تأثير التطورات الإجتماعية على حق الملكية

أولا: تحديد مفهوم بعض الجوانب الإجتماعية المؤثرة على حق الملكية

إن الحديث عن تأثير التطورات الاجتماعية على حق الملكية يقتضي تحديد مفهوم مجموعة من المؤسسات. وهذا ما سنعمل على بيانه في هذا المطلب مقسمين إياه إلى ثلاث فقرات نتناول في كل فقرة مؤسسة من هذه المؤسسات.

الفقرة الأولى: نظرية التعسف في استعمال الحق
لم يكن ليتصور فقهاء القرن 18 بأن استعمال الشخص لحق من حقوقه التي قررها المشرع بنص القانون يعتبر خطأ يوجب قيام مسؤوليته إذا ما تعسف في ممارسته، وكذلك الرومان كانوا يقرون بأن ” من استعمل حقه فما ظلم”. وأيضا قيام الثورة الفرنسية التي كانت تنادي بتحرير الفرد من القيود السياسية والإقتصادية والقانونية (تقديس حق الملكية) ساهم وبشكل كبير في انتكاسة هذه النظرية.
وعلى خلاف ذلك، نجد أن الفقه الإسلامي عرف تطبيقات مهمة لهذه النظرية، وكمثال على ذلك فتح دكان يقلق راحة السكان، فالفقهاء يرون أنه يتعين على ولي الأمر أو القاضي الحكم بغلق هذا الدكان لأنه يسبب الأذى للسكان، ونفس الشيء بالنسبة لفتح الطاحونة أو فرن أو معصرة الزيتون الذي قد يؤدي فتحها إلى إحداث إزعاج، هذه النماذج تعتبر تطبيقا عمليا لنظرية التعسف في استعمال الحق.
وعلى مستوى التشريع المغربي فإن المشرع لم يعالج هذه النظرية كما فعلته العديد من التشريعات الأخرى كالتشريع المصري والليبي والتونسي، ومع ذلك نجد بعض النصوص تتعرض هذه النظرية بصورة عرضية دون تنظيمها تنظيما محكما وخاصة الفصول 91 و 92 و 93 من ق.ل.ع التي وردت ضمن الفصول المنظمة للخطأ كعنصر في المسؤولية التقصيرية.
تعرف هذه النظرية تطبيقات عديدة في قانون الشغل وق.م.م

الفقرة الثانية: إلتزامات الجوار
يعتبر الفقه الإسلامي السباق إلى تنظيم التزامات الجوار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”. وفي حديث آخر قال “والله لايومن والله لايومن والله لايومن، قيل من يا رسول الله قال من لايأمن جاره بوائقه”. وقد نظم المشرع المغربي هذه الإلتزامات في ظهير 2 يونيه 1915 في الفصول 103 إلى 154 وما هو ما يصطلح عليها الفقه بنظرية رفع مضار الجوار التي لها قيود كثيرة نذكر منها – دون الدخول في تفاصيلها- الحائط أو الخندق أو السياج المشترك، غرس الأشجار بالقرب من حدود الجار، إقامة منشآت مزعجة أو مضرة بالجيران، فتح مطلات ومناور على الأراضي المجاورة فكلها التزامات تقع على عاتق الجار.
فالمبدأ العام في استعمال حق الملكية في هذه النظرية هو عدم الغلو في استعمال هذا الحق إلى حد يضر بملك الجوار.

الفقرة الثالثة: العلاقة الكرائية
تنظم العلاقة الكرائية ببلادنا بمقتضى عدة قوانين وظهائر نذكر منها ق.ل.ع وظهير 5 ماي 1928 المعدل بالقانون رقم 79/6 الخاص بتنظيم للعلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للأماكن المعدة للسكنى أو للإستعمال المهني النافذ بالظهير الشريف رقم 315-80-1 بتاريخ 25 دجنبر 1980 وقبله ظهير 24 ماي 1955 والقانون رقم 99/1/6 المتعلق باستيفاء الوجيبة الكرائية.
كلها قوانين تعالج قضية الأكرية، إذ أن الإشكالية التي تطرحها هذه الأخيرة في إقامة التوازن بين طرفي العلاقة الكرائية المكري والمكتري، بحيث لايترك أحد الطرفين في علاقة الكراء عرضة لتعسف الطرف الآخر، سواء كان المكري أو المكتري؛ فحماية المكري في استيفاء الوجيبة الكرائية واسترجاع العين المكراة متى شاء بعد إنذار المكتري بمهلة معقولة، دون الإضرار بحق المكتري في استغلال واستعمال العين المكراة تبقى الشغل الشاغل للمشرع وهو ما دفعه إلى إعداد مدونة موحدة جديدة للكراء معروضة على البرلمان في الوقت الراهن تعالج هذه الإشكالية.
إلى جانب هذه المؤسسات التي تم الحديث عنها سالفا هناك عوامل اجتماعية أخرى تؤثر على حق الملكية مثال ذلك أزمة السكن التي يعرفها المغرب التي ترجع أسبابها إلى النمو الديموغرافي المهول والهجرة القروية وكذا عدم مسايرة عرض المساكن للطلب عليها.

ثانيا: مظاهر تأثير التطورات الإجتماعية على حق الملكية
الأصل أن الشخص حرفي ملكه، لكن بفعل التطورات الإجتماعية السالفة الذكر – يتأثر حق الملكية سواء بالإطلاق أو المحدودية، وهذه هي الإشكالية التي سنحاول معالجتها في هذا المطلب.
فمن خلال الاطلاع على الجوانب الاجتماعية المؤثرة في حق الملكية، نجد هذا الأخير يتأثر وبشكل مباشر بها، فنظرية التعسف في إستعمال الحق تهدف إلى إستعمال الحق بعناية وحذر وهذه العناية تتطلب أن لايكون الشخص متعسفا في استعمال حقه إذا هو قصد الإضرار بالغير أو لم تكن له مصلحة في إستعماله مما يترتب عليه الحد من مدى ممارسة حق الملكية.
فهذه النظرية والحقوق الأخرى على طرفي نقيض، فكلما انتكست يتوسع من مدى حق الملكية، والعكس صحيح، أي أنه كلما ظهرت إلى الوجود وزاد من تطبيقها إلا وعرف حق الملكية التضييق من مداه.
وكذلك إلتزامات الجوار تصب في نفس الإتجاه فالقيود الكثيرة التي اقرها المشرع تحد من سلطة المالك في ممارسة حقه بإطلاق فهي التزامات تقيد حقوق الملك في استعماله واستغلاله والتصرف في ملكه، لكن إذا تمعنا النظر في هذه القيود نجدها تحمي الملاك من تعسف أحدهم على الآخر. فرغم كل تلك القيود المقررة في مختلف القوانين إلا أنها قيود تخدم الجميع
أما الكراء فعلينا أن نميز في هذا المجال بين أمرين أساسيين أولهما الكراء المهني والسكني وثانيهما الكراء التجاري، فأما الأول فلايؤثر على حق الملكية إلا بشكل نسبي يتجلى هذا التأثير في تخوف المالكين للشقق والمحلات من عرضها للكراء نظرا لتعقد مساطر إفراغ المكتري وطول المدة الزمنية للحسم في النزاعن أما الثاني أي الكراء التجاري فيؤثر على حق الملكية بشكل كبير فبمجرد اكتساب المكتري الحق في الكراء فإنه يحد من حق الملكية للمكري، بحيث لايمكن إفراغ المكتري إلا بأداء المكري لتعويض لايقل عن قيمة الأصل التجاري.