التعريف القانوني لهيئة المحلفين

المحلفون مجموعة من المواطنين يدعون للمشاركة في مجلس القضاء مع رجاله، بعد حلفهم اليمين لسماع الدعوى وإصدار قرارهم في وقائعها، ليقوم القاضي بتطبيق حكم القانون على هذه الوقائع. وكلمة jury إنكليزية مشتقة من اللغة الفرنسية القديمة juré، وقد سُمّوا كذلك بسبب تحليفهم قبل مباشرة مهمتهم.
ويتخذ المحلفون صورتين أساسيتين: هيئة المحلفين الكبرى grand jury، وهيئة المحلفين الصغرى petit jury، والكبرى هي مجموعة أشخاص تتكون من ثلاثة وعشرين شخصاً، يدعون من وقت إلى آخر بوساطة المحكمة للتحري عن الجرائم، فهي التي تقرِّر ما إذا كانت هناك أسباب محتملة للاعتقاد بأن شخصاً ما قد ارتكب جريمة معينة، وتسمى بهيئة محلفي الاتهام، فهي تقوم بدور المدعي في توجيه قرار الاتهام. وأما الصغرى وتسمى بهيئة محلفي المحاكمة trial jury، فهي عادة تتكون من اثني عشر شخصاً يدعون للإسهام مع القضاة في سماع الدعوى والبتّ في وقائعها بإصدار قرار يحدد مسؤولية الفاعل فيما إذا كان مذنباً أم غير مذنب، ليستقل القاضي عندئذ بتطبيق العقوبة التي ينص عليها القانون.

نشأة نظام المحلفين وأساسه

اختلفت وجهات نظر الباحثين في أصول نظام المحلفين، فذهب بعضهم إلى رد أصوله إلى الشعوب القديمة من المصريين واليهود والإغريق والرومان والجرمان والاسكندناف، ورده فريق آخر إلى العصور الوسطى لدى الإقطاعيين في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. وسبب اختلاف وجهات النظر هو مدى تناول الباحث أوجه الشبه والموازنة بين نظام المحلفين وما كان معروفاً لدى مختلف الأمم من نظم مرافعات مشابهة. فالمحاكمة بطريق المحلفين ليست نظاماً ناتجاً من تشريع برلماني رسم حدودها وحدد وظائفها، وإنما نشأت تلك المحاكمة تدريجياً، وهي بكل الأحوال صورة من صور إسهام المواطنين في إقامة العدالة، وفكرة إسهام المواطنين في إقامة العدالة وُجدت لدى مختلف الشعوب القديمة. ويميل معظم الباحثين في أصل نظام المحلفين إلى القول: إن نواة هذا النظام ترجع إلى النظام القديم للتنقيب والتحري لدى ملوك الفرنجة، والذي انتقل إلى إنكلترا مع الغزو النورماندي لها، ومع المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويتضمن هذا الإجراء قيام موظف رسمي بدعوة مجموعة من السكان المحليين في الحي أو الجهة للإدلاء بمعلوماتهم عن الأراضي والحقوق التي للملك في تلك الجهة، وذلك بعد تحليفهم اليمين لأغراض تقدير الضرائب الملكية. وهذا هو الأساس الإداري لنظام المحلفين، وأما الأساس السياسي فيتمثل في أن إجراء التنقيب نما في إنكلترا واتسع بوساطة الشريف، وهو الممثل المباشر للملك في الإقليم أو الإقطاعية ليشمل التحري عن الجرائم، وأصبح نظام المحلفين ضمانة أساسية لحريات الأفراد وضد طغيان القضاة المعينين من التاج البريطاني, وعدم استخدام الملوك القضاة أداة لاستبدادهم بحرية الأفراد. والأساس السياسي هذا هو الذي انتقل به نظام المحلفين من إنكلترا إلى الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوربا الأخرى.

تشكيل هيئة المحلفين

هناك بعض الشروط العامة لابد من توافرها في المواطن الذي يختار محلفاً في قضية ما، وهي بوجه الإجمال تتصل بشرط التمتع بجنسية الدولة، وشرط السن كأن لا يقل عن إحدى وعشرين ولا يزيد على ستين سنة في إنكلترا، وشرط الإلمام بالقراءة والكتابة، وشرط يتعلق بالمقدرة المالية لمن يعمل محلّفاً،على أساس أن الموسرين أقل احتمالاً لقبول الرشوة، وشرط يتعلق بحسن السمعة والخلق واتزان الشخصية، فمن حُكم عليه بعقوبات معينة مثلاً لا يصلح للعمل محلفاً، وهناك شروط أخرى قد لا تنص عليها التشريعات مثل الشرط المتعلق بالحالة الصحية للمحلف وهي مسألة يقدرها القاضي، ولأطراف الخصومة الاعتراض على المحلف كما لو كان أعمى أو أصم؛ لأن مثل هؤلاء لا يصلح للقيام بمهمة المحلف على وجه مقبول. وقد تنص التشريعات على شروط خاصة لهيئة محلفين خاصة يجري تشكيلها في أنواع محددة من القضايا نظراً لدقتها؛ كاشتراط كون المحلف من شاغلي وظائف أو حرف معينة للبتّ في الوقائع محلّ النزاع. وهذه الهيئات الخاصة للمحلفين محل هجوم وانتقاد لأنها تخالف مبدأ الديمقراطية في تكوين هيئة المحلفين من سائر أفراد المجتمع، ومع ذلك قضى بدستورية التشريع الذي ينظِّم هيئة المحلفين الخاصة طالما أنه لا يخالف سائر شروط هيئة المحلفين العامة ولا يستبعد أي شخص أو طبقة بسبب الجنس أو العقيدة أو اللون أو العمل. وهناك موانع من العمل بوصفه محلفاً تتصل بالتجريد السياسي والمدني للمواطن،أو ممارسته وظيفة تتعارض مع وظيفة المحلف سواء كانت سياسية – كأعضاء الحكومة والبرلمان – أم قضائية، أم إدارية كالوظائف العليا في السلطة التنفيذية،أم عسكرية كرجال الجيش وتتجه أغلب التشريعات إلى إبطال القرار الذي يصدر عن هيئة محلفين يكون أحد أعضائها ممن لا تتوافر فيه الشروط أو تتوافر فيه أحد الموانع.

وطبقاً للقانون العام الإنكليزي common law تتكون هيئة محلفي المحاكمة من اثني عشر محلفاً، وهي القاعدة المطبقة في الولايات المتحدة. ولا يجوز أن يزيد أو ينقص عدد المحلفين عن العدد الذي ينص عليه القانون تحت طائلة بطلان الإجراءات، وتمر عملية اختيار المحلفين في التشريعات المختلفة بعدة خطوات ابتداء بإعداد قائمة بأسمائهم ممن تتوافر فيهم شروط العمل بوصفهم محلفين، كما تأخذ الولايات المتحدة بإجراء خاص لفحص هؤلاء المحلفين للوقوف على ميولهم قبل تولّي نظر القضية. كذلك تبيح مختلف التشريعات الاعتراض على المحلفين أو ردِّهم تأكيداً لضمان حق المتهم في محاكمة عادلة غير متحيزة، ويجب أخيراً أن يؤدي المحلفون اليمين قبل مباشرتهم مهمتهم.

دور هيئة المحلفين

1ـ في القضايا المدنية: فيما خلا إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن معظم التشريعات الأوربية كفرنسا والتي أخذت بنظام المحلفين قد عدلت عنه بخصوص القضايا المدنية إلى نظام اشتراك أعضاء شعبيين مع القضاة المختصين في كل ما يتعلق بمسائل الواقع والقانون. وحتى في إنكلترا فإن التشريع قد حدد مثلاً الدعاوى المدنية التي تُنظر بمحلفين أمام المحكمة العليا؛ ما لم ترَ المحكمة أن الدعوى تتطلب إجراءات مطولة وبحوثاً علمية وتحريات مما لا يمكن إجراؤه بسهولة عن طريق المحلفين. وترك لها سلطة تقديرية في جعل المحاكمة بمحلفين في الدعاوى المدنية الأخرى، وعملياً أصبحت دعاوى التعويض الشخصي تُنظر أمام قاضٍ بمفرده. وفي الولايات المتحدة الأمريكية وبمقتضى دستورها فإنه قد نصّ على ضمان الحق للأفراد في المحاكمة بمحلفين في القضايا الجنائية ولم ينص على هذا الحق في المسائل المدنية، لكنه قرر الاحتفاظ للخصوم بحقهم في المحاكمة بمحلفين في المسائل المدنية إذا كانت من دعاوى القانون العام common law التي تزيد قيمتها على عشرين دولاراً وتدخل في اختصاص المحاكم الاتحادية من دون محاكم الولايات.

وتنظم تشريعات بعض الولايات بصورة متفاوتة إجراءات تجعل من حق المحلفين نظر دعاوى جديدة، وإضافة إلى تلك الحالات التي تعد فيها المحاكمة بمحلفين في القضايا المدنية حقاً للأطراف، توجد حالات أخرى تعطي فيها التشريعات المختلفة للولايات رخصة تقديرية للقاضي في الأمر؛ بأن تتم المحاكمة بمحلفين إما لنظر الدعوى بأكملها أو لنظر مسألة معينة تتعلق بالنزاع المعروض. وطبقاً للقواعد القانونية الاتحادية فإن للمحكمة – حتى في تلك الحالات التي لا يكون للأطراف حق المحاكمة بمحلفين كما في دعاوى العدالة والإنصاف[ر] equity – أن تأمر بهذه المحاكمة بعد موافقة طرفي النزاع، وفي مثل هذه الحالات التي تكون المحاكمة بمحلفين فيها بناء على أمر المحكمة وليست حقاً للأفراد؛ فإن القرار الصادر عن هيئة المحلفين يعد استشارياً advisory في بعض تشريعات الولايات وحاسماً في بعضها الآخر، حتى في الأولى منها فإنه قلّما تهمل المحكمة قرار هيئة المحلفين، ولأن نفقات التقاضي بمحلفين في المسائل المدنية مكلف مادياً للخصوم، لذا صاروا يعزفون عنه وهو في طريقه إلى الاضمحلال. ويحدد القانون مدة للخصم لاختيار التقاضي بمحلفين تحت طائلة سقوط الحق فيه، وكذا اللجوء إلى التحكيم التجاري، أو إلى المحاكمات الإدارية المتخصصة خارج نطاق التنظيم القضائي العادي؛ لأن دعاوى إصابات العمل وحوادث السيارات قد حلّت محل كثير من دعاوى القانون المشترك، ومن ثم اجتث عدداً من المحاكمات بمحلفين فضلاً عن تعقد الجوانب الفنية والمالية لكثير من المسائل المدنية في الوقت الحالي.

2ـ في القضايا الجنائية: يسهم المحلفون في تحقيق العدالة الجنائية في صورتين: صورة محلفي الاتهام أو هيئة المحلفين الكبرى وصورة محلفي المحاكمة أو هيئة المحلفين الصغرى، وقد ألغت إنكلترا نظام محلفي الاتهام لما تكشف عنه من عيوب في العمل، وتختص هيئة محلفي الاتهام بالتحري والإبلاغ عن الجرائم الشائنة أو المُعَاقب عليها بالإعدام في منطقة اختصاصها، وإصدار قرار الاتهام في الدعاوى التي تحال إليها. وتقضي إما بصحة الادعاء وإحالة المتهم إلى المحكمة المختصة أو بعدم كفاية الأدلة، فتُحفظ القضية وذلك بأغلبية اثني عشر محلّفاً على الأقل من أصل ثلاثة وعشرين.

وفي الولايات المتحدة فإن نصف الولايات يتطلب هيئة محلفين كبرى للاتهام في الجنايات وإحدى عشرة ولاية تتطلبها حتى في الجنح، أما في باقي الولايات فإنها تجيز تحريك الدعوى العامة في الجنايات والجنح على السواء عن طريق الإبلاغ أو عن طريق هيئة محلفي الاتهام؛ عدا الجرائم المُعَاقَب عليها بالإعدام وبعض الجرائم الخطيرة فلابد في هذه الأخيرة من الاتهام عن طريق هيئة محلفين كبرى. وتقوم هيئة محلفي الاتهام فضلاً عن إصدار قرار الاتهام بالتحري والتحقيق في بعض الجرائم، كما لو جرت عدة وقائع بصورة منتظمة لرشوة بعض الموظفين الرسميين، والإجراءات أمامها تكون سرية. أما هيئة محلفي المحاكمة فإن دورهم ينحصر في المحاكمة في الجرائم الخطيرة والمهمة والتي تنظر أمام المحاكم العليا، وأما الجرائم المتوسطة الخطورة كجرائم التعدي على الأموال من دون عنف في ارتكابها، أو جرم اقتحام مسكن فإنها كثيراً ما تُنظر بأصول وإجراءات موجزة من دون نظام المحلفين ما لم يطلب المتهم محاكمته عنها عن طريق هيئة المحلفين أمام محكمة عليا، وذلك إذا كانت عقوبتها يزيد حدها الأقصى على الحبس لمدة ثلاثة أشهر. وعزوف المتهمين عن اختيار نظام المحلفين في هذا النوع من الجرائم آخذ في الاضمحلال للأسباب نفسها المشار إليها بخصوص القضايا المدنية. أما الجرائم البسيطة فتُنظر حتماً أمام المحاكم الجزائية بالأصول الموجزة، والقاضي الجزائي هو الذي يقرر ما إذا كانت الجريمة المقترفة على درجة كافية من الخطورة أو أن المتهم على درجة من الخطورة حسب سجل سوابقه، ويُرسل ملف الدعوى ليُنظر عبر هيئة المحلفين.

وفي الولايات المتحدة فإن المحاكمة في الجرائم الخطيرة عن طريق هيئة محلفين هو حق للمتهم وضمانة له، وتنص دساتير الولايات على إمكان النزول عنه في القضايا الجنائية والمدنية معاً عدا الجرائم المُعَاقب عليها بالإعدام. وتتلخص وظيفة المحلفين في القضايا الجنائية في الإجابة عن السؤال الذي يُوجَّه إليهم حول مدى مسؤولية المتهم الماثل أمامهم عن الاتهام الموَجِّه إليه بكلمة واحدة مذنباً أم غير مذنب. ويشترط لذلك حضورهم المرافعات بأكملها من بدايتها إلى نهايتها وبعد أن يرشدهم القاضي الذي يترأس الجلسة إلى القانون الواجب التطبيق.

3ـ حدود مهمة المحلفين: يختص المحلفون بالوقائع ويختص القاضي بالقانون، فقبول الشهادة أو الأدلة من اختصاص المحكمة أما نتيجتها وتقديرها فمن اختصاص المحلفين. فهم الذين يحددون ما إذا كان الشهود صادقين أم كاذبين وترجيح شهادة شاهد على أخرى، ويُشترط بكل الأحوال أن يكون قرار المحلفين مُسَبَّباً مسوَّغاً وجماعياً وخاصة في الدعاوى الاتحادية lfedra cases، أما في دعاوى الولايات فإجماع المحلفين في الدعاوى الجنائية مطلوب في العدد الأكبر من الولايات المتحدة الأمريكية، والأدلة تؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها وإلا يكون القرار باطلاً. وللقاضي عندئذ أن يطرح قرار المحلفين للخطأ في القانون أو لأنه أتى على عكس ما تؤدي إليه الأدلة ويأمر بمحاكمة جديدة. وقد يدعى المحلفون للإجابة عن سؤال يثير نقاط قانونية كالبتّ فيما إذا كان شخص ما قد حرّر وصية أم لا، فيجب أن يأخذوا في حسبانهم كلاً من القانون والواقع وهو ما يعد صورة من صور تدخل المحلفين في عمل القاضي.