أهمية وجود محكمة عليا

درجت كافة الدول المعاصرة على أن يضم نظامها القضائي محكمة عليا تعتلي قمة الهرم القضائي فيها مع اختلاف المسمى الذي يطلق على هذه المحكمة(1)، ولم تخرج الدولة الليبية عن هذا النهج ، وقد آثر المشرع الليبي أن يسميها المحكمة العليا منذ إنشائها سنة 1953 م .
إن وظيفة القضاء في الدولة هي تطبيق القواعد القانونية لمنح الحماية القضائية لأصحاب الحقوق ولكل من وقع عليه اعتداء أو ظلم ، ومادام ذلك يتم عن طريق محاكم متعددة ، فإن الأمر يدعو إلى وجود جهة تراقب وتشرف على الأحكام التي تصدرها تلك المحاكم ، لكي يتم هذا التطبيق صحيحا ، وأن يتوحد فهم القانون لدى تلك المحاكم وهذا هو دور المحاكم التي يسند إليها المشرع الإشراف والمراقبة لما يصدر من أحكام والتي يطلق عليها عادة محاكم النقض وهي تقوم بوظيفتين : –
1-المحافظة على توحيد تفسير القانون في كافة أنحاء الدولة ، فيتأكد بذلك وحدة القانون ومبدأ المساواة بين الأفراد أمامه .
2-مراقبة تطبيق المحاكم للقواعد القانونية الموضوعية والإجرائية من حيث وجود القاعدة وسلامة تطبيقها على وقائع الدعوى بما يؤدي إلى احترام كافة القواعد التي سنها المشرع(2) .
وتمثل المحكمة العليا في هذه الأنظمة الضمانة لحسن تطبيق القانون ووحدة تفسيره من خلال النظر في الطعون التي ترفع إليها ، ضد الأحكام التي تصدرها المحاكم الدنيـا فيتسنى لها عندئذ مراجعة هذه الأحكام ومراقبتها ، ونقضها إن كانت مشوبة بعيب مخالفة القانون أو تطبيقه أو تفسيره أو تأويله ، أما إذا تبين لها عدم صحة المناعي التي استند إليها الطعن ، فيتم تأييد الحكم ، وإلا يتم نقضه وإعادته إلى المحكمة التي أصدرته مع بيان أوجه الخلل أو الخطأ أو الزلل لتفاديه، وأحيانا تتصدى للفصل في الطعن إذا كانت القضية صالحة للحكم فيها(3).
ويذكر بعض الفقهاء أن دور المحكمة العليا في بعض البلاد الاشتراكية خاصة يخولها فوق ذلك صلاحية إعطاء التعليمات والتوجيهات للمحاكم الدنيا حول تطبيق القانون(4) والمحكمة العليا في ليبيا لا تمارس هذا الدور مباشرة وإنما يتحقق ذات الهدف من خلال المبادئ التي تقررها والتي جعلها المشرع ملزمة للمحاكم وجهة الإدارة .
إن وجود محكمة عليا في كل نظام قانوني يحقق العديد من الأغراض التي تهدف العدالة إلى وجودها ، وإذا كان غرض المحكمة العليا تقويم الأحكام ، وما يقع فيها من شذوذ في تطبيق القانون ، وتقرير القواعد القانونية الصحيحة فيما يختلف فيه من المسائل ، وتثبيت القضاء بها ، فإن ذلك يغطي الاختلاف والتضارب في فهم النصوص القانونية الناجم عن تعدد القضاة ، أو النقص الذي يعتور القانون، فمهما أحسن المشرع وضع القانون، فإنه لا يغطي شتى صور المعاملات والوقائع أو يحيط بها .

(1)- يطلق عليها محكمة التمييز ، كما هو الحال في العراق والكويت وسوريا ، وتسمى محكمة النقض في مصر وفرنسا ، أما في المغرب فيطلق عليها تسمية المجلس الأعلى ، وفي تونس تسمى محكمة التعقيب .
(2)- مبادئ قانون القضاء المدني ، د/ فتحي والي ، ص 631 ، دار النهضة العربية ، القاهرة ط 2 ، 1975 م .
(3) – قواعد المرافعات الليبية ، ص د/ حلمي مجيد محمد الحمدي ، ص 88 ، نشر الجامعة المفتوحة ، 1993 م .
(4) – قانون علم القضاء ، النظام القضائي الليبي ، أ ، د الكوني علي أعبودة ، ص125 ، نشر المركز القومي للبحوث والدراسات العلمية ، طرابلس ، 2003 م .

لذلك كان لزاماً على المشرع ، في ظل تناهي النصوص ، أو عدم وجودها، وعدم تناهي الوقائع في حدوثها ، أن يقر بسلطة القاضي في الاجتهاد في ضوء النصوص التشريعية المسطرة حينا ، وفي إطار المبادئ العامة للقانون والعدالة حينا آخر ، حتى لايقع في دائرة النكول عن العدالة ، وآية ذلك أنه مطالب بأن يحكم في الدعوى المعروضة عليه – طبقا لمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة – إذا لم يجد نصا تشريعيا يطبقه على الواقعة أو رأى أنه غير كاف ، أو أن به إبهاما ، مع تفاوت مراتب القضاة في الفهم على قدر تفاوتهم في العلم والخبرة ، فلا مناص حينئذ من أن تشرف على القانون وتطبيقه محكمة عليا واحدة تكون لها الكلمة الأخيرة في الأحكام ( فتنقض ما فسد منها وتصلح ما يقع فيها من الأخطاء القانونية ، ويكون لآرائها من القوة والاعتبار ما يشبه قوة القانون واعتباره)(1) .
لقد حدد المشرع درجات التقاضي العادية ، حيث رأى أن فيها ما يكفي لاطمئنان الناس إلى صيانة حقوقهم ، إلا أنه سمح أن يلجأ الخصوم إلى محكمة النقض في أحوال تعود إلى مخالفة القانون ، أو الخطأ في تطبيقه ، أو تأويله ، أو وقوع بطلان جوهري في الحكم أو في الإجراءات مؤثر في الحكم ، وهذه الوسيلة التي أتاحها المشرع جاءت لمصلحة الخصم الذي صدر عليه الحكم ، لأنه الأقدر على تلمس أوجه الخطأ فيه ، ومن ثم يكون حريصا على التظلم منه ، ولهذا كان دور محكمة النقض متعلقا بالمصلحة العامة ، والدليل على ذلك ، أن المشرع أوجب اشتراك النيابة العامة في تشكيلها وألزمها بإبداء الرأي في القضايا التي تعرض عليها ، والنيابة العامة في العادة لا شأن لها إلا فيما يكون له اتصال أو تعلق بالنظام العام أو المصلحة العامة .
وفي جميع الأحوال فإن محكمة النقض لا تعتبر درجة من درجات التقاضي وبالتالي فإنها إذا وجدت خطأ في الحكم ، تعين عليها إعادة القضية إلى المحكمة التي أصدرت الحكم لتتولى الفصل فيها ، وليس لها – كقاعدة عامة – أن تفصل في موضوع الدعوى إلا في أحوال معينة مستثناة ، عندئذ يكون لها حسم النزاع (2) .
من ذلك ما ورد في القانون رقم 13 لسنة 1425 ميلادية في شأن إقامة حدي السرقة والحرابة ، حيث تنص المادة 16 منه على وجوب عرض القضية على المحكمة العليا خلال أربعين يوما من تاريخ الحكم ، حتى ولو لم يكن هناك وجه للطعن بالنقض ، غير إن ذلك مشروط بأن يكون الحكم حضوريا وصادرا بعقوبة الحد في جريمة السرقة أو الحرابة ، فإذا كان غيابيا ،أو بالبراءة ،أو بعقوبة تعزيرية فلا يجب عرض الأمر على المحكمة العليا وفي حالة استيفاء شروط العرض على المحكمة العليا أن تعين للمتهم محاميا من المقبولين أمامها إذا لم يكن له من يدافع عنه ، ولا يقبل منه التنازل عن معاونة المحامي ، وبعد تقديم نيابة النقض مذكرة برأيها ، وكذلك دفاع المتهم ، تفصل المحكمة العليا في القضية بمجرد عرضها عليها ، وتحكم فيها دون التقيد برأي النيابة أو المدافع ، ولا تقتصر مهمة المحكمة العليا على النظر في القضية من الناحية القانونية حيث ينبغي عليها أيضا النظر فيها من الناحية الموضوعية ، فيكون فصلها في القضية قانونا وموضوعا ويكون هذا الحكم باتاً (1) .
هناك حالة أخرى تكون فيها المحكمة العليا محكمة موضوع أيضا ، وهي التي تنص عليها المادة 400 من قانون الإجراءات الجنائية ، التي أوجبت على محامي المـــتهم المحكوم عليه حضورياً بالإعدام ، موكلا كان أو معينا ، أن يقوم بإجراءات الطعن بطريق النقض إذا كان لذلك وجه ، بغير إخلال بحق المحكوم عليه في رفع الطعن بنفسه أو بواسطة محام آخر، وأن العرض على المحكمة العليا وجوبي من قبل النيابة العامة حتى ولو لم يطعن المحكوم عليه أو محاميه في الحكم كما أن محكمة النقض تتحول إلى محكمة موضوع طبقا لنص المادة 399 إذا نقض الحكم مرة ثانية من المحكمة المحالة إليها الدعوى ، فتحكم محكمة النقض في الموضوع وتتبع الإجراءات المقررة في المحاكمة عن الجريمة التي وقعت (2) .
(1)- النقض في المواد المدنية والتجارية ، للأستاذين حامد فهمي ، د / محمد حامد فهمي ، ص4، مطبعة لجنة التأليف والترجمة ، القاهرة ، 1937 م.
(2) – النقض في المواد المدنية والتجارية ، المصدر السابق ، ص 8 – 10
(1) – أحكام السرقة والحرابة د / محمد سامي النبراوي ، ص 282، قانون علم القضاء المصدر السابق ، ص 133 .

كذلك في الدعاوى المدنية ، حيث نصت المادتان357،358 من قانون المرافعات على أنه يجوز لمحكمة النقض أن تفصل في الموضوع إذا كان صالحا للحكم فيه ، وذلك في حالة نقض الحكم لمخالفته لقواعد الاختصاص ، أو مخالفته للقانون أو الخطأ في تطبيقه أو في تأويله .
ذلك إذا اقتصرت وظيفة المحكمة العليا على نقض الإحكام أو إبرامها أما إذا شمل اختصاصها الرقابة الدستورية على التشريعات الصادرة ، فعندئذ تكون محكمة دستورية أيضا علاوة على كونها محكمة نقض ، سواء كانت تلك الرقابة الدستورية رقابة امتناع أو رقابة إلغاء ، وذلك متوقف على الصلاحيات التي يمنحها لها المشرع في كل بلاد، ومن خلال التشريعات الصادرة في ليبيا تعتبر المحكمة العليا محكمة نقض ومحكمة دستورية أيضا مثلما يرد توضيح ذلك في معرض بيان اختصاصات المحكمة العليا بالرقابة على صحة التشريعات أو الرقابة على الدستورية .

يضاف إلى ذلك أن المبادئ التي تقررها محاكم النقض عادة ما تحظى باحترام المحاكم الدنيا ، استنادا إلى قاعدة التدرج القضائي ، لكنه التزام أدبي لا يمنع المحاكم من اجتهاد مخالف ، ومع ذلك من شأنها أن تجعل الأحكام التي تصدرها المحاكم الدنيا تتوافق مع المبادئ الصادرة عن المحكمة التي تقع في أعلى الهرم القضائي في البلاد .

غير أن ذلك لا يمنع المشرع من أن يجعل هذه المبادئ ملزمة لتلك المحاكم ولجهة الإدارة ، كما هو الحال في ليبيا ، فعند ذلك يكون الالتزام بتلك المبادئ وجوبيا ، ومن ثم تصبح تلك المبادئ من مصادر القانون في الدولة(1) .
وفي هذه الحالة ، فإن المحكمة العليا تتحول من محكمة قانون إلى محكمة موضوع غير إن بعض الفقهاء ينتقد هذا المسلك حيث إن قيام المحكمة العليا بالفصل في الموضوع يتعارض مع المسلم به في الفقه العربي عموما والفرنسي أيضا لأن هذه المحكمة هي محكمة قانون وليست درجة ثالثة من درجات التقاضي (2) .
ولكن المشرع الليبي خالف ذلك الأصل وسمح للمحكمة العليا أن يحل حكمها محل محكمة الموضوع ، وربما يفسر مسلك المشرع في هذه الحالة رغبته في إنهاء المنازعات بسرعة ، وتقليل الإجراءات والنفقات على المتقاضين بالنظر إلى كثرة الوارد من القضايا إلى المحاكم الدنيا ، ولأن قضاة المحكمة العليا لهم من الخبرة والكفاءة التي تمكنهم من التصدي للموضوع والفصل فيه .
(2)- دراسات قانونية في ضوء قانون تعزيز الحرية وحقوق الإنسان ، أ – د عبد الرحمن أبوتوتة ، منشورات المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر ، ص 174 ، الطبعة الأولى ، 1374 ور ، 2006 مسيحي .
(1)- يراجع في تفصيل رقابة المحكمة العليا لدستورية القوانين وقوة مبادئ المحكمة العليا كتاب الأستاذ الدكتور خالد عبد العزيز عريم القانون الإداري الليبي ، المجلد الثاني، ص 53 وما بعدها ، نشر دار صادر بيروت ، 1971 م.
(2) – قانون علم القضاء المصدر السابق ، ص 133