ان مصطلح المصلحة العامة مثله مثل العديد من المصطلحات العامة التي تتسع لكثير من الشروحات والتخريجات التي تتسم بالمرونة والتي تخولها استيعاب أنماط مختلفة من المذاهب والأفكار ، وتكون عرضة مدى التاريخ للمحاولات المستمرة من كل صوب لتلوينها بالأصباغ الفلسفية المتعددة . وتكون قدرة المصطلح على الاحتواء سبيلا إلى تطويره واثرائه ، كما تكون ثغرة تلوذ بها بعض المبادئ الدخيلة والمذاهب المنبوذة(1). وقد اتفق الفقهاء قديمهم وحديثهم على ان أساس وجود الدولة(2). هو تحقيق المصلحة العامة ، وان هذا الهدف يحكم جميع تصرفات سلطاتها العامة المختلفة(3). فارسطو يرى هدف كل دولة ليس في حماية أفرادها من العدوان الخارجي أو تبادل السلع والخدمات مع غيرها ، وإلا أصبحت كل الدول دولة واحدة بعد ان تبرم معاهدات عدم اعتداء ومعاهدات تبادل منافع، ولكن الهدف هو تحقيق الخير العام (المصلحة العامة) الذي يراه الفقيه في ان يعيش كل فرد حياة افضل ، وان كل المؤسسات في الدولة ليست سوى وسائل لإدراك هذا الهدف . وان هذه الحياة لا تتحقق إلا بوجود العدل سيد الفضائل وأساس كل دولة لتحقيق الغاية من وجودها(4).

ولم يذهب الفقهاء المحدثون بعيدا عن ذلك حيث يذهب بعض منهم إلى انه من الحقائق المجردة ان تسيطر على كل جماعة انسانية فكرة غالبة عن الخير العام (المصلحة العامة) تتجه كل سلطات الدولة إلى تحقيقها(5). وعليه يجب ان تكون المصلحة العامة هي الأساس الذي تستند إليه السلطة في المجتمع . وان هذا الأساس هو الذي تكتسب الحكومة شرعيتها من خلاله . ومن هنا جاءت أهمية الرقابة على السلطة حتى لا يمارس اصحابها المصلحة العامة بشكل منحرف سواء بسوء نية أو عن طريق الخطأ . ولفكرة المصلحة العامة مدلولان أحدهما سياسي والآخر قانوني(6).

فالمصلحة العامة وفقاً للمدلول السياسي : لا تختلف في صياغتها عن المصالح الفردية أو مصالح الجماعات ، فهي مجرد تحكيم بين مصالح مختلفة ، وهذا التحكيم يجري في ضوء توجهين هما :

1.ان المصلحة العامة هي مصلحة الجماعة الأكثر عددا ، فمصالح الفرد يضحى بها من اجل خير الجماعة ، وبين الجماعات يراعى خير أكثرها عددا .

2.ان المصلحة العامة لا تقدر كما وانما كيفا ، وان مضمون الفكرة يتغير تبعا لتغير الزمان والمكان والظروف التي تحكم مجتمع معين .

أما المدلول القانوني : فان اهتمامه الأول هو تحديد السلطة التي تملك إجراء التحكيم بين المصالح ثم تعين المصلحة العامة ، فالسلطة التأسيسية تتدخل لتحقيق بعض اوجه الغايات العامة فقد نص دستور مصر النافذ عام 1971 المعدل على الدين ، والأخلاق ، والآداب العامة والتامين الاجتماعي والصحي وكفالة العمل وضرورة التعليم كأهداف عامة(7).

واشار دستور فرنسا عام 1958 في ديباجته إلى بعض الغايات العامة ومنها الصحة وضمانات العمال وحماية الاسرة والاطفال(8). وكذلك كفلت مواد مسودة دستور العراق حرية الانتقال للأشخاص والأموال ، واصلاح الاقتصاد العراقي ، وتشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة ، وحماية الامومة والطفولة والشيخوخة والضمان الاجتماعي والصحي والتعليم وهذه كلها غايات عامة(9). إلا ان السلطة التاسيسية في تحديدها المصلحة العامة ليست بلا حدود فتقيدها دساتير اعلى مرتبة (كالدساتير الاتحادية) أو مواثيق وعهود مثل (ميثاق العمل الوطني المصري) أو اعلانات الحقوق العالمية(10).

