موقف القاضي من الاثبات

إعداد القاضي: رائد زيدات

المقدمة

ان حق اللجوء الى القضاء هو ضمانة كفلتها كافة الدساتير والمواثيق الدولية، وطريق حماية الحقوق وتحقيق العدالة وحل النزاعات وضمان استقرار المعاملات، ولكي يتسنى ذلك، لا بد ان يكون للجهة المسؤولة عن تحقيق كل ذلك دور يمنحها اياه القانون، ومما لا شك فيه ان للقاضي دور في كل ذلك، وكما ان له دور في ادارة وتسيير الدعوى والخصومة فان له دور في البينات والادلة التي تطرح امامه من قبل اطرافها.

ان مسألة الاثبات من اهم المسائل في كافة مراحل المحاكمة بل تكاد تكون جوهرها، ذلك ان الحق موضوع التقاضي يتجرد من قيمته اذا لم يقم الدليل عليه، فالحق مجرد من دليله يصبح عند المنازعة في والعدم سواء.
وقد تطور هذا الدور مع تطور نظم الاثبات المختلفة، وقد سار المشرع الفلسطيني على هذا النهج في ظل قانون البينات رقم 4 لسنة 2001، فلم يعد دوره مجرد الرقابة على ما يطرحه الخصوم من بينات، بل ان دوره اصبح ايجابيا عما كان عليه في ظل قانون البينات رقم 30 لسنة 1952 الملغى، فقد اهتم هذا القانون باظهار الدور الايجابي للقاضي، فقرر له دورا واسعا في تقدير ما يقدم له من ادلة، الامر الذي كان له عظيم الاثر في قطع دابر المماطلة من قبل الخصوم، والذي كان سائدا في ظل الدور السلبي في القانون الملغى، وان كان هذا الدور لم يكن يتم تفعيله كما يجب في بدايات صدور قانون البينات الفلسطيني رقم 4 لسنة 2001 وذلك بسبب تأثر القضاة بما ارساه القانون القديم لمدة تزيد على ثلاثون عاما، الى ان اصبح غالبية القضاة في المحاكم الفلسطينية يعون الدور الذي عليهم النهوض به في ظل القانون الجديد.
لقد حدد القانون الفلسطيني كغيره من القوانين طرق الاثبات ووسائله، فلا بد من التقيد بتلك الوسائل ولا يجوز اللجوء الى غير الوسائل التي حددها المشرع كالاتفاق على الاثبات بدليل اخر، فالاثبات هو اقامة الدليل امام القضاء بالطرق التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت اثارها .

وقد حصر قانون البينات وسائل الاثبات في الادلة الكتابية كالسندات الرسمية والعرفية، والشهادة والاقرار والقرائن واليمين والمعاينة والخبرة، من هنا نجد ا ن وسائل وادلة الاثبات تنقسم من حيث حجيتها الى نوعين ادلة اثبات ملزمة ذات قوة مطلقة وهي التي تصلح لاثبات جميع الوقائع سواء كانت وقائع مادية او تصرفات قانونية وايا كانت قيمة الحق المراد اثباته، وهذا النوع من الادلة غالبا ما يكون قد تم اعداده سلفا، وهناك الادلة الملزمة المعفية من الاثبات وهي الاقرار واليمين والقرائن وهي تصلح للاعفاء من اية واقعة قانونية او تصرف قانوني مهما بلغت قيمته، وهي غالبا يمكن اللجوء اليها بعد بدء الخصومة ولا تكون معدة سلفا.

اهمية الدراسة

تنبع اهمية الدراسة بتسليط الضوء على ما جاء به قانون البينات الفلسطيني رقم 4 لسنة 2001 من جديد فيما يتعلق بالدور الايجابي الذي منح للقاضي وموقفه من ادلة الاثبات، والمردود الايجابي الذي رتبه هذا التحول بمنح القاضي دورا ايجابيا في عملية الاثبات، ومدى السلطة التقديرية قياسا بما كان عليه الحال في قانون البينات الملغى، وذلك للاحاطة والالمام بهذا الدور.

اشكالية الدراسة

لقد جاء قانون البينات الفلسطيني باحكام مختلفة الى حد كبير عما كان عليه الحال في السابق، من تقييد لسلطة القاضي ن التدخل في المسائل المتعلقة بالاثبات، حيث كان الامر متروكا لا طراف الدعوى ودور مقيد للقاضي في التدخل، فالبينات من حق الخصوم، فكيف يفعل القاضي هذه السلطة الممنوحة له بموجب القانون وهل في توسيع صلاحيات القاضي في التدخل تعدي على حق الادعاء او الدفاع، وما هو الواقع في المحاكم الفلسطينية ازاء استخدام القضاة لهذه الصلاحيات وهل تمكن القضاء الفلسطيني من التغلب على هذا التردد الذي دام فترة من الزمن؟

منهجية الدراسة

سيتبع الباحث في هذه الدراسة المنهج التحليلي المقارن، يكون محورها قانون البينات الفلسطيني رقم 4 لسنة 2001 وقانون البينات الاردني رقم 30 لسنة 52 الملغى، وذلك بالمقارنة مع الانظمة القانونية المجاورة في مجال الاثبات.

خطة الدراسة

المقدمة
المبحث الاول: موقف القاضي من السندات في الاثبات
المطلب الاول: موقف القاضي من السندات المعدة للاثبات
الفرع الاول: موقف القاضي من السندات الرسمية
الفرع الثاني: موقف القاضي من السندات العرفية
المطلب الثاني: موقف القاضي من السندات غير المعدة للاثبات
الفرع الاول: موقف القاضي من الاثبات بالرسائل والبرقيات
الفرع الثاني: موقف القاضي من الاثبات بالدفاتر التجارية
المبحث الثاني: موقف القاضي من الادلة الاخرى في الاثبات
المطلب الاول: موقف القاضي من شهادة الشهود
المطلب الثاني: موقف القاضي من الاقرار والاستجواب
الفرع الاول: موقف القاضي من الاقرار في الاثبات
الفرع الثاني: موقف القاضي من استجواب الخصوم
المطلب الثالث: موقف القاضي من اليمين والقرائن
الفرع الاول: موقف القاضي من اليمين في الاثبات
الفرع الثاني: موقف القاضي من القرائن في الاثبات
الخاتمة

تمهيد

استكمالا لما قدمنا، يمكن تعريف الاثبات على انه العملية القانونية التي يقوم بها المدعي لاظهار حقه عن طريق تقديم الادلة المطلوبة، وهذا هو الاثبات القضائي الذي يختلف في طبيعته عن الاثبات العلمي رغم ان كل منها يعتمد على مجهود عقلي للتحقق من واقعة غير معروفة، كما وان الاثبات القضائي يهدف الى الفصل في نزاع بين فرقاء على حق يدعيه احدهم وينكره الاخر .

يختلف الاثبات في الامور المدنية عنه في الامور الجنائية من جانبين، الاول: عبء الاثبات الذي يقع على عاتق النيابة في الدعاوى الجنائية والتي تمثل المجني عليه، فعليها اثبات وقوع الجريمة ونسبتها الى المتهم، فالاصل ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، اما في المسائل المدنية فان عبء الاثبات يقع على عاتق المدعي الذي يقع على عاتقه ان يقدم الدليل، اذ ان الاصل ان المدعى عليه (المدين) بريء الذمة.

اما الجانب الاخر فهو حرية الاقتناع فالقاضي المدني مقيد وملزم ببعض الادلة حتى وان اقتنع ان العدل يكمن في عدم الاخذ بها، كالسند الرسمي والاقرار، وان كان هناك بعض الادلة يكون له مجال من الحرية في الاقتناع بها كالشهادة، اما القاضي الجنائي فهو غير مقيد بادلة مطلقة الحجية، وله تقدير قوة الدليل، فله ان يأخذ به وله ان يتركه .
وقد ذهب الفقهاء في تفسير مختلف قوانين الاثبات ثلاثة مذاهب:
1- مذهب الاثبات المطلق، حيث يخول القاضي سلطة مطلقة في تحري حقيقة الوقائع ويجعل دوره ايجابيا.
2- مذهب الاثبات المقيد، وهو يذهب الى الحد من سلطة القاضي الى حد يجعل دوره في تسيير الدعوى دورا سلبيا يلتزم فيه القاضي موقفا محايدا.
3- مذهب الاثبات المختلط، وهو وسط بين المذهبين يجمع مزايا كل منهما فيأخذ بمبدأ حياد القاضي ومبدأ حصر الادلة وتحديد قيمة كل منها وفاعليته مع تخويل القاضي سلطة واسعة في تقدير كل منها، فهو يتراوح بين اطلاق الاثبات وتقييده .
كما وان دور القاضي في الاثبات يختلف عنه في تسيير اجراءات الخصومة المدنية، فالتشريعات الحديثة وعلى الرغم من التوجه نحو منح القاضي دورا اكبر واوسع في مجال الاثبات عما كان عليه الامر في السابق الا ان دوره هذا يبقى اكثر تقييدا من سلطته في ادارة الخصومة، اذ اننا لا نستطيع القول سلطة القاضي في الاثبات، فدوره هنا يبقى ضمن نطاق يرسم حدودا لتقديره ليبقي للخصوم متسعا نزولا عند المبدأ القائل ان البينات من حق الخصوم، وبالتالي فان للقاضي سلطة تقديرية تمتد الى مجموع النشاط الذهني الذي يقوم به عند ممارسته لولاية القضاء ايا كان مجال العمل القضائي او نوعه فله تكييف العقود وتحديد نطاقها وايضا في تعديلها وتفسيرها.

ودور القاضي او موقفه من ادلة الاثبات هو احد اوجه السلطة التقديرية للقاضي المدني، فالسلطة التقديرية تعني ملاءمة الواقع مع القانون، ذلك ان النصوص القانونية لا يمكن ان تعطي كل الحلول المناسبة للمنازعات والوقائع المعروضة، الا ان القاضي ورغم ذلك مقيد بما يطرحه الخصوم، فهو لا يستطيع ان يستند الى وقائع خارج نطاق ما يطلبه الخصوم ويطرحوه امامه، وهو بالتالي ملزم بعدم تجاوز نطاق الخصومة، فلا يستطيع ان يحكم بما لم يطلبه الخصوم اوان يحكم بعلمه الشخصي وفي مجال الاثبات فان للقاضي حرية تقدير الوقائع في حدود ما عرض عليه، من حيث تقديره للدليل المقدم له، فله ان يأخذ به وله ان يطرحه اذا تطرق فيه الشك الى وجدانه، ولهذا فان محكمة النقض لا تختص من حيث المبدأ باعادة فحص ادلة الاثبات التي كانت خاضعة لتقدير قاضي الموضوع .

ومن اوجه هذه السلطة التقديرية ما نصت عليه المادة (6) من قانون البينات الفلسطيني

1- يجوز للمحكمة:
أ‌. ان تعدل عما امرت به من اجراءات الاثبات اذا طرأت ظروف تبرر هذا العدول.
ب‌. الا تأخذ بنتيجة الاجراء الذي امرت به.

