أورد المشرع العراقي مصادر القاعدة القانونية في المادة الأولى من القانون المدني رقم 40 لعام 1951، حيث نصت على أن (1- تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. 2- فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون من دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة. 3- وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية) (1). وهذا النص يتعلق بمصادر القواعد القانونية بشكل عام، أما قواعد الإسناد فان مصادرها تبدو اكثر اتساعاً من هذه المصادر، وذلك بحكم الطابع المميز للعلاقات القانونية التي تحكمها هذه القواعد وما تتسم به من البعد الدولي، وهو ما يحتاج إلى ان تكون القواعد التي تحكمها ذات طبيعة دولية أو تكون لها صفة الاشتراك بين الدول(2). وعلى العموم فان مصادر قواعد الإسناد لا تخرج في تقسيمها على ما هو مألوف بالنسبة لمصادر القواعد القانونية العادية، إذ انها تنقسم إلى مصادر رسمية ملزمة ومصادر غير رسمية أو تفسيرية. وهذا ما نتناوله في البحث التالي.

أولاً: المصادر الرسمية لقواعد الإسناد

جرى القول على إن هناك جملة من المصادر الرسمية لقواعد الإسناد، وهذه المصادر منها ما يشترك مع المصادر الرسمية لعموم القواعد القانونية، ومنها ما تستقل به قواعد الإسناد من دون القواعد الأخرى. والمصادر الرسمية التي نشأت منها قواعد الإسناد هي الاتفاقيات الدولية والتشريع الداخلي والعرف ومبادئ القانون الدولي الخاص. وهذه المصادر هي مصادر ملزمة، ويتعين على القاضي تطبيق قواعد الإسناد التي تسْتقى منها وفقاً للترتيب المتقدم ومن دون أن يقدم أحدها على الآخر في التطبيق. وفيما يلي عرض لهذه المصادر بحسب ترتيبها في التطبيق أمام القضاء.

1- الاتفاقيات الدولية.

بعد أن أورد المشرع العراقي عدداً من أحكام تنازع القوانين أو ما سماه التنازع الدولي من حيث الاختصاص التشريعي وذلك في المواد 17-28 من القانون المدني رقم 40 لعام 1951، نص في المادة 29 من هذا القانون على أنْ (لا تطبق أحكام المواد السابقة إذا وجد نص على خلافها في … معاهدة دولية نافذة في العراق) (3)، ويتضح من هذا النص ان المشرع قد اعتبر الاتفاقيات الدولية من المصادر الرسمية الملزمة لمجمل قواعد تنازع القوانين، والتي من بينها قواعد الإسناد، وقد وضع الاتفاقيات الدولية في مقابل التشريع الداخلي، بل انه جعلها تسمو على القواعد القانونية الواردة في القانون بحيث ان هذه القواعد لا تطبق عند تعارضها مع القواعد الواردة في الاتفاقية(4). والاتفاقيات الدولية لها في الواقع دور مهم في علاج مسائل تنازع القوانين، وهذا الدور يختلف باختلاف الموضوعات التي تعالجها الاتفاقيات والقواعد التي تستعين بها في هذه المعالجة. فالاتفاقيات الدولية تنقسم من حيث موضوعها إلى قسمين رئيسين(5)، الأول هو الاتفاقيات التي تتضمن وضع قواعد موضوعية موحدة تعطي الحل المباشر لمسائل وعلاقات قانونية معينة، أما القسم الآخر فهو الاتفاقيات التي يكون موضوعها وضع قواعد إسناد موحدة بين الدول الأطراف مهمتها الإرشاد إلى القانون الواجب التطبيق على العلاقات القانونية التي تعالجها تلك الاتفاقيات، وهذا القسم هو ما يمكن اعتباره من الاتفاقيات المنشئة لقواعد الإسناد ومصدراً من مصادرها. وعليه فان الاتفاقية الدولية في إطار هذا البحث هي توافق إرادة دولتين أو اكثر على تنظيم مسألة من مسائل تنازع القوانين عن طريق وضع قواعد إسناد مشتركة بينها في تلك المسألة وتحديد القانون الواجب التطبيق عليها(6). والاتفاقيات الدولية بهذا المعنى لها أهمية كبيرة في حل مشاكل تنازع القوانين في مختلف الدول، فهي تعمل على تقنين قواعد الإسناد وجمع شتاتها وتوحيدها، كما تساعد على تدويل هذه القواعد والحد من الروح الوطنية في نشأتها، وذلك من خلال تطبيق قواعد إسناد معينة لدى أكبر عدد ممكن من الأنظمة القانونية بما يكفل التناسق الدولي لحلول تنازع القوانين، وهذه الأهمية التي تحتلها الاتفاقيات الدولية مردها الانسجام بين طبيعة قواعد الاتفاقية وطبيعة العلاقات القانونية التي تحكمها، حيث أن كلاهما يتصف بالصفة الدولية ويرتبط بمصالح دول مختلفة(7). لهذا نجد أن توحيد قواعد الإسناد عن طريق إبرام الاتفاقيات الدولية كان ولا يزال محط اهتمام العديد من الهيئات العلمية والتجمعات الإقليمية، وهدفاً لجهود كبيرة ونشاطات واسعة بُذلت في هذا السبيل(8).

2- التشريع الداخلي.

يعد التشريع من المصادر الرسمية للقانون بفروعه المختلفة، وهو المصدر الأول والأهم للقاعدة القانونية في غالبية دول العالم. والأصل أن المشرع يستخدم التشريع لتنظيم الحياة في المجتمع الداخلي للدولة بصفته الحيز الطبيعي الذي يمارس فيه المشرع اختصاصاته التشريعية(9)، ولكن في حالات معينة قد يضطر المشرع إلى توسيع نطاق عمله ليشمل تنظيم الحياة في المجتمع الدولي وبشكل خاص الحياة الدولية للأفراد، وذلك في ظل الوضع الراهن للقانون الدولي العام وما يشهده من غياب سلطة عالمية تنهض بوضع قواعد موحدة لتنظيم علاقات الأفراد الدولية واستئثار كل دولة بنصيب من هذا التنظيم، زيادة على ما يشهده المجتمع الدولي من كثرة العلاقات الخاصة العابرة للحدود وازدياد الأجانب المقيمين في غير بلادهم وما ينشأ عن إقامتهم من علاقات وروابط مختلفة(10). والمشرع في تنظيمه العلاقات الدولية للأفراد قد يواجه هذا التنظيم بأسلوب مباشر من خلال وضع قواعد موضوعية تقدم الحل المباشر للعلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي، وقد يَتبع في شأنه أسلوب التنظيم الإسنادي غير المباشر عن طريق سن قواعد إسناد تشير إلى القانون الذي يتضمن التنظيم الموضوعي لتلك العلاقات(11)، ولا يَخفى أن الأسلوب الأخير من أساليب التشريع هو المصدر المنشئ لقواعد الإسناد من دون الأسلوب الأول. ومن هذا الأسلوب يتضح أن المقصود بالتشريع الداخلي في إطار مصادر قواعد الإسناد هو مجموعة القواعد الداخلية التي يضعها المشرع في الدولة لتنظيم علاقات الأفراد ذات العنصر الأجنبي عن طريق تحديد القانون الذي يحكم تلك العلاقات(12). والتشريع الداخلي المنشئ لقواعد الإسناد بما يتسم به من مزايا متعددة فانه يمارس دوراً رائداً وفعالاً في مجال تنازع القوانين بشكل عام، وذلك في ظل غياب السلطة التشريعية الدولية التي يمكن أن تمارس اختصاصاتها فوق الدول. ومن مزايا التشريع الداخلي انه يؤدي إلى حصر قواعد الإسناد وبيان أحكامها بشكل واضح فيُسَهِّل على القاضي مهمة الوصول إلى القاعدة وتطبيقها(13)، زيادة على انه يحقق مصلحة الأفراد إذ يحيطهم علماً بالقانون الذي سوف يحكم علاقاتهم المالية والشخصية ذات الطابع الدولي فيقوموا بتنظيم تلك العلاقات على أساسه ولا يفاجأوا بقانون لم يكونوا يتوقعوا تطبيقه ، وهو ما يساعد على تحقيق الأمان القانوني للحياة الدولية للأفراد ويؤدي بالتالي إلى استقرار معاملاتهم الدولية وتطورها(14).

3- العرف.

العرف بمعناه الدارج في النظرية العامة للقانون هو (مجموعة القواعد الثابتة التي درج الناس على العمل بها زمناً طويلا مع الاعتقاد بإلزامها خشية الجزاء الذي يوقع عليهم عند مخالفتها)(15). والعرف بهذا المعنى يُشترط لتكوينه وبلورة قواعده توافر ركنين أساسيين، الأول هو الركن المادي، ومقتضاه اضطراد الأفراد على العمل بحكم معين خلال فترة من الزمن، ولكي يتحقق هذا الركن يجب أن يكون العمل بالحكم المذكور مستقراً خلال فترة طويلة، وأن يكون هذا الحكم عاماً لجميع المخاطبين به. والركن الآخر هو الركن المعنوي، وهو رسوخ الاعتقاد بأن الحكم المعمول به أصبح مُلزماً باعتباره قاعدة قانونية(16). والتحديد السابق للعرف يفارق بين العرف بمعناه العام والعرف كمصدر لقواعد الإسناد، فهذا الأخير وإن توافر فيه الركنان السابق تحديدهما، إلا انه لا يستطيع أن يلعب دوره المنشئ إلا بتدخل القضاء من خلال تطبيقه للحكم أو المبدأ الذي استقر العمل به وإيضاح معالمه بالتعاون مع الفقه، حتى يظهر ذلك الحكم كقاعدة إسناد لها خصائصها التي يُستدل بها عليها(17). ولهذا فان قاعدة الإسناد العرفية لا تنشأ فقط من استمرار الأفراد في علاقاتهم ذات العنصر الأجنبي على مبدأ أو حكم معين في حل تنازع القوانين بشأن تلك العلاقات، بل ان وجود مثل هذه القاعدة يقتضي بالدرجة الأولى ان يقترن سلوك الأفراد هذا بسلوك المحاكم وتواترها في تطبيق ذلك المبدأ أو الحكم على نحو معين لاختيار القانون الواجب التطبيق عند عدم وجود نص تشريعي مخالف. ومن خلال ذلك يمكننا تعريف العرف المنشئ لقواعد الإسناد بأنه مجموعة القواعد القانونية الناتجة عن تواتر سلوك الأفراد في اتباع حكم معين بشأن اختيار القانون الذي يحكم علاقاتهم ذات العنصر الأجنبي واعتياد القضاء على تطبيق هذا الحكم في نزاعات تلك العلاقات على نحو يستقر معه الاعتقاد بأنه أضحى ملزماً لا يمكن العدول عنه(18).

هذا وقد لعب العرف دوراً كبيراً في إنشاء قواعد الإسناد وذلك عبر المسيرة التاريخية لنظرية تنازع القوانين منذ نظرية الأحوال الايطالية في القرن الثالث عشر الميلادي. فالكثير من تلك القواعد قد صدرت وتطورت عن العرف سواء ما صيغ منها في نصوص تشريعية أو ما بقي في صورة قواعد عرفية(19). بل حتى في عصرنا الحاضر فان العرف لا يزال من المصادر الرئيسة لقواعد الإسناد في مختلف الأنظمة القانونية. ففي فرنسا لا تزال معظم قواعد الإسناد التي يطبقها القضاء قواعد عرفية أو مستخلصة من الاجتهادات القضائية، وان النصوص التشريعية المنظمة لمسائل التنازع في النظام القانوني الفرنسي تتسم بالقلة(20). وهذا هو حال قواعد الإسناد في الدول العربية ومنها مصر والعراق، وإن كان دور العرف في هذه الدول قد أصبح أضعف مما كان عليه في السابق، وذلك لأن الدول المذكورة فضلت تقنين أحكام العرف في نصوص تشريعية تضمنتها القوانين المدنية أو قوانين مستقلة(21). وكذلك الأمر في الأنظمة القانونية السائدة في دول القانون غير المكتوب وفي طليعتها انكلترا، إذ لا تزال القواعد العرفية والسوابق القضائية لها الغلبة على القواعد التشريعية في هذا البلد رغم وضع اللوائح القانونية لتقنين بعض القواعد العرفية في مسائل تنازع القوانين(22).

4- المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص.

بعد أن استعرض المشرع العراقي أحكام وقواعد تنازع القوانين في القانون المدني رقم 40 لعام 1951، وبعد إيراده المادة 29 المتعلقة بالاتفاقيات الدولية، فانه نص في المادة 30 من هذا القانون على أنْ (يُتبع فيما لم يرد بشأنه نص في المواد السابقة من أحوال تنازع القوانين مبادئ القانون الدولي الخاص الأكثر شيوعاً) (23). وإيراد هذا النص في الموضع المذكور يبين أن المشرع قد خص قواعد تنازع القوانين من دون بقية قواعد القانون الدولي الخاص بمصدر إضافي علاوة على مصادرها الأخرى وألزم القضاء بالرجوع إليه عند غياب النص التشريعي أو الاتفاقي والقاعدة العرفية، وهذا المصدر هو المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص(24). والواقع إن موضوع تنازع القوانين يتميز عن باقي موضوعات القانون الدولي الخاص بوجود عدد من المبادئ المتماثلة بشأن تحديد القانون الواجب التطبيق على بعض مسائل التنازع، وهذه المبادئ قد تطورت واستقرت في بعض الأنظمة القانونية بفعل حركة اتصال الدول وعلاقاتها فيما بينها حتى تجردت من خصوصياتها الوطنية واكتسبت وصف الشيوع والاشتراك بين تلك الدول لكونها جاءت تلبية لحاجاتها المشتركة(25)، ومن تلك المبادئ بعض الأسس المتبعة في نظرية التكييف ونظرية الإحالة وفكرة الدفع بالنظام العام وفكرة الغش نحو القانون وغيرها، فهذه المبادئ والقواعد وإن لم تكن قد وصلت إلى مرتبة القواعد العرفية الدولية الملزمة، إلا أنها بما لها من الشيوع والاستقرار قد كونت أصولاً عامة مشتركة بين الدول، وهي من العموم بحيث يمكن استنباط قاعدة إسناد بجانبها حين ينعدم النص المكتوب أو القاعدة العرفية(26). وبعبارة أخرى يمكننا القول إن المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص هي مجموعة حلول تنازع القوانين ذات الطبيعة المشتركة بين جميع الأنظمة القانونية والمتجردة من الخصوصيات الوطنية، ولها قيمة عقلانية ومنطقية أكسبتها طابعاً عالمياً(27). ومن المعروف ان أحكام تنازع القوانين تتسم بالقلة في العديد من الأنظمة القانونية وبشكل خاص في الدول العربية، وان حلول التنازع في هذه الدول سواء المقنن منها وغير المقنن لا يكفي للإحاطة بجميع مسائل التنازع، كما إنها حلول مستمدة من المبادئ التي نشأت في العصور الماضية لدى المجتمعات والدول التي سبقتنا في هذا المجال، بل حتى في تلك الدول فان (القواعد المسطورة منها قليلة العدد لا تتضمن كافة الحلول، غامضة في كثير من الأحيان، بحيث تحتمل كثيراً من التأويل والتفسير) (28)، ولهذا فقد رأى المشرع وجوب رجوع القاضي إلى المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص في نزاعات العلاقات ذات الطابع الدولي بدلاً من الرجوع إلى المصدر الاحتياطي العام الذي أورده في المادة الأولى من القانون المدني وهو قواعد العدالة. ويظهر أن الحِكمة في ذلك هي ما أوضحته المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري بقولها إن مبادئ القانون الدولي الخاص لها(… من سمات الدقة والوضوح) ما يجعلها تَفضُل قواعد العدالة (… بسبب تخصصها في ناحية معينة من نواحي القانون)(29).

ثانياً: المصادر غير الرسمية لقواعد الإسناد.

نصت المادة الأولى من القانون المدني المشار إليها آنفاً على أن للمحاكم أن تسترشد بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية. ويتضح من هذه المادة أن المشرع قد اعتبر أحكام القضاء وآراء الفقهاء من المصادر غير الرسمية أو التفسيرية لعموم القواعد القانونية ومنها قواعد الإسناد، فأجاز للقاضي أن يستشهد بهذين المصدرين في أحكامه وأن يستأنس بهما في استخلاص تلك القواعد وتقصّي مفهومها، ولكن من دون أن يلتزم القاضي بتطبيق القواعد التي تستقى منهما، أي من دون أن يكون لهذين المصدرين قوة الإلزام. وهذا ما سنذكره فيما يلي.

1- أحكام القضاء.

يقصد بالقضاء كمصدر لقواعد الإسناد مجموع الحلول التي استقرت عليها أحكام المحاكم بحيث أصبحت تشكل اتجاهاً واضحاً في تحديد القانون الذي يحكم علاقة معينة من علاقات الأفراد ذات العنصر الأجنبي(30). والواقع ان أحكام القضاء كانت مصدراً أصيلاً لمبادئ تنازع القوانين قبل ظهور الدولة بمفهومها الحديث واضطلاع المشرع فيها بمهمة وضع تلك المبادئ، حيث كان ذلك انطلاقاً من وظيفة القضاء في تحقيق العدالة وحماية الحقوق والمراكز القانونية كالتزام قضائي لا يمكنه عدم الوفاء به بحجة غياب القاعدة القانونية. ودور القضاء هذا لم يتوقف حتى بعد اتساع دور الفقه في صياغة نظريات وقواعد تنازع القوانين بدءاً من ظهور نظرية الأحوال، بل استمر القضاء في مواصلة وظيفته الاجتهادية في إطار تلك النظريات والقواعد الفقهية، وذلك من خلال ضبطها وتهذيبها وتحديد مدى فعاليتها العملية(31). ولكن بعد ان اتسعت حركة التشريع في العديد من الدول وازداد تدخل المشرع في الحياة الاجتماعية من خلال صياغة القواعد القانونية التي تنظم علاقات الأفراد في المجتمع، حينها تراجع دور القضاء في إنشاء مثل تلك القواعد ولكن من دون ان ينعدم بشكل تام، إذ اقتصر هذا الدور على الحالات التي يغيب فيها الحل التشريعي للنزاع، حيث يعمل على إكمال التشريع وسد ثغراته(32). والواقع إن دور القضاء وسلطانه يتباين من دولة إلى أخرى، فالأصل أنه يلعب دوراً تفسيرياً للقواعد القانونية في دول القانون المكتوب كالعراق ومصر وفرنسا، وذلك خلافاً للوضع المستقر في دول القانون غير المكتوب وفي مقدمتها انكلترا، إذ تعتبر السوابق القضائية مصدراً رسمياً للقانون(33). فدول القانون غير المكتوب تأخذ بمبدأ حجية السوابق القضائية، وهو مبدأ يعطي للسابقة القضائية قوة الإلزام ويفرض على القاضي الذي ينظر في النزاع ذات العنصر الأجنبي ان يبحث في الأحكام السابق صدورها في النزاعات المماثلة، فإذا وجد حكماً قضائياً سابقاً تعيَّنَ عليه اتباع المبدأ الذي اعتمده ذلك الحكم وتطبيقه في النزاع المطروح أمامه. ولذلك فقد استقر الأمر في هذه الدول على اعتبار القضاء مصدراً رسمياً من مصادر إنشاء قواعد الإسناد(34). ولكن مع ذلك فان من الممكن ان يكون للقضاء دور خلاق لقواعد الإسناد حتى في دول القانون المكتوب، وذلك متى كانت القواعد المكتوبة قليلة ومحدودة، كما هو عليه الوضع في فرنسا، حيث لم يتدخل المشرع لرصد حلول تفصيلية في ميدان تنازع القوانين، بما جعل أحكام القضاء بمختلف درجاته تشكل المصدر الأساسي لقواعد الإسناد(35).

2- آراء الفقهاء.

يقصد بآراء الفقهاء المنشئة لقواعد الإسناد مجموع المبادئ والحلول الاجتهادية التي يعرضها الفقهاء في مؤلفاتهم بشأن تحديد القانون الذي يحكم علاقات الأفراد ذات العنصر الأجنبي(36). وهذه الآراء التي يطرحها الفقهاء ليس لها، بشكل عام، دور مباشر في إنشاء القاعدة القانونية وهي لا تتمتع بأية قوة ملزمة، ولذلك فإنها كانت ولا تزال مصدراً تفسيرياً للقانون الدولي الخاص كما هو شأنها في سائر فروع القانون الأخرى(37). ولكن مع ذلك لا يمكننا التغاضي بأي شكل من الأشكال عن الأهمية الخاصة التي تحتلها آراء الفقهاء ونظرياتهم في مادة القانون الدولي الخاص عموماً، وفي ميدان تنازع القوانين على وجه الخصوص، فدور رجال الفقه في هذا الميدان دور رائد وخلاق منذ زمن بعيد(38). وعماد ذلك ان نظرية تنازع القوانين، كما سبق أن رأينا، كانت قد برزت في القرن الثالث عشر الميلادي على يد الفقه، وذلك من خلال اجتهادات الفقهاء الايطاليين فيما عُرف بنظرية الأحوال، وكذلك على يد من جاء بعدهم من الشراح الفرنسيين والهولنديين في القرون الوسطى، وقبل أن يظهر المقنن الوضعي إلى الوجود. وقد بذل أولئك الفقهاء جهوداً مضنية وشاقة في التحليل والتأصيل وتخريج حلول التنازع، فأرسوا بتخصصهم الفني وحيادهم العلمي العديد من قواعد الإسناد التي ساعدت على فض تنازع القوانين، وكانت تلك الاجتهادات والنظريات نقطة البداية في تشييد قواعد الإسناد، والمصادر الابتدائية لما صيغ من هذه القواعد في نصوص التشريع(39). ودور الفقه في إنشاء قواعد الإسناد لم يقف عند حدود التشريع، بل حتى بعد ظهور المشرع عند نشأة الدولة وتدخلها في تنظيم الحياة الدولية للأفراد والى يومنا هذا، فان اجتهادات الفقهاء وآراءهم المقبولة من الناحية العلمية والمنطقية تسبق نصوص القواعد المكتوبة وتهيئ لقدومها(40)، كما إن تلك النصوص كثيراً ما تكون مشوبة بالثغرات وقاصرة عن الإحاطة بجميع الجزئيات، وهي تبدو بمرور الوقت بعيدة عن مجاراة الظواهر الاجتماعية وما يَستجد من مسائل تنازع القوانين، وحينئذٍ ينهض الفقه لسد ثغرات التشريع وإبراز مواضع تَخَلفه وتقديم الحلول المناسبة، كيما يستوعب ذلك التشريع جميع مستحدثات الفكر القانوني وما يجب أنْ يكون عليه فض تنازع القوانين في المسائل المستحدثة(41). وزيادة على ذلك فان الآراء والاجتهادات الفقهية تسبق الأحكام القضائية الجيدة في تنازع القوانين، وذلك عندما يستعين بها القاضي في اجتهاده لاستيضاح نصوص القواعد القانونية أو يعتمد عليها في تحديد المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص وتحليلها بغية استخلاص قواعد الإسناد الملائمة، وخاصة تلك الآراء والنظريات السائدة في الفقه المقارن(42).

____________________

1- يقابله في التشريع المصري نص المادة الأولى من القانون المدني رقم 131 لعام 1948.

2- انظر في مصادر قواعد الإسناد J.P.Niboyet، op. cit.، p.24 ets.

3- يقابلها في التشريع المصري مادة 23 من القانون المدني رقم 131 لعام 1948.

4- وسمو الاتفاقيات الدولية يعد من المبادئ التي استقر عليها الرأي في الفكر القانوني وأكدته مبادئ القانون الدولي العام ونصت عليه دساتير وقوانين الدول المختلفة. وبحسب هذا المبدأ لا تستطيع الدولة أن تتنصل من التزاماتها الدولية بالاستناد إلى قانونها الداخلي. د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع والاختيار بين الشرائع أصولا ومنهجاً. ط1. مكتبة الجلاء الجديدة. المنصورة. 1996. فقرة 124. ص143-145.

5- د. عز الدين عبد الله. القانون الدولي الخاص. الجزء الأول (في الجنسية والموطن وتمتع الأجانب بالحقوق). ط9. دار النهضة العربية. القاهرة. 1972. فقرة 35. ص70-71.

6- قريب من هذا التعريف د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع والاختيار بين الشرائع أصولا ومنهجاً. ط1. مكتبة الجلاء الجديدة. المنصورة. 1996. فقرة 117. ص131.

7- د. عز الدين عبد الله. القانون الدولي الخاص. ج1. المصدر السابق. فقرة 32. ص61-63.

8- حول دور الاتفاقيات الدولية في توحيد قواعد الإسناد انظر حامد مصطفى. مبادئ القانون الدولي الخاص من وجهة نظر القانون العراقي. الجزء الأول (في القواعد العامة والموطن وتمتع الأجانب بالحقوق والجنسية). ط2. شركة الطبع والنشر الأهلية. بغداد. 1970. ص21 وما بعدها.

9- فريد فتيان. مقدمة القانون المدني. شركة النشر والطباعة العراقية المحدودة. بغداد. 1954. فقرة 64. ص66.

10- حامد مصطفى. مبادئ القانون الدولي الخاص من وجهة نظر القانون العراقي. الجزء الأول (في القواعد العامة والموطن وتمتع الأجانب بالحقوق والجنسية). ط2. شركة الطبع والنشر الأهلية. بغداد. 1970.ص19.

11- د. هشام خالد. المدخل للقانون الدولي الخاص العربي (نشأته. مباحثه. مصادره. طبيعته)، دراسة مقارنة. ط1. دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2003.ص180 وما بعدها.

12- قريب من هذا التعريف د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. الوسيط في تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي الدولي. دار النهضة العربية. 1987. فقرة 28. ص26.

13- د. ممدوح عبد الكريم حافظ. القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن. ط2. دار الحرية. بغداد. 1977. ص14.

14- ومما يدل على مزايا التشريع ذلك الإقبال المتزايد على تقنين قواعد الإسناد في مختلف الأنظمة القانونية، وهو إقبال لم تكن حتى أنظمة القانون غير المكتوب ببعيدة عنه، وفي طليعتها النظام القانوني الانكليزي. د. هشام علي صادق. تنازع القوانين (دراسة مقارنة في المبادئ العامة والحلول الوضعية المقررة في التشريع المصري). ط3. منشأة المعارف. الإسكندرية. 1974. هامش 1. ص75.

15- د. عباس العبودي. تأريخ القانون (التأريخ العام للقانون. القوانين في وادي الرافدين. القانون الروماني. الشريعة الإسلامية). دار الكتب. جامعة الموصل. 1989. ص35.

16- د. محمد كامل مرسي. شرح القانون المدني الجديد، الباب التمهيدي(القانون وتطبيقه. الأشخاص. تقسيم الأشياء والأموال). المطبعة العالمية. مصر. 1954. فقرة 63. ص95-96.

17- في إشارة إلى ذلك د. حامد زكي. أصول القانون الدولي الخاص المصري. ط3. مكتبة عبد الله وهبه بمصر. من دون طبع. فقرة 40. ص32-33.

18- في معنى العرف كمصدر لقواعد الإسناد انظر حامد مصطفى. مبادئ القانون الدولي الخاص من وجهة نظر القانون العراقي. الجزء الأول (في القواعد العامة والموطن وتمتع الأجانب بالحقوق والجنسية). ط2. شركة الطبع والنشر الأهلية. بغداد. 1970ص30.

19- د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. الوسيط في تنازع القوانين. مصدر سابق. فقرة 46. ص43.

20-J.P.Niboyet، op. cit.، p.26.

21- د. ممدوح عبد الكريم حافظ. مصدر سابق. ص20.

22- د. ممدوح عبد الكريم حافظ. المصدر والموضع ذاتهما.

23- تقابلها مادة 24 من القانون المدني المصري رقم 131 لعام 1948.

24- ونص المادة 30 المشار إليه لا يعني إغفال الحكم الوارد في المادة الأولى من القانون المدني وتجاهل العرف كمصدر احتياطي لقاعدة الإسناد يلي النص التشريعي والنص الاتفاقي، ويؤيد ذلك ما أوضحته المذكرة الإيضاحية للقانون المدني المصري بشأن المادة 24 من القانون والتي تقابل المادة 30 الواردة في المتن، حيث جاء في المذكرة (ان القاضي يرجع أولاً إلى العرف إنْ وجدت قاعدة عرفية … فان لم يجد القاضي عرفاً طبق مبادئ القانون الدولي الخاص الأكثر شيوعاً). انظر مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني. الجزء الأول. مطبعة دار الكتاب العربي. شارع فاروق بمصر. من دون طبع. ص307-308.

25- د. هشام علي صادق. مصدر سابق. فقرة 23. ص100.

26- د. هشام خالد. مصدر سابق. ص206.

27- انظر قريب من ذلك د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 136. ص161.

28- د. جابر جاد عبد الرحمن. القانون الدولي الخاص. الجزء الثاني (تنازع القوانين. تنازع الهيئات. تنازع الاختصاص). ط2. مطبعة التفيض. بغداد. 1948.فقرة 284. ص427.

29- أو بحسب تعبير المذكرة الإيضاحية (… ما يجعلها تَفضُل مبادئ القانون الطبيعي). انظر مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني. المصدر السابق. ص308.

30- انظر في هذا المعنى د. عكاشة محمد عبد العال. أحكام القانون الدولي الخاص اللبناني، دراسة مقارنة. الجزء الأول (تنازع القوانين). الدار الجامعية. بيروت. 1998 ص72.

31- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 139. ص165-166.

32- نعوم سيوفي. الحقوق الدولية الخاصة، أمالي ومحاضرات. مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية. 1965-1966ص56-57.

33- د. محمد كامل مرسي. شرح القانون المدني الجديد، الباب التمهيدي(القانون وتطبيقه. الأشخاص. تقسيم الأشياء والأموال). المطبعة العالمية. مصر. 1954. فقرة 76. ص121-122.

34- د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. الوسيط في تنازع القوانين. مصدر سابق. فقرة 62. ص59-60.

35- د. حامد زكي. مصدر سابق. فقرة 41. ص34. ويلاحظ أن القضاء الوطني عند فصله في النزاعات ذات الطابع الدولي قد لا يقتصر على الاستعانة بما استقر عليه قضاء دولته بشأن قاعدة الإسناد واجبة الإتباع، إذ يمكنه أن يسترشد بالقواعد التي تطبقها المحاكم الأجنبية، وخاصة في الدول التي يكون قانونه الدولي الخاص الوطني قد استمد منها أحكامه،كما أن بإمكان القضاء أن يرجع إلى الأحكام التي تصدرها المحاكم الدولية فيما يطرح عليها من مسائل تنازع القوانين أو يرجع إلى أحكام محاكم التحكيم الدولية، وبشكل خاص ما يصدر منها في نزاعات التجارة الدولية. د. عكاشة محمد عبد العال. مصدر سابق. ص74. وانظر في عرض وافٍ لقضاء التحكيم الدولي في مسائل تنازع القوانين د. عز الدين عبد الله. تنازع القوانين في مسائل التحكيم الدولي في مواد القانون الخاص. مجلة العدالة. وزارة العدل. أبو ظبي. العدد 19. السنة السادسة. 1979. ص61 وما بعدها.

36- انظر في هذا المعنى د. حامد زكي. المصدر السابق. فقرة 55. ص44.

37- د محمد كمال فهمي. أصول القانون الدولي الخاص (الجنسية. الموطن. مركز الأجانب. مادة التنازع). ط2. مؤسسة الثقافة الجامعية. الإسكندرية. 1978فقرة 46. ص58.

38- نعوم سيوفي. مصدر سابق. ص57.

39- د. عز الدين عبد الله. القانون الدولي الخاص. ج1. مصدر سابق. فقرة 42. ص92-93.

40- د. محمد كامل مرسي. مصدر سابق. فقرة 75. ص118.

41- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع. مصدر سابق. فقرة 145. ص174-175.

42- فريد فتيان. مصدر سابق. فقرة 57. ص62.

المؤلف : ميثم فليح حسن
الكتاب أو المصدر : طبيعة قواعد الاسناد
الجزء والصفحة : ص28-36.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .