ضوابط حرية الرأي في الأنظمة
محمد بن عبدالله السهلي ٭
يعد الحديث عن قضية حرية الرأي من أعقد القضايا التي يخوض أي شخص في معتركها، فهي القضية التي تشغل كل المجتمعات تنظيراً وتطبيقاً، فإذا كانت الحرية نزعة فطرية في البشر إلا أن الاتفاق حولها من الأمور التي تصنف من قبل شبه المستحيلات، حيث يصعب إيجاد صيغة كونية موحدة لمفهوم الحرية بسبب الاختلاف في الحضارات والثقافات، فما يعد من قبل الحريات في مجتمع ما لا يعد كذلك في مجتمع آخر. ورغم التباين في المجتمعات في مفهوم الحرية إلا أن كل مجتمع يقر بضوابط أو قيود لممارسة الحريات بأنواعها.

وعند الحديث عن حرية الرأي في المملكة فالمقام يستلزم التذكير بأن الشريعة الإسلامية – وهي الحاكمة لكل الأنظمة في المملكة – قد أقرت بحرية الرأي شأنها في ذلك شأن كافة أنواع الحريات الأخرى، ويستدل بذلك الكثير من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة، وحين أقرت الشريعة الإسلامية حرية الرأي فلم تقرها مطلقة من كل قيد أو ضابط، فلا حرية مطلقة وهذا من المسلمات، ولكن ما هي هذه الضوابط أو القيود؟ يصعب القول ان هناك ضوابط مفصلة ودقيقة لممارسة حرية الرأي، بل هناك ضوابط عامة يستند عليها، مثل عدم المساس بالثوابت والمسلمات في الدين، عدم الإضرار بالآخرين، ألا تقود الحرية إلى الفتنة، وغيرها.

وفي المملكة كانت قضية حرية الرأي وتبعاتها من الأمور التي تناقش وتطرح منذ تأسيس هذه الدولة المباركة إلا أن بعد الثورة المعلوماتية واتساع استخدام شبكة الانترنت فقد تزايد وتيرة الحديث عن حرية الرأي وكثرة النقاش حولها وحول تعريف حرية الرأي ومفهومة والضوابط التي تحد منها، فمن الناحية القانونية حرية الرأي والتعبير مكفولة للجميع، بحسب نص المادة الثامنة من نظام المطبوعات والنشر (( حرية التعبير عن الرأي مكفولة بمختلف وسائل النشر في نطاق الأحكام الشرعية والنظامية)) فالمادة تؤكد مبدأ راسخ في الشريعة الإسلامية، والأمر بدهي ولكن ما يثير الجدل والنقاش هنا ما هو مدى هذه الحرية ونطاقها، وما هي الأحكام النظامية التي تضبطها، وكيف يتسنى معرفتها لكي نمارس هذا الحرية في نطاقها خاصة إذا عرفنا أن حرية الرأي حرية مسؤولة، نسرد هنا بعض النصوص التي تعد من الضوابط النظامية لحرية الرأي في المملكة، ففي النظام الأساسي للحكم نجد المادة (12) ونصها (( تعزيز الوحدة الوطنية واجب وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة والفتنة والانقسام)) والمادة (39) ونصها ((تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها ويُحظر ما يؤدي إلى الفتنة والانقسام أو يمس بأمن الدولة وعلاقتها العامة أو يسئ إلى كرامة الإنسان وحقوقه)).

وفي المادة (73) من اللائحة التنفيذية لنظام المطبوعات هناك ضوابط على النشر في منها:

لا يجوز نشر ونسخ كل ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، أو النيل من النظام العام أو نظام الحكم تلميحاً أو تصريحاً.

لا يجوز نشر الأخبار أو الصور التي تتصل بأسرار الحياة الخاصة للأفراد.

لا يجوز نشر كل ما من شأنه التحريض على ارتكاب أو إثارة النعرات أو البغضاء أو إشاعة الفاحشة أو بث روح الشقاق بين أفراد المجتمع.

ويمكن القول أن هذه المواد هي الضوابط النظامية لحرية الرأي، وهي ضوابط منطقية وليست تعسفية، فحرية الرأي كما أسلفنا حرية مسؤولة. وباستقراء الضوابط السابقة وإنزالها على واقع حرية الرأي في الصحف المحلية لنجد أن حرية الرأي تمارس في ظلها ولا نشاهد تجاوزات خطيرة على هذه الضوابط, بل على العكس من ذلك يرى البعض أن هناك هامش في سقف الحرية لم يمارس بعد، وبدأنا نلمس إحساساً بوجوب ممارسة هذه الحرية ويتفق الكثيرون أن هامش حرية الرأي لدينا في اتساع، فأصبحنا نقرأ ونسمع ونشاهد وآراء لم نكن نتصور الخوض فيها أو مناقشتها بهذه الجرأة والشفافية في قضايا كثيرة، ولعل إقرار القيادة الحكيمة للقاءات الحوار الوطني لهو دليل على الرغبة الصادقة لوجوب ممارسة حرية الرأي والتعبير بما يخدم مصالح المجتمع، فنحن في حاجة مثلاً إلى سماع الرأي الآخر وسماع نبض الرأي العام وهمومه ورأيه في كل ما يمسه مع الإيمان بأن النقاش حول أي قضية يجب أن يتحلى بالهدوء والعقلانية والموضوعية من منطلق قاعدة (رأيي خطأ يحتمل الصواب ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ) وليس من منطلق التعصب للرأي وإقصاء الآخر ونبذه.

ومن الأمور التي يجب أن تمارس في نطاق حرية الرأي النقد البناء، وهو النقد الذي يهدف إلى بيان مواضع الخلل والفساد على صعيد الفرد والمجتمع والمؤسسات والأجهزة الحكومية، ويسعى إلى وضع الحلول. ولعلي هنا اقتبس ما جاء في كلمة خادم الحرمين الشريفين السنوية أمام مجلس الشورى يوم السبت 3/3/1427ه ((إننا لا نستطيع ان نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير ومن هنا سوف نستمر بإذن الله في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي والاستعانة بجهود كل المخلصين العاملين من رجال ونساء وهذا كله في إطار التدرج المعتدل المتمشي مع رغبات المجتمع المنسجم مع الشريعة الإسلامية)).

وفي المقابل نجد أن مفهوم حرية الرأي قد أسيئ استخدامه بشكل ظاهر وان كان يصعب السيطرة عليه، ونعني بذلك ما ينشر في مواقع ومنتديات الإنترنت. فما ينشر فيها للأسف تجاوز المعقول فمن باب حرية الرأي نجد سلاطة اللسان وأقذع العبارات والإتهام بالنوايا وإثارة الأحقاد، ولا نعني بذلك خفافيش الظلام الذين يكتبون بأسماء مستعارة، بل نقصد بذلك من يكتب باسمه الصريح وبمواقفه وآرائه البعيدة كل البعد عن المسؤولية، فالاختلاف في الرأي أمر طبيعي ومن نواميس الكون، ولكن أن يتحول إلى مسألة التجريح بالشخص والنيل منه وإلصاق التهم به بدون مبررات، فهنا يكون الأمر تجاوز حرية الرأي بل تعمد الإضرار بالآخرين بأي صورة كانت. فالالتزام بأدب الحوار الموضوعي هو أفضل الطرق لجسر الهوة بين الآراء المتعارضة (قضية قيادة المرأة مثال على ذلك) وليس الإقصاء ونبذ الآخر بصورة شنيعة.

وختاماً نريد ان نمارس حرية الرأي والتعبير والحوار في إطار من المسؤولية والموضوعية تحت مظلة الضوابط الشرعية والنظامية، ولا نريد أن تستغل حرية الرأي لبث السموم والأحقاد وإثارة الأحقاد والفتن ودس السم في العسل، فكل ما نسعى إليه هو ضرورة المحافظة على وحدة المجتمع والرقي به وتحقيق مصالحه.

٭ باحث قانوني

[email protected]

إعادة نشر بواسطة محاماة نت