تختلف حرية المشرع في تحديد عناصر المصلحة العامة في الديمقراطيات التقليدية عنها في البلاد التي تعتنق فكرا اساسيا أو مبادئ اقتصادية واجتماعية محددة . ففي البلاد ذات الديمقراطيات التقليدية مثل انكلترا تتغير اتجاهات التشريع تبعا للحزب الغالب واغلبيته في مجلس العموم . أما في مصر فان ما ارتضاه الشعب من مبادئ معينة اقرتها (ميثاق العمل الوطني) يلزم المشرع بالعمل على تحقيق غاياتها والامر كذلك يحدث في البلاد العقائدية حيث يلتزم المشرع بتحقيق أهداف النظام القائم . وليست السلطة التأسيسية وحدها من تحدد غايات الجماعة بل يشاركها المشرع الذي يحدد فضلا عن الغايات وسائل تحقيقها وكذلك السلطة المختصة ، كما تشارك الإدارة في تحديد بعض عناصر المصلحة العامة ولكن من المجالات غير المحجوزة للمشرع(11). ان فكرة الصالح العام مثلها مثل سائر الأفكار غير المعرفة لا يمكن وضع تحديد منضبط لها …..

__________________________

1- عبدالفتاح العدوي ، الديمقراطية وفكرة الدولة ، بلا دار نشر ، 1964 ، ص150.

2- د. احمد عشوش و د. سعيد الصادق ، المصدر السابق ، ص16 وما بعدها . د. ربيع انور فتح الباب ، العلاقة بين السياسة والادارة ، دراسة تحليلية في النظم الوظعية والاسلام ، دار النهضة العربية ، 2000 ، ص40 . د. محمد مصطفى حسن ، المصلحة العامة في القانون والتشريع الإسلامي ، مجلة العلوم الإدارية ، السنة الخامسة والعشرون ، العدد الأول ، يوليو 1977 ، ص7 وما بعدها.

3- د. محمد ماهر أبو العينين ، الانحراف التشريعي والرقابة على دستوريته ، دراسة تطبيقية في مصر ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1987 ، ص303.

4- د. سمير تناغو ، مبادئ القانون ، بلا دار نشر ، 1980 ، ص132.

5- بيلاو ، المطول في العلوم السياسية ، ج2 ، ص62 حتى ص83 ، اشار إليه د. محمد ماهر أبو العينين ، المصدر السابق ، ص304 .

6- د. مصطفى محمد حسن ، المصلحة العامة في القانون والتشريع الإسلامي ، مجلة العلوم الإدارية ، العدد الأول ، يونيو 1983 ، ص9ـ10.

7- أنظر : المادة السابعة من الدستور المصري 1971 المعدل .

8- انظر : ديباجة الدستور الفرنسي 1958

9- انظر : المواد 24 و 25 و 26 و 29 / أ و 30 و 34 من مسودة دستور العراق .

0[1]- وليست اعلانات الحقوق التي ظهرت في التاريخ الدستوري اكثر من مرة ، وفي اكثر من مكان وعلى اكثر من صورة ، إلا تعبيرا لمجتمع أو لطبقة أو الفئة المفكرة في المجتمع بلسان المجتمع كله عن الصورة التي يتصورها المجتمع للصالح العام ، د. نعيم عطية ، القانون العام والصالح المشترك ، مصدر سابق ، ص69،70

1[1]- د. محمد مصطفى حسن ، المصدر السابق ، ص10وص11 .

المؤلف : حسن محمد علي البنان
الكتاب أو المصدر : مبدا قابلية قواعد المرافق العامة للتغيير والتطوير

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .