. اسعد عبيد عزيز –المرجع السابق –ص59.

3- د. اسعد عبيد عزيز الجميلي –المرجع السابق –ص61.

4- د.حسن زكي الابراشي –المرجع السابق –ص99.

5- د. عبد الرشيد مأمون –المرجع السايق –ص91.

6- د- حسن زكي الابراشي-المرجع السابق-ص91.

7- د.عبد الرحمن عبد الرزاق داود الطحان – المرجع السابق–ص62.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .