دعوى بطلان حكم التحكيم

بقلم المحامي الأستاذ محمد زهير قتلان
من فرع دمشق
لا بد ، وقبل إبداء رأي قانوني يتناول القانون رقم (4) لعام 2008 المتعلق بالتحكيم ، لا بد ، وعنوان البحث : « دعوى بطلان حكم التحكيم » من أن نشير إلى أن الفقه وأحكام القانون العام ، وفي معرض الأحكام المتعلقة بالعقد كأحد مصادر الالتزام ، والتحكيم ركنه اتفاق مكتوب ، تناول حالتين ميز بينهما يعود فيهما المتعاقدان إلى الحال التي كانا عليها قبل التعاقد ، هاتان الحالتان هما :
� بطلان العقد .
� إبطال العقد .
أما حالة بطلان العقد ، فهي وجود عيب رافق نشوءه فأفقده ركناً من أركان انعقاده كأن يكون :
– محل الالتزام مستحيلاً (م 133 مدني) .
– محل الالتزام غير معين بذاته ، أو معيناً بذاته ولكن غير معين بنوعه ومقداره (م 134 م) .
– كأن لا يكون للالتزام سبب ، أو كان له سبب ولكنه مخالف للنظام العام والآداب العامة .
– أحد طرفيه فاقد الأهلية القانونية ابتداء أو بحكم القانون (م 110 ، 111 م) .
ففي حال وجدت واحدة من هذه الحالات ، يكون العقد باطلاً ، والعقد الباطل كما هو عليه القانون والفقه لا تلحقه الإجازة فيبقى البطلان ملازماً له ومُعدماً كل أثر له .

وعن هذا يقول الدكتور عبد المنعم فرج الصدة في مؤلفه « نظرية العقد » الصفحة 383 :
« البطلان هو الجزاء الذي فرضه القانون على عدم توفر ركن من أركان العقد أو شرط من شروط صحته ، وهو عبارة عن انعدام أثر العقد بالنسبة للمتعاقدين وبالنسبة للغير » .

ويتابع على الصفحة 387 :
« ويكون العقد منعدماً إذا لم يوجد ركن من أركانه ، وهي التراضي والمحل والسبب ، والشكل في العقود الشكلية … » .
وأما حالة الإبطال ، فالعقد موجود ، إلا أنه اعتوره عيب ، ليس في مصدره ، بل في شخص الملتزم به ، وهذا ما نصت عليه المواد 112 ، 121 ، 128 ، 130 ، من القانون المدني ، فالعقد لا يكون باطلاً لذاته ، إنما قابل للإبطال ، وإعلان إبطاله موقوف على توجه من شُرّع الإبطال لصالحه نحو القضاء لطلب إبطاله ضمن مهلة حددها القانون تحت طائلة تحصنه ونفاذه ، كما وتلحقه الإجازة .

وللدكتور عبد المنعم فرج الصدّه أيضاً قول في هذا أورده في ذات المرجع على الصفحة 387 :
« ويكون العقد باطلاً نسبياً ، إذا كان التراضي معيباً كأن يكون صادراً عن شخص ناقص الأهلية ، أو أن يكون مشوباً بعيب من عيوب الإرادة ، وينشأ هذا العقد منتجاً لآثاره ، إنما يكون للعاقد الذي شرع البطلان لمصلحته … أن يطلب إبطاله ، كما وله أن يجيزه ، وإذا سكت مدة من الزمن سقط حقه في طلب الإبطال » .

ويفصل الدكتور السنهوري في كتابه نظرية العقد بين البطلان والإبطال ويوضح وجود خلاف كبير الأهمية بينها أوضحها بما موجزه :
� لا ينتج العقد الباطل بطلاناً مطلقاً أثراً قانونياً ، بخلاف البطلان النسبي فهو منتج لآثاره حتى يقضى بإبطاله فينعدم أثره .
� لا حاجة لصدور حكم بالبطلان المطلق ، على أنه لا بد في البطلان النسبي من أن يسعى من شُرّع لمصلحته إلى القضاء للحصول على حكم بإبطاله .

� البطلان المطلق لا تلحقه الإجازة ، بعكس البطلان النسبي يزول بالإجازة .
� البطلان المطلق لا يسقط بالتقادم بعكس البطلان النسبي فيلحقه التقادم .

ما دفعني لعرض ما تقدم ، هو ، أن البطلان والإبطال وحالاتهما ، ورد النص عليهما في القانون المدني وفي الفصل المتعلق بالعقد ، ولا يوجد في قانون أصول المحاكمات السوري دعوى بطلان الأحكام ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فقد خلط المشرع في المادة 49 من القانون رقم /4/ المبحوث في بعض جوانبه والذي يشكل هذا البحث واحداً من هذا البعض ، بين بطلان الاتفاق على التحكيم من حيث كونه عقداً وبين الحكم الصادر فيه ، من حيث هو قضاء بحق ، إضافة إلى أنه ساوى في الحكم بين البطلان والإبطال من حيث جعلهما سبباً للحكم بإبطال حكم التحكيم مع الفارق الكبير بينهما في الحكم والأثر كما أورد الدكتور السنهوري فيما أشرنا إلى موضعه في كتابه نظرية العقد .

ومن ناحية ثالثة فقد خرق القانون مبدأ حصانة الأحكام المكتسبة قوة الأمر المقضي فيه التي لا يأتيها الباطل ولا الإبطال من أي جانب باعتبارها بحسب الاجتهاد المستقر « عنوان الحقيقة » .

شرعنة دعوى بطلان حكم التحكيم :
نصت المادة 49 من القانون رقم /4/ لعام 2008 :
« تصدر أحكام التحكيم طبقاً لأحكام هذا القانون مبرمة غير خاضعة لأي طريق من طرق الطعن ، ومع ذلك يجوز رفع دعوى بطلان حكم التحكيم وفقاً للأحكام المبينة في الأحوال التالية :…» .
هذه المادة لم تجعل حكم التحكيم مبرماً فحسب ، بل وأيضاً قررت له الحصانة المطلقة فجعلته غير خاضع لأي طريق من طرق الطعن ؛
والحكم المبرم بالمعنى الإجرائي القانوني ، هو حكم قابل للتنفيذ ، والحكم التحكيمي بحسب نص المادة 94 ، يصدر مبرماً ، وليس قابلاً للتنفيذ فحسب ، بل ، هو حجة قاطعة لا يجوز نقضها بحسبانه غير خاضع ، لأي طريق من طرق الطعن .

والسؤال :
كيف يمكن أن يكون قرار قضائي قطعي الدلالة ، وعنواناً للحقيقة ، ويكون عرضة للإلغاء بدعوى البطلان ؟
ولنستعمل في هذه المناقشة ، عبارة النص « ومع ذلك » ولكن في معنى غير « ذلك » فنقول ، ومع ذلك فإن الحالات التي عددها النص لدعوى البطلان لا تستقيم مع المبادئ القانونية العامة فضلاً عن أنها تنم عن ابتعاد مطلق عن الإحاطة بهذه المبادئ .
حالات بطلان حكم التحكيم :
ولنعد إلى الحالات التي تكون محلاً لدعوى البطلان بحسب النص ؛
المادة 50 من القانون رقم /4/ المبحوث فيه عددت هذه الحالات وهي :
� عدم وجود اتفاق على التحكيم ، أو كان الاتفاق باطلاً .
� إذا كان أحد أطراف الاتفاق على التحكيم فاقد الأهلية أو ناقصها وفقاً لقانون بلده ؛
� عدم تبليغ أحد الطرفين تبليغاً صحيحاً … أو … تعذر معه عليه تقديم دفاعه .
� إذا اعتمدت هيئة التحكيم في إصدار قرارها على قانون غير القانون الذي اتفق المتحاكمان على تطبيقه ؛
� إذا كانت هيئة التحكيم شُكلت بما يخالف القانون رقم /4/ أو لاتفاق الطرفين ؛
� مجاوزة الحكم التحكيمي للمهمة التي حددها الطرفان لهيئة التحكيم ؛
� وجود بطلان في حكم التحكيم أو إجراء من إجراءات التحكيم أثر في الحكم .
وسنناقش كل واحدة من تلك الحالات لنتبين موقعها القانوني في ضوء قواعد القانون العام .

آ / 1 – عدم وجود اتفاق على التحكيم :
موقع هذه الحالة من المادة /8/ بالاستناد إلى المادة 50 .
بداية وقبل تسليط الضوء على هذه الحالة ، لا بد من الإشارة إلى أن الاتفاق هو عقد بحسب ما عرفته المادة 1101 من القانون المدني الفرنسي ، وكما أشار إليه الدكتور السنهوري في مؤلفه نظرية العقد الصفحة 80 ومضيفاً رأيه بالقول :
« … إن كل عقد يكون اتفاقاً ، أما الاتفاق فلا يكون عقداً إلا إذا كان منشأ لالتزام أو ناقلاً له … » .

ونعود الآن إلى المادة /8/ والتي نصها :
« يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوباً وإلا كان باطلاً … » .
هنا نجد أن المشرع بدأ المادة الثامنة بكلمة « يجب » وأتبعها بكلمة « يكون » فالوجوب ينصرف بمقتضى النص للكينونة ، لكينونة الاتفاق أي ليصبح الاتفاق كائناً ، فالكتابة هنا وبحسب النص هي ركن انعقاد وليست وسيلة إثبات يؤكد هذا أن المادة نفسها ، والتأكيدات المتتابعة في النص من حيث تعداد الوسائط » … في أية رسائل متبادلة عادية … أو … » .
وحيث إن الأمر كذلك ، وإن عدم وجود عقد أو اتفاق مكتوب على التحكيم ينعدم مع عدم وجود اتفاق ، وجود تحكيم ، كما وينعدم بالتالي وجود حكم تحكيم ،

والسؤال :
� كيف يمكن وجود هيئة تحكيم ، وركن ولادتها ، كهيئة قضائية لتفصل في منازعة ، « اتفاق » لا وجود له ؟
� كيف يمكن تصور وجود حكم تحكيمي دون وجود هيئة لإصداره ؟
آ / 2 – وجود اتفاق على التحكيم ولكن الاتفاق باطل !؟
هذه الحالة هي توءم الحالة قبلها ، فالاتفاق الباطل اتفاق غير موجود ، وبالتالي لا وجود لهيئة تحكيم ، قد قدمنا الدليل الفقهي والقانوني على ذلك .
ب : – فقد الأهلية أو نقصها وقت انبرام العقد ؟!

ب/1 – فقد الأهلية :
فاقد الأهلية ، تكون جميع تصرفاته باطلة ، ويكون الاتفاق على التحكيم الذي يبرمه فاقد الأهلية ، باطلاً بطلاناً مطلقاً – معدوماً – وهذا أمر مسلم فيه قانوناً وفقهاً واجتهاداً ، وتكون التساؤلات التي وردت في الحالة « آ » ترد على هذه الحالة أيضاً .

ب/2 – نقص الأهلية :
نقص الأهلية أمر مختلف فالاتفاق موجود غير أن عيباً لازم نشوءه وهو ما نصت عليه المواد 120 ، 121 ، 123 ، 126 ، 128 من القانون المدني غير أن هذا البطلان لا يمكن القضاء فيه إلا بناء على طلب من شرّع لمصلحته وخلال مدة حددها القانون تحت طائلة انقلاب الاتفاق – العقد – إلى اتفاق محصن ملزم لطرفيه .

إلا أن ما يقال ، والبطلان هنا يتعلق بحكم تحكيمي تستغرق إجراءات صدوره ، من طلب تعيين هيئة تحكيم وإجراءات الطلب وصدور قرار بتشكيل هيئة التحكيم وقبولها بالمهمة وانعقاد الخصومة وتبادل الدفوع ، ناهيك عن عوارض المحاكمة أفلا يستهلك ذلك المهلة المحددة قانوناً لسقوط الحق في طلب الإبطال – كيف يصبح إبطال حكم انقلب مصدره إلى اتفاق محصن بانقضاء مدة طلب إبطاله ؟
ج – التبليغ غير الصحيح :

من المقرر أن انعقاد الخصومة لا يتم إلا بعد دعوة الخصم إلى المحاكمة دعوة صحيحة ، ويترتب على بطلان التبليغ عدم الشروع بالمحاكمة ، على أننا ولو فرضنا أن الخصومة انعقدت بأحد صور الخطأ وشرع بالمحاكمة ، وصدر حكم في موضوعها ، فإن الحكم الصادر فيها يكون معدوماً لصدوره دون انعقاد خصومة .

وبالانعدام لا يكون للحكم التحكيمي وجود ، والحكم المعدوم ، وكما هو الاجتهاد المستقر ، يتم إعلان انعدامه بدعوى مبتدأة تقدم إلى المحكمة المختصة أصلاً بنظر الدعوى ، وهي محكمة البداية المدنية باعتبار أن هيئة المحكمين وهي محكمة موضوع استثناء ، انقضت ولايتها بإصدار حكمها المعدوم ، حيث تعود الولاية إلى القضاء صاحب الولاية العامة .
وكذلك الحكم بالنسبة لنص الفقرة « هـ » من ذات المادة ، ففساد تشكيل المحكمة يجعل الحكم التحكيمي فاقد الوجود ويعود الاختصاص إلى القضاء صاحب الولاية العامة .
إن دعوى بطلان حكم المحكمين للحالات التي نصت عليها المادة 50 من القانون المبحوث فيه ، تخالف أحكام القانون العام والقواعد القانونية العامة على مستوى القانون والفقه على الصعيدين الداخلي والمقارن .
هذا من جهة ومن نواح أخرى :
� كيف يمكن أن يكون حكم تحكيمي صدر بناء على اتفاق على التحكيم انعقد ابتداء بين طرفين أحدهما فاقد الأهلية وتصرفات فاقد الأهلية باطلة بطلاناً مطلقاً ؟
� كيف يصير حكم تحكيمي صدر بناء على اتفاق باطل بطلاناً مطلقاً « غير موجود » قانوناً وفقهاً واجتهاداً ، محصناً ونافذاً بانقضاء مدة الادعاء بدعوى البطلان ؟
� كيف يمكن أن يكون حكم تحكيمي دون وجود اتفاق بين طرفين على حل منازعة عقدية أو غير عقدية بطريق التحكيم ؟
هذا ليس آخر الكلام فالشمعة لا زالت تضيء وهنالك الكثير حول القانون رقم /4/ وستكون الإضاءة المقبلة على المواد 9 – 10 – 11 منه ، وللبحث تتمات .
المحامي
محمد زهير قتلان