2- في الحالتين السابقتين عليها ان تبين اسباب ذلك في قرارها.
يقابلها نص المادة (9) من قانون الاثبات المصري، فالقاضي ليس ملزما بتنفيذ اجراء لم يعد يرى ضرورة له، سيما وانه غير مقيد في حكمه في الموضوع بما يسفر عنه هذا الاجراء، فليس ابغض على نفس القاضي من حمله على تنفيذ اجراء لم يعد يرى ضرورة له، الا ان الحكم الصادر في الموضوع يجب ان يتضمن اسباب العدول، واغفال ذلك يرتب البطلان اذا كان الاجراء الذي عدلت عنه المحكمة بناء على طلب الخصوم، اما اذا كانت قد امرت بالاجراء من تلقاء نفسها فانها غير ملزمة ببيان اسباب العدول .
ولكن ليس للقاضي ان يحكم في الدعوى الا بمقتضى الادلة التي حددها المشرع، وبعد استيفاء الاجراءات التي حددها القانون فالكتابة كدليل اثبات تختلف قيمتها باختلاف الغاية التي ارادها المشرع منها فاذا تطلبها كشكل في بعض التصرفات مثل رسمية او توثيق تصرف معين اعتبرت الكتابة هنا ركنا في هذا التصرف لا يتم الا بها، وان تطلبها المشرع لشهر بعض التصرفات فان تخلفها لا يؤثر على التصرف، وانما يمنع من تحقق اثره، اما اذا كانت الكتابة للاثبات، فان تخلفها لايؤثر على وجود التصرف او اثاره وانما لا يمكن اثبات هذا التصرف عند النزاع فيه الا بما يقوم مقامها كالاقرار او اليمين .

المبحث الاول: موقف القاضي من السندات في الاثبات

السندات عادة تكون معدة للاثبات مقدما، والدليل المعد مقدما هو في العادة محرر (سند عادي او سند رسمي)، فالكتابة كقاعدة عامة مطلوبة اذا زادت قيمة الالتزام على حد معين يختلف من تشريع لاخر، وتعتبر التصرفات القانونية المجال الطبيعي لهذا النوع من ادلة الاثبات، اما الوقائع فهي غالبا ما تحدث فجأة وبالتالي فان اثباتها يكون بجميع طرق الاثبات .

المطلب الاول: موقف القاضي من السندات المعدة للاثبات

الادلة الكتابية المعدة مقدما للاثبات عادة ما تكون محررات سواء اكانت رسمية او عادية وبذلك سنعرض لموقف القاضي من كل منها.

الفرع الاول: موقف القاضي من السندات الرسمية في الاثبات
جاء النص على السندات الرسمية في المادة (9) من قانون البينات الفلسطيني رقم 4 لسنة 2001 “السندات الرسمية هي التي ينظمها الموظفون العموميون ومن في حكمهم الذين من اختصاصهم تنظيمها طبقا للاوضاع القانونية، اما السندات التي ينظمها اصحابها ويصدقها الموظفون العموميون ومن في حكمهم الذين من اختصاصهم تصديقها طبقا للقانون فتعتبر رسمية من حيث التاريخ والتوقيع فقط” يقابله نص المادة 10 من قانون الاثبات المصري، وان استخدم المشرع المصري مصطلح المحررات في كونها اعم وادق .

يتضح من النص المذكور ان هناك شروطا ثلاثة يجب توافرها في السند لكي يكون رسميا:
1- ان يقوم بكتابة السند او تلقيه موظف عام او من في حكمه كالمأذون.
2- ان يكون الموظف مختصا، ومقتضى ذلك ان لا يكون قد عزل او نقل او اوقف عن العمل، ويجب ان يكون مختصا من حيث الموضوع ومن حيث المكان والاختصاص المكاني.
3- ان يراعى في توثيقها الاوضاع التي قررها القانون، وهذه الاوضاع تختلف من سند لاخر، وتتعلق هذه الاوضاع عادة بالتثبت من شخصية اطرافها ويجب ان يراعي الاجراءات المنصوص عليها في قانون التوثيق كقانون الكاتب العدل .
اذا توافرت الشروط المتقدمة في سند ما اكتسب الصفة الرسمية واصبح حجة بذاته دون حاجة الى الاقرار بها، فان نازع الخصم في صحتها يقع عليه عبء نقضها بالطعن بالتزوير، وهذا ما تنص عليه جميع الانظمة القانونية، فرسمية السند قرينة الا انها قرينة بسيطة قابلة لاثبات العكس .

فاذا لم يستوفي السند الشروط المذكورة، فلا تكون له الا قيمة السندات العرفية المادة 10 من قانون البينات.
واما البيانات التي يتضمنها السند الرسمي فهي على نوعين، بيانات يقوم الموظف العام بتدوينها في حدود مهمته واختصاصه، وتشمل ايضا ما يصدر من اصحاب العلاقة من اقرارات في حضوره، وهذا النوع من البيانات لا يمكن الطعن فيه الا بالتزوير، حتى من الغير واما النوع الثاني من البيانات فهي تلك التي تصدر من اصحاب العلاقة دون ان يكون قد شاهدها او تحرى عن صحتها، فهذه لا تثبت لها صفة الرسمية الا من حيث التاريخ والتوقيع فقط، ويجوز اثبات عكسها بكافة طرق الاثبات وكذلك الامر بالنسبة للغير، وبالتالي فان ما يكون للقاضي فيه دور ومنه موقف هو النوع الثاني من البيانات فهي تخضع في حجيتها لتقدير قاضي الموضوع، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية “الاوراق الرسمية اقتصار حجيتها على البيانات التي قام بها الموظف العام في حدود مهمته او وقعت من ذوي الشأن في حضوره، مجال انكارها هو الطعن بالتزوير، البيانات الاخرى الخارجة عن هذا الخصوص او ما تعلق بمدى صحة ما ورد على لسان ذوي الشان من بيانات او اقرارات، المرجع في اثبات حقيقتها الى القواعد العامة في الاثبات”.

فاذا توافرت في السند الرسمي الشروط القانونية لا بد ايضا ان تتوافر فيه شروط السلامة المادية بان يكون مظهره الخارجي لا يبعث على الشك فيه بان يكون خاليا من الاضافة او الكشط او المحو او التحشير، والا كان للمحكمة ان تقدر ما يترتب على ذلك في عدم الاخذ به كله او بعضه، وهو ما نصت عليه المادة 38 من قانون البينات “للمحكمة ان تقدر ما يترتب على الكشط والمحو والتحشير وغير ذلك من العيوب المادية في السند من اسقاط او انقاص قيمته في الاثبات ولها ان تاخذ ببعض او كل ما تضمنه السند” الا ان القاضي لايستطيع استبعاد السند الرسمي الذي فقد احد شروطه من تلقاء نفسه، وانما يجب على الخصم الذي له مصلحة التمسك بذلك، بينما اعطت المادة 67 من قانون البينات للمحكمة ولو لم يدعى امامها بالتزوير ان تحكم برد أي سند وبطلانه اذا ظهر لها بجلاء من حالته او من ظروف الدعوى انه مزور، وهذين النصين (38،67) لم يتضمنهما قانون البينات الملغى، فلم تكن للقاضي بموجب القانون الملغى هذه السلطة التقديرية في التحقق من السلامة المادية للسند او سلطة رد السند اذا تبين من ظاهره التزوير، اذ كانت المادة 7/1 من قانون البينات الملغى تنص على “تكون السندات الرسمية حجة على الكافة بما دون فيها ما لم يتبين تزويرها بالطرق المقررة قانونا” .

موقف القاضي من صور السند الرسمي

الاصل ان الحجية انما تكون للنسخ الاصلية، وفي حالة صور تلك السندات يجب التفرقة بين حالتين
اولا: وجود اصل السند الرسمي وهنا فان صورته خطية كانت ام فوتوستاتية او غيرها تكون لها قوة السند الرسمي الاصلي، وتعتبر مطابقة للاصل ما لم ينازع في ذلك احد الطرفين، وهنا وجب مراجعة الصورة على الاصل، ولا يجوز للقاضي طلب مطابقة الصورة على الاصل اذا لم يتمسك من له مصلحة في ذلك، ومتى طلب الخصم ذلك لايجوز رفض طلبه الا اذا قدر القاضي ان السند المطلوب مطابقته غير منتج في الدعوى او كان هناك من الادلة ما يكفي لتكوين القناعة حول الواقعة المراد اثباتها بصورة السند الرسمي

ثانيا: عدم وجود اصل السند الرسمي، كانت الصورة حجة على النحو التالي:
1- يكون للصورة الرسمية الاصلية حجية الاصل متى كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك في صحتها، والمقصود بالصورة الرسمية الاصلية، أي المنقولة عن الاصل مباشرة بواسطة موظف عام، فاذا اعتراها كشط او محو او ما الى ذلك فما ينسحب على السند الرسمي الاصلي ينسحب على الصورة حسب المادة38 من قانون البينات السالفة الذكر.
2- اما الصورة الرسمية المأخوذة عن الصورة الرسمية الاصلية فتكون لها ذات الحجية ما لم يطلب احد الطرفين مراجعتها على الصورة الاصلية التي اخذت عنها، وهذا يفترض وجود الصورة الاصلية، فاذا لم توجد فلا تكون للصورة المأخوذة عنها اية قوة او حجية وان امكن اعتبارها مبدأ ثبوت بالكتابة .
3- اذا فقدت الصور الرسمية فيجوز الرجوع الى السجلات الرسمية بعد التحقق من فقدان السند الاصلي وصوره، ويجوز الاستماع الى الشهود ان وجدوا .

الفرع الثاني: موقف القاضي من السندات العرفية (العادية) في الاثبات
عرفت المادة (15) من قانون البينات السند العرفي “الذي يشتمل على توقيع من صدر عنه او على خاتمه او بصمته ولا تتوافر فيه الشروط المنصوص عليها في المادة (9) من هذا القانون” أي لا يتدخل في صياغتها او توثيقها موظف عام وفق الاوضاع المقررة في القانون، ان القيود التي ترد على السند العرفي هي اقل من تلك التي ترد على السند الرسمي، ذلك ان اثار السند العرفي هي اقل شأنا من اثار السند الرسمي .

وهناك من يرى انه لا يشترط في السند العرفي الا شرط واحد، وهو توقيعه الا انه وان كان التوقيع احد العناصر المكونة للسند العادي، وهو الشرط المهم والجوهري، الا ان هناك شرطا وعنصرا اساسيا اخر وهو الكتابة بل ان هناك بعض القوانين تتطلب تعدد النسخ في العقود الملزمة للجانبين، كاللبناني والفرنسي .

ان قوة السند العرفي هي دون قوة السند الرسمي من حيث الاثبات، وفي ذلك تقول محكمة النقض الفلسطينية “تفضيل السندات الرسمية على السندات العرفية لا يدق الا حيث تكون الواقعة التي تم الاتفاق عليها في السند منكرة او كان هناك خلاف حول صحة السند” فهو ليس حجة بذاته كالسند الرسمي من حيث صدوره من موقعه وسلامته المادية، ذلك ان من يحتج عليه بسند عرفي يستطيع ان ينكر توقيعه عليه .

والسند العرفي يعتبر حجة على من وقعه ما لم ينكر ما هو منسوب اليه من خط او امضاء او ختم او بصمة عند اطلاعه عليه، ويعتبر سكوته اقرارا بصحة ما نسب اليه ولم يتضمن قانون الاصول الملغى فقرة مماثلة، وهذا النص الصريح على اعتبار السكوت اقرارا فيه خروج على الاصل القائل لا ينسب لساكت قول، وهو ما ذهبت اليه محكمة التمييز الاردنية في قراراها رقم 121/84 حيث جاء فيه “اذا لم ينكر المدعى عليه توقيعه على السند المبرز عند ابرازه فانه يعتبر مسلما بان التوقيع هو توقيعه”.

واختلف الفقه في موقف القاضي من السكوت فذهب اتجاه الى القول بان السكوت يعادل الاعتراف وذهب اتجاه اخر الى اعتباره قرينه على صدور االسند ممن وقعه والامر متروك لسلطة القاضي، وهناك من يذهب الى تاييد هذه الوجهة في تفسير المادة 16 من قانون البينات الفلسطيني في اعتبار السكوت قرينة قانونية لا قضائية وهي قرينة قانونية بسيطة يمكن اثبات عكسها .
اعتقد ان هذا الرأي ممكن الاخذ به في ظل قانون لم يرد فيه نص صريح على ان السكوت يعتبر اقرارا بصحة ما نسب اليه كالقانون المصري والعراقي اما في ظل النص الواضح في قانون البينات الفلسطيني لا يمكن القول بتحليلات غير ما ورد في صريح النص، سيما وان النص الفلسطيني نقل عن النص المصري وان الاضافة المتعلقة بالسكوت هي اضافة قصد منها جعل من يحتج عليه بسند عرفي ان ينكر صراحة ما هو منسوب اليه بشكل قاطع لا لبس فيه ومع صراحة النص لا مجال للتقدير والقياس، وهي بالتالي قرينة قانونية قاطعة وليست بسيطة .

الا انه اذا ناقش من احتج عليه بسند عرفي موضوعه، لا يقبل منه بعد ذلك انكار الخط او الامضاء او الختم او البصمة كأن يجادل من احتج عليه بسند دين عادي في قيمته او سداده، فلا يقبل منه ان ينكر بعد ذلك امضاءه او بصمته او توقيعه على السند، وذلك سدا لباب المماطلة والكيد، الا ان مناقشة موضوع السند وان كانت تسقط حق الخصم في انكار الخط او الامضاء او البصمة الا ان ذلك لا يسقط حقه في الطعن على السند بالتزوير، واذا احتج بالسند العرفي بحضور الوكيل بالخصومة وغياب الموكل فعليه ان يطلب مراجعة موكله بخصوص التوقيع الوارد على السند قبل أي شيء،اما ان كان حاضرا فعليه ان يتنصل فورا والا حرم من انكار توقيعه فيما بعد .

ومتى تم انكار التوقيع او الخط على الوجه المتقدم فان الورقة العرفية تفقد حجيتها مؤقتا، ويكون على المتمسك بها ان يقيم الدليل على صحتها باتباع الطريق الذي رسمه القانون، الا اذا وجد القاضي من وقائع الدعوى ومستنداتها ما يكفي لتكوين قناعته في شان صحة الخط او الامضاء او التوقيع فله ان لا يعتد بهذا الانكار، اما اذا لم يتوافر ذلك كان له ان يأمر باجراء التحقيق بالمضاهاة والاستكتاب .
وبخصوص شكل السند فان موقف القاضي لا يختلف كثيرا عما هو الحال بالنسبة للسندات الرسمية، الا ان السلطة التقديرية للقاضي في حالة السند العرفي تتسع اكثر، كونه لا يوجد نص يمنع اجراء الاضافة او التحشية او الشطب، وتقدير ذلك متروك للقاضي فله ان يأخذ بها اذا كان السند لايستقيم الا بها، وهناك من يذهب في تفسير نص المادة 16/1 تفسيرات قد تخرج بها عن مفهومها الواضح بالقول انه يجب التفرقة بين حالة ان يكون الخط والتوقيع على السند لا يعودان للمنكر وبين ما اذا كان التوقيع بخط المنكر والكتابة ليست بخطه وهنا نقول ان الكتابة وان كانت مطلوبة الا انها قد تكون بخط الموقع او بغيره فقد تكون الكتابة طباعة او بخط غيره ما دام قد وقع عليها بما يدل على اعتماده اياها وارادته الالتزام بمضومنها، والكتابة وان كانت شرطا الا انه ليس مطلوبا ان تكون بخط يد موقع السند، اما الكتابة دون التوقيع ان كانت بخط المنكر فهي لا تعدو ان تكون مبدأ ثبوت بالكتابة يمكن تكملتها بالبينة الشفوية .

حجية السند العرفي بالنسبة للغير

اذا اعترف من احتج عليه بسند عرفي بصحة التوقيع المنسوب اليه على السند فيكون له قوة السند الرسمي من حيث صدورة ممن وقعه، وهذه الحجية تمتد الى الكافة ما عدا التاريخ فلا يكون حجة على الغير الا اذا كان ثابتا .

والمقصود بالغير هنا الخلف الخاص وهم كل من يتلقى عن سلفه حقا معينا