القضاة للقضاء فقط

محمد بن عبدالله المشوح

القضاء منصب خطير وشريف وكبير من أعلى الرتب في سلم الدول والممالك على مر الزمن والدهور. وقد قيل فيه «علم القضاء من أجل العلوم قدرا وأعزها مكانة وأشرفها ذكرا لأنه مقام علي ونصب نبوي، به الدماء تعصم وتسفح، والأبضاع تحرم وتنكح والأموال يثبت ملكها ويسلب، والمعاملات يعلم منها ما يجوز ويحرم ويكره ويندب».
القضاء في كل دولة يمثل عينها الآمنة لذا ليس غروا أن تنصب الأذهان نحو تطويره والعناية به وتوفير البيئة اللازمة المناسبة للقاضي والمتقاضين كي يتم إحقاق العدالة وتنصب موازين الحق والإنصاف. ولازلت أجزم أن سبب تأخير القضاء في المحاكم لا يعود سببه كما يردده البعض إلى نقص القضاة أو كثرة القضايا.
المشكلة تتلخص وبالتحديد في كيفية تفريغ القضاة للقضاء فقط.

كنا في السابق نتحدث عن العمل الإداري الذي يمارسه القاضي داخل مجلس القضاء وأن الواجب والمتعين أن يقوم بتلك المهمات الإدارية كادر إداري رفيع يستحق الثقة ويكفي القاضي مؤونة البحث والملاحقة لصادر المعاملات وواردها. وأذكر أننا في لجنة المحامين في الرياض سبق أن قدمنا قبل سنوات مقترحا لمعالي وزير العدل السابق خطة إدارة المكتب القضائي تتضمن آلية سريعة يتخلص القاضي من خلالها من تلك المترتبات والتبعات والأعباء الإدارية التي تلاحقه في مجلس القضاء.

المشكلة اليوم ليست في الأعمال والأعباء الإدارية التي تثقل القاضي بل في ذلكم السباق المحموم من قبل بعض القضاة نحو الوسائل الإعلامية والكتابات في المواقع والصحف والتغريدات. إنني أتساءل: أي وقت لدى هذا القاضي الذي وجد تلك الفسحة الطويلة من المتسع الزمني لتلك المشاركات الإعلامية مع ما يغص به مكتبه وذهنه من قضايا وأعمال قضائية تحتاج لأوقات وتأمل ودراسة. القرار الذي صدر من المجلس الأعلى للقضاء يصب في هذا الاتجاه الصحيح وهو يكرس الاعتداد والقيمة والاعتبار والهيبة للمؤسسة القضائية.
وإنني من خلال متابعتي للصحف الخليجية والعربية قل أن تجد تلكم الأسماء الطويلة التي تحملها صحفنا ووسائل إعلامنا لأولئك القضاة لدينا ممن استغلوا وسائل الإعلام والصحف والمواقع بتعليقاتهم ومشاركاتهم. وأدهى من ذلك وأمر تلك البيانات والتوقيع عليها من قبل بعض القضاة وهي خروج عن النص القضائي الذي يحمل الاستقلالية المتاحة والمطلقة والزج بأسماء القضاة في كل بيان وإصدار يحمل معه استفزازا وإثارة وتهيجا للمجتمع وهذا يشكل انعكاسا في مفهوم دور القاضي المستقل المتفرغ للعمل القضائي البحت.
المشاركات القضائية في الواقع لاشك مهما حاول المعذرون نصب الأعذار لها تحمل معها اختزالا للوقت القضائي وبترا لمهمته واستقطاعا منه على حساب المتقاضين وقتا وذهنا وفكرا. لن أحتاج إلى سرد تدليلات واستشهادات على السوابق القضائية الموجودة في دول مجاورة خطأت القضاة ومنعتهم من المشاركة الإعلامية.
من المؤسف أن نشاهد بعض القضاة لديه أحكام مسبقة على بعض الجهات والمسؤولين ويجاهر بنقدهم وتنقصهم متجاوزا الأطر الشرعية القضائية في ذلك.

وإذا كان ذلكم القاضي لم يرق له نظام الدولة ومسؤوليها فليبحث عن موقع آخر غير القضاء بل خارج مؤسسات الدولة. البيان الجريء الذي أفصح عنه قبل فترة المجلس الأعلى للقضاء المتضمن ضعف التسبيب من القضاة للأحكام وهو ما جعل الأحكام تحمل بعض القصور الشكلي والموضوعي يحمل معه دلالة مهمة وهو أن بعض القضاة لم يوفر الوقت اللازم لصياغة أحكامه وتسببها.

لازلت أذكر أحد القضاة في المحكمة العامة بالرياض وكنت أجلس في عدد من القضايا لديه ثم فجأة يقطع الاستماع للخصومة والتقاضي ليجيب على رنين الهاتف الجوال استفتاء من أحد المتصلين لا يعلمه ويستديم النقاش مع الاتصال دقائق عن حكم فقهي ونقاش عن نازلة شخصية. سألت نفسي هل هذا مجلس قضاء أم إفتاء ؟
وهل الدولة فرغت هذا القاضي للإجابة على أسئلة رنين الهاتف الذي لا يتوقف أم للبت في الخصومة والقضاء وهل نحن في المحكمة العامة أم في رئاسة الإفتاء ؟
لن أتردد في القول بأنه ما لم يتفرغ القضاة للقضاء فقط فإنه سوف تزداد القضايا ويكثر التأخير والبت فيها وسوف نواجه مشكلة في المستقبل يصعب حلها.
كما أنني أطالب معالي وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء بالنظر في تلك الدورات التي يقيمها بعض مراكز التدريب ويقوم القضاة بالمشاركة فيها وإلقاء المحاضرات والإعلان عن أسمائهم ومشاركاتهم وهي في ذات الوقت تدخل حسب الرأي الشخصي في المشاركات الإعلامية وتتنافى مع الاستقلالية المطلقة للقاضي بالتفرغ التام للعمل القضائي بخلاف الدورات التي تقيمها الوزارة للقضاة فهذه لاشك تصب في مصلحة التأهب للقضاة. كما أنني أرى في ذات الوقت ضرورة الاستفادة من بعض القدرات القضائية للعاملين في السلك العدلي أمثال المستشارين والمفتشين وغيرهم.
أما القضاة فلا داعي لإشغالهم في ذلك فلديهم ما يشغلهم.
ومن المهم أن يتم الإذعان بأن وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء هما الجهتان المخولتان بالسماح في المشاركة في مثل هذا لأصحاب الفضيلة القضاة. وتقدير المصلحة في ذلك وعدم تعارضها مع المهام القضائية المناطة.
أجزم أن تلك القرارات الجريئة وهي تصب في الاتجاه الصحيح لمسيرة العدالة القضائية في المملكة. والتي أطلق تطويرها والنهوض بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. ونفذ تعليماتها الوزير الحاذق المشرف رئيس المجلس الأعلى للقضاء

د. محمد بن عبدالكريم العيسى.
وقبل أن أختم مقالتي حاولت أن أستعيد ذاكرتي لحال القضاة قبل سنوات حيث كان القاضي شبه منعزل حتى عن المناسبات الأسرية والعائلية وقل أن نشاهده في أخص المناسبات وذلك فهما منه آنذاك في ضرورة بعد القاضي عن أي سجال اجتماعي يحتسب فيه موقف له..
وعلى الرغم من التحفظ على بعض ذلكم الانزواء آنذاك فإن الانفتاح والانفلات الإعلامي المشاهد هو خطأ قضائي فادح يتعين وضع حد له وهو ما فعله المجلس الأعلى للقضاء مشكورا وصدر به أمر سامٍ كريم ليؤكد أن القضاة للقضاء فقط.