مشروع القانون ومقترحه والصراع بين السلطات / القاضي سالم روضان الموسوي

السياسة لها مواسم واسواق تعرض فيها بضائع المزايدين والمتصارعين على السلطة ونجد في فترة الانتخابات واثناء المعارك السياسية التي يخلقها المشتغلين في فنون السياسة ترويج لبضائع عبارة عن افكار تصل الى حد الوهم من اجل اسقاط الاخر وهذا الصراع لا يقف عند حد الفعل المشروع بل يوظف كل الممكنات حتى وان تعدت على حق الفرد او المجتمع في ثوابته وقيمه التي صاغها في دستوره الذ يعد وثيقة عهد وميثاق شرف عهد بها الى من يفترض فيه الامانة وصونها .

وفي العراق الذي ما زال في مرحلة مخاض عسير لولادة منظومة قيمية تؤمن بالحياة الدستورية واحترام الحقوق وممارسة الصلاحيات ضمن الاطار الدستوري والقانوني، وفي كل ازمة سياسية يفتعلها اهل الصنعة في السياسة، ترى كل الاطراف تعرج على القدح بالقضاء واستقلاليته باعتباره سلطة مستقلة توازي السلطتين التشريعية والتنفيذية بموجب الدستور الذي يعد اسمى وثيقة قانونية تكاد تصل عند بعض الشعوب الى حد التقديس .

وهذا القدح يتعدد باوصاف مختلفة تارة يتعرض الى رموز هذه السلطة وفي لون اخر الى كيان السلطة واحيانا الى مواضيع عمل السلطة، وفي كل مرة نوضح الصحيح من الافكار على امل ان يطلع هؤلاء المتقولون عليها لأننا نفترض فيهم حسن النية في الطرح والعرض، لكن ما يجري لا يسري مع ما تقدم من فرض، وفي هذه الايام عاد الترويج الى ان السلطة القضائية ناصرت احدى السلطتين على الاخرى مستشهدين بقرارين اصدرتهم المحكمة الاتحادية العليا والمتعلقين بوزارتي البلديات والعمل والشؤون الاجتماعية حيث اصدر مجلس النواب قانون حل الوزارتين وطعنت السلطة التنفيذية امام المحكمة الاتحادية بعدم دستوريتهما واصدرت المحكمة الاتحادية العليا قراريها المرقمين (44/اتحادية /2010 و 43/اتحادية/2010) وقضى كل منهما بعدم دستورية القانونين لانهما لم يصدرا على وفق الاصول التشريعية المنصوص عليها في الدستور العراقي، ولبيان وجه الحقيقة تجاه التعرض الذي صدر من بعض السياسيين لموقف السلطة القضائية ممثلاً بالمحكمة الاتحادية العليا، وهذا من باب التوضيح وليس الدفاع لان الاحكام القضائية التي تصدر عن المحاكم المشكلة تشكيلا صحيحا حجة على الناس كافة ولا يجوز العمل على خلاف ما ورد فيها حتى وان يرى البعض انها جاوزت الحقيقة لانها تعتبر عنوان الحقيقة التي يقاس عليها صدق الفعل ومشروعيته .

وفي هذين الحكمين نجد ان المحكمة الاتحادية العليا اسست عقيدتها في الحكم بعدم الدستورية على الناحية الاجرائية في اصدار القوانين وجعلت من المقترح الذي يتقدم به اعضاء مجلس النواب هو غير المشروع (مشروع القانون) ووجدت ان الدستور في حكم المادة (60) قد فصل آلية التشريع وبين طرقه الاجرائية ومنح كل جهة ما لها من وسيلة لإصدار القانون وإنتاجه عبر مجلس النواب، اذ حدد حصرا في حكم الفقرة (أولا) من المادة (60) من الدستور حق تقديم (مشروع القانون) في السلطة التنفيذية بينما منح مجلس النواب عبر اعضائه ولجانه حق (اقتراح القوانين) على وفق حكم الفقرة (ثانيا) من المادة أعلاه، ووجدت المحكمة إن في هذا التوصيف حكمة توخاها وهدف اليها كاتب الدستور عند وضعه النصوص اعلاه لان مشروع القانون هو غير مقترح القانون وفي علم الصياغة التشريعية ونجد ان فقهاء هذا العلم يفرقون بينهما ومنهم الدكتور محمود صبرة الخبير في علم الصياغة التشريعية لدى الامم المتحدة يوضح بشكل جلي هذا الفرق والاثار المترتبة عنه في كتابه الموسوم علم الصياغة التشريعية، فكانت قراءة المحكمة لهذه النصوص واستقرائها لمفردات الدستور موفقة تجاه الحكم الصادر في الدعويين الملمع عنهم . واعود على ما تقدم ذكره بان بعض السياسيين يروجون لافكار لا تستند إلى راي صادر من مختص وقد يكون البعض منهم يتكلم عن غير علم لانه غير مختص او يعلم ولكنه يعمد الى ذلك قاصدا تحقيق مآرب في نفسه .

وهذا الحكم الذي ورد لم يكن من ابتداع المحكمة الاتحادية العليا وانما له ما يماثله في القضاء الدستوري لعدد من البلدان ومنها الحكم الذي أصدره المجلس الدستوري اللبناني العدد 4/201 في 29/9/2001 المنشور في كتاب (قضاء واجتهادات المجلس الدستوري في لبنان وفرنسا) تأليف المحامي الياس ابو عيد طبعة بيروت عام 2008 عندما اشار الى ان حكم المادة 38 من دستور لبنان اعطى السلطتين التشريعية والتنفيذية حق اقتراح القوانين على خلاف الدستور الفرنسي الذي حدد لكل جهة وسيلة تقدم مبادرة التشريع في اكثر من مادة ويشير الحكم اعلاه الى ان المبادرة التشريعية التي يطلقها البرلمان تسمى (مقترح القانون) بينما المبادرة التي تطلقها السلطة التنفيذية تسمى (مشروع القانون) .

ولكل واحدة منها طريق يختلف عن الاخر وجاء في كتاب الدكتور محمد المجذوب الموسوم (القانون الدستوري والنظام السياسي في لبنان منشورات مكتبة الحلبي الحقوقية ـ طبعة بيروت ـ ص229 ) حيث يقول الكاتب ( ان كل اقتراح صادر عن النواب يدعى اقتراح قانون وكل اقتراح صادر عن الحكومة يدعى (مشروع قانون) ويقدم الاقتراح الى رئيس المجلس الذي يحيله ، بعد إحاطة المجلس علما به ، إلى اللجان المختصة ، واذا كان الاقتراح صادرا عن النواب ارسل رئيس المجلس نسخة منه الى الحكومة وبامكان النائب سحب اقتراحه او تعديله وبامكان المجلس كذلك تعديل الاقتراح او رفضه وان غالبية القوانين التي تصدر عن مجلس النواب هي مشاريع قوانين تقدمت بها الحكومة) .

كما نجد ان النظام الداخلي لمجلس النواب أشار في المادة (120) إلى وجوب ارسال مقترح القانون الى الحكومة عندما يتعلق بأمور مالية وعلى وفق النص الآتي (يجب على اللجنة المالية أن تأخذ رأي مجلس الوزراء في كل اقتراح بتعديل تقترحه اللجنة في الاعتمادات التي تضمنها مشروع الموازنة ، ويجب أن تضمن اللجنة تقريرها رأي الحكومة في هذا الشأن ومبرراته، ويسري هذا الحكم على كل اقتراح بتعديل تتقدم به أية لجنة من لجان المجلس، أو أحد الأعضاء إذا كانت تترتب عليه أعباء مالية) وحيث إن النظريات الحديثة في علم القانون تشير إلى أن كل قانون يشكل كلفة مالية ولابد من إيجاد مصادر تمويل لتنفيذ ما ينص عليه في صلب القانون .

لذلك نجد ان ما جاء في الاحكام التي تعرض لها بعض السياسيين جاءت على وفق مقتضى الدستور وان من اهداف الرقابة الدستورية حماية الدستور من اي خرق لمبادئه من السلطة التشريعية التي تعنى بالتشريع ولا اجد اي سلب لولاية البرلمان لسلطانه في التشريع وانه القائم على الامر حصرا الا ان كاتب الدستور عندما حدد اليات لانتاج التشريع كان واعيا لها وقاصدا لمفرداتها ولا يمكن لاي كان ان يستغبي الدستور او يُشكِل عليه بفهم كاتبه، وفي الختام اكرر القول بان الدولة لا تنهض الا بالتعاون بين السلطات ولا يحقق التصادم او استعلاء سلطة على أخرى التقدم والاستقرار الذي ترنوا له العيون بعد ان قدم العراق من أبنائه قرابين تضحية وفداء في محراب حريته لان من يشكك في سلامة النوايا لمؤسسات ومكونات الدولة العراقية وهو جزء مساهم فيها يكون قد شكك بنفسه وأتمثل فيه قول الشاعر عبدالله الفيصل

أكاد أشك في نفسي لأني         أكاد أشك فيك وأنت مني
وما أنا بالمصدق فيك قولا            ولكني شقيت بحسن ظني

إعادة نشر بواسطة محاماة نت