أساس مبدأ الشرعية الجنائية :

لمبدأ الشرعية الجنائية أساسان يستند إليهما في وجوده ولهما علاقة في تحديد ذاتية القواعد الجنائية الموضوعية وهما: الأساس الفلسفي والأساس الدستوري، وسيتم بحثهما كما يأتي:

أولاً: الأساس الفلسفي

إن مبدأ الشرعية الجنائية بوصفه مبدءاً فلسفياً يتفق مع طبيعة النفس البشرية، فيأتي من خارج التنظيم القانوني بمعنى أنه يهيمن على أفكار واضع القانون وهذا ما يميزه عن النظرية الفقهية التي تعد صنيعة القانون الوضعي، فالمبدأ يهيمن على القانون أما النظرية فهي متولدة عن القانون، وهذا ما يفسر لنا عدم صحة مخالفة المبدأ في القانون بوجه عام على العكس من النظرية التي يجوز مع تطور الأحوال أن تتغير أو تلغى وتحل محلها نظرية جديدة(1). فمبدأ الشرعية الجنائية يقوم على دعامتين أساسيتين هما الحرية الشخصية وحماية المصلحة العامة. ففيما يتعلق بحماية الحرية الشخصية فقد وجد هذا المبدأ كعلاج لمواجهة صنوف التحكم (التعسف) المختلفة التي عانت منها العدالة الجنائية ردحاً طويلاً من الزمن، فهذا المبدأ يضع للأفراد الحدود الواضحة لتجريم الأفعال قبل ارتكابها فيبصرهم من خلال نصوص واضحة ومحددة لكل ما هو محظور قبل الإقدام على مباشرته، كما يضمن لهم الأمن والطمأنينة في حياتهم ويحول دون تحكم القاضي الجنائي فلا يستطيع تجريم سلوك أو إدانة أحد إلا إذا كان السلوك المنسوب إلى المتهم يشكل جريمة يعاقب عليها نص القانون وكان هذا النص سابقاً على ارتكاب الفعل المجرم قانوناً(2). وقد عبر عن ذلك (بيكاريا) مؤكداً في ذلك ما سبق أن قاله (مونتسكيو) من أن القوانين وحدها هي التي يمكن أن تحدد عقوبات الجرائم، وإن هذه السلطة لا يمكن أن يتولاها سوى المشرع بنفسه والذي يمثل المجتمع بأسره وبمقتضى العقد الاجتماعي(3).

أما حماية المصلحة العامة، فتكون قد تحققت من خلال إنفراد المشرع وحده بممارسة وظيفة التجريم والعقاب تطبيقاً لمبدأ إنفراد المشرع بالاختصاص في مسائل الحقوق والحريات استناداً إلى أن القيم والمصالح التي يحميها قانون العقوبات (القواعد الجنائية الموضوعية) لا يمكن تحديدها إلا بواسطة (السلطة التشريعية)، وعلى هذا النحو يعرف المواطنون سلفاً القيم والمصالح التي يرتكز عليها وجود المجتمع والتي تحميها القواعد الجنائية الموضوعية مما يسهم في تنمية الروح الاجتماعية وتحقيق التماسك الاجتماعي والحفاظ على الثقة ما بين الأفراد والدولة وتحقيق استقرار المجتمع الذي يقوم عليه الأمن القومي(4). ومن ناحية أخرى فإن مجرد النص على الجرائم والعقوبات يحقق ردعاً عاماً يهذب من السلوك ويصلح من التصرفات السلوكية والمواقف السلبية للأفراد، وبهذا يتحقق منع الجريمة قبل وقوعها أي تتحقق الوقاية قبل العلاج(5). وهذه الدعائم الرئيسية (الأساسية) التي يقوم عليها الأساس الفلسفي لمبدأ الشرعية الجنائية هي ما تبرز خصيصة القانون الجنائي الموضوعي تجاه القوانين الأُخر، فقواعد القانون الخاص (القواعد الموضوعية) هدفها الأول حماية المصلحة الخاصة دون الاكتراث بالمصلحة العامة على عكس القواعد الجنائية الموضوعية التي تهدف إلى حماية مصالح المجتمع فهي لا تكترث بحماية مصلحة خاصة لفرد دون غيره، كما أنها ترمي في الوقت ذاته إلى حماية مصلحة الفرد ولكن ليس لكونه فرداً معيناً بل لكونه أحد أفراد المجتمع ومن مجموع مصالح الأفراد معاً تتحقق المصلحة العامة.

ثانياً: الأساس الدستوري

نصت المادة (19) من الدستور العراقي لعام 2005 بأنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة”(6). فهذا النص يقرر بوضوح وصراحة على مبدأ (شرعية الجرائم والعقوبات). حيث أن جذور هذا المبدأ تمتد إلى متطلبات سيادة القانون وديمقراطية نظام الحكم، أي أن هذا المبدأ يحقق العدالة السياسية بجعله المشرع مختصاً بوضع التشريع وبجعله القاضي مختصاً بالفصل في المنازعات التي تثور بصدد تطبيق التشريع وبجعله المنفذ (السلطة التنفيذية) يختص فحسب بتنفيذ كلمة القضاء المبنية على التشريع، وهذا ما يباعد بين المجتمع والوقوع في الدكتاتورية أي ما يحقق العدالة السياسية، ولهذا ازدهر هذا المبدأ من أجل القضاء على تحكم القضاة والحكام حيال خصومهم أو الأبرياء في القضايا التي يتهمون ظلماً بارتكابها(7). وعلى الرغم من عدم النص على هذا المبدأ في الدستور الفرنسي القديم، فقد أكد الفقه الجنائي قيمته الدستورية على أساس أنه جزء من القانون العام العرفي في فرنسا. وهو قانون أسمى من التشريع ذاته لا يمكن المساس به، كما انتهى العميد (ديجي) إلى النتيجة ذاتها اعتماداً على أن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 قد أكد قيمته الدستورية مع جميع المبادئ المترتبة عليه، كما جاء دستور عام 1946 ودستور عام 1958 فأكدا بصفة رسمية وفي مقدمة كل منهما بأن إعلان عام 1789 يحتل مكاناً رفيعاً في قمة البناء القانوني الفرنسي، كما أنه يأخذ موقع القلب من المجموعة الدستورية التي تتضمن الحقوق والحريات التي تتمتع بالقيمة الدستورية، وقد أكد هذا المعنى المجلس الدستوري الفرنسي في حكمه الصادر في 16 يوليو عام 1971، حيث مارس رقابته الدستورية السابقة على مطابقة التشريع لهذا المبدأ الدستوري(8). فمبدأ الشرعية الجنائية يتكامل مع عدة مبادئ دستورية أخرى(9)، وهي (مبدأ المساواة) ومبدأ (براءة المتهم المفترضة حتى تثبت إدانته)، ومبدأ (المحاكمة العادلة)، فهذه المبادئ جميعاً تسهم في تحديد نطاق التجريم والعقاب الذي يتم وفقاً لشرعية الجرائم والعقوبات.

______________

1- في تفصيل ذلك ينظر: د. عبد الرحيم صدقي، فلسفة القانون الجنائي (دراسة تأصيلية في الفكر الفرنسي)، دار النهضة العربية، القاهرة، (بلا سنة طبع)، ص267.

2- ينظر: د. عصام عفيفي، مبدأ الشرعية الجنائية (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار النهضة العربية، القاهرة 2003، ص23، جواد الرهيمي، التكييف القانوني للدعوى الجنائية، المكتبة الوطنية، بغداد 2004، ص105.

3- ينظر: تشيرازي بيكاريا، الجرائم والعقوبات، ط1، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، أدارة التأليف والترجمة، ترجمة يعقوب محمد، الكويت 1985، ص11.

4- ينظر: د. احمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري ، دار الشروق ، القاهرة 2001، ص32.

5- ينظر: د. عبد الرحيم صدقي، المرجع السابق، ص273.

6- ويقابلها نص المادة (21) من الدستور العراقي الملغى لعام 1970، والمادة (66) من الدستور المصري لعام 1971.

7- ينظر: د. محمود نجيب حسني، الدستور والقانون الجنائي، دار النهضة العربية، القاهرة 1992، ص11-12، د. عبد الرحيم صدقي، المرجع السابق، ص274.

8- ينظر: د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري، المرجع السابق، ص35.

9- ينظر نص المادة (19/خامساً) من الدستور العراقي لعام 2005، والمادة (19) من الدستور العراقي الملغى لعام 1970.

مدلول مبدأ الشرعية الجنائية ونشأته :

تتمثل الشرعية الجنائية في مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، ويقصد بهذا المبدأ أن يحاط المخاطب بقواعد التجريم علماً بأنماط السلوك المحظورة وأن تحدد العقوبات المترتبة على خرق هذه المحضورات بشكل مسبق(1)، بمعنى إن عدم مشروعية الأفعال التي يراها المشرع ضارة بمصالح المجتمع والعقوبات المفروضة عليها أن تحدد من قبل إتيانها من قبل المكلفين بإتباع القاعدة الجنائية، وهذا معناه أن التطبيق المباشر لقواعد التجريم لا يُخضِع المكلف للعقوبة إذا وقع هذا الفعل قبل نفاذ النص الجنائي أو سكت المشرع عن وضعه ضمن نصوص التجريم.

فالمبدأ هو أصل كلي وأساس قاعدي يوجد في كل تشريع جنائي، أي هو استنتاج منطقي ثبتت صحته على مدار الزمان رغم اختلاف المكان، فالشرعية هي عدم جواز خروج المشرع سواء في القانون الجنائي أو غيره من القوانين عن حدود ونطاق حقوق الإنسان وحرياته(2).

ولا يفوتنا في هذا الموضع من بيان لمصطلحي الشرعية والمشروعية، فيرى جانب من الفقه(3) أن عدم المشروعية تختلف عن عدم الشرعية، فالفعل غير الشرعي هو فعل لا تتوافر فيه كل أو بعض الشروط التي يتطلبها القانون في الفعل لكي يكون صحيحاً ومنتجاً لآثاره القانونية، فهو فعل لا يتجه به مرتكبه اتجاهاً مضاداً لتكييف جنائي وإنما يتجه به إلى طريق لا يجد في نهايته حماية قانونية لفعله، كما أن الفعل غير الشرعي لا يتجه به صاحبه نحو مصلحة الغير فيعتدي عليها أو يعرضها للخطر وإنما يتجه به نحو مصلحته الذاتية فيحول بتصرفه هذا إلى خروج مصلحته من نطاق الحماية القانونية، ويضيف هذا الرأي إلى عدم وجود التلازم ما بين عدم المشروعية وعدم الشرعية فقد توجد الشرعية ولا توجد المشروعية، ويمثل لعدم الشرعية بعدم مراعاة الشكلية في عقد شكلي كعقد الهبة، فعدم الشرعية عند هذا الرأي نتيجة منطقية لتخلف العناصر أو الشروط القانونية للفعل أكثر من كونها نتيجة قانونية لهذا التخلف، أما اللامشروعية فهي تعارض السلوك مع تكليف جنائي تتضمنه قاعدة مانعة.

وهناك جانب آخر(4) يساوي ما بين المصطلحين حيث يذكر: “بأن عدم المشروعية العام يمكن تصوره من الناحية النظرية،…، وحينئذ نصبح بصدد عدم مشروعية جنائي خاص له ذاتيته المستقلة عن غيره من أنواع عدم المشروعية، والقول بغير ذلك يعني إهدار مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وترك سلطة التجريم بين يدي القاضي مما يهدد الحريات الفردية تهديداً خطيراً”.

ومن جانبنا نؤيد الرأي الذي يساوي ما بين الاصطلاحين، فإذا كان الفعل غير شرعي فهو في الوقت ذاته يعد غير مشروع، وإن الفصل بين الاصطلاحين هو مجرد محاولات فقهية نظرية لا صلة لها بالواقع العملي، فما هو متعارف عليه في النظام القانوني هو التسوية بينهما، حيث أن الترابط بين مبدأ الشرعية والمشروعية (مبدأ سيادة القانون) واضح وبيّن، فمبدأ المشروعية يعد من الأصول الدستورية الكبرى في الدول التي أخذت بالنظام الديمقراطي في حكمها، ومؤداه التزام الحكام والمحكومين بالقانون الذي يعبر عن إرادة الجماعة، فيكون القانون هو الفيصل والحكم بين السلطة وأفراد الدولة، وهذا الأصل الدستوري قد يطلق عليه اسم آخر وهو (مبدأ خضوع الدولة للقانون)(5).

وما يترتب على هذا الأصل الدستوري في المجال الجنائي هو التزام الدولة بنصوص التجريم والعقاب، بحيث تكون قد خرجت على مبدأ الشرعية وخرقت في الوقت ذاته المبدأ الدستوري (المشروعية) إذا ما عاقبت على أفعال مباحة(6).

أما عن نشأة مبدأ الشرعية التاريخية، فإنه لم يظهر في مجال القانون الوضعي إلا في الفترة التي تحددت فيها سلطات الدولة وانفصلت كل منهما عن الأخرى، ففي عهد الملكية المطلقة كانت أوامر الملك تتمتع وحدها بقوة القانون الذي له سلطة تجريم الأفعال بمطلق إرادته، وفي القرون الوسطى كان القضاة يملكون سلطة تحكمية في تجريم الأفعال والعقاب عليها دون نص قانوني، وبقي الحال كذلك حتى اشتد نقد الفلاسفة والكتاب لهذا التحكم وعلى رأسهم (مونتسكيو) و (بيكاريا)(7).

وقد أكدت الثورة الفرنسية هذا المبدأ في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي الصادر عام 1789، وقبل ذلك قد أخذ القانون الإنكليزي بمبدأ الشرعية منذ أن صدر ميثاق (هنري الأول)، ثم تضمنه دستور (كلاريندون)، وأكد ذلك العهد الأعظم الذي قرر سمو قواعد القانون في إنكلترا(8)، كما أشارت إلى مبدأ الشرعية قبل ذلك شريعة حمورابي والقانون الروماني.

إلا أن مبدأ الشرعية يجد أصله التاريخي الصحيح في الشريعة الإسلامية وفي قوله تعالى “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً(9)”.

____________

1- ينظر: د. محمود طه جلال، أصول التجريم والعقاب في السياسة الجنائية المعاصر (دراسة في استراتيجيات استخدام الجزاء الجنائي وتأصيل ظاهرتي الحد من التجريم والعقاب)، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة حلب، دار النهضة العربية، القاهرة 2005، ص152، د. عبود السراج، قانون العقوبات (القسم العام)، مطبعة جامعة دمشق، دمشق 2000، ص67 وما بعدها، د. خالد عبد الحميد فراج، المنهج الحكيم في التجريم والتقويم، منشأة المعارف، الإسكندرية، بلا سنة، ص49.

2- ينظر: د. عبد الرحيم صدقي، فلسفة القانون الجنائي (دراسة تأصيلية في الفكر الفرنسي)، دار النهضة العربية، القاهرة، (بلا سنة طبع)، ص265-266.

3- ينظر: د. عبد الفتاح الصيفي، القاعدة الجنائية (دراسة تحليلية على ضوء الفقه الجنائي المعاصر)، الشركة الشرقية للنشر والتوزيع، بيروت، (بلا سنة طبع)، ص101.

4- ينظر: د. فوزية عبد الستار، عدم المشروعية في القانون الجنائي، مجلة القانون والاقتصاد، العددان الثالث والرابع، السنة الحادية والأربعون، سبتمبر/1971، ص467.

5- ينظر: د. علي أحمد راشد، القانون الجنائي (المدخل وأصول النظرية العامة)، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة 1974، ص141.

6- ينظر: د. محمد سليم العوا، مبدأ الشرعية في القانون الجنائي المقارن، مجلة إدارة قضايا الحكومة، ع4، س21، اكتوبر-ديسمبر 1977، ص5 وما بعدها، وللتفصيل في ذلك ينظر: د. كاظم عبد الله حسين الشمري، تفسير النصوص الجزائية (دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي)، أطروحة دكتوراه، كلية القانون، جامعة بغداد، 2001، ص13-14.

7- ينظر: د. رؤوف عبيد، مبادئ القسم العام من التشريع العقابي المصري، دار الفكر العربي، مصر، (بلا سنة طبع). ص105، د. أحمد فتحي سرور، القانون الجنائي الدستوري ، دار الشروق ، القاهرة 2001، ص30، د. عصام عفيفي حسيني، مبدأ الشرعية الجنائية (دراسة مقارنة في القانون الوضعي والفقه الجنائي الإسلامي)، دار النهضة العربية، القاهرة 2003، ص19.

8- ينظر: جواد الرهيمي، التكييف القانوني للدعوى الجنائية، المكتبة الوطنية، بغداد 2004، ص104.

9- ينظر سورة الإسراء آية (15).

المؤلف : فاضل عواد محميد الدليمي
الكتاب أو المصدر : ذاتية القانون الجنائي

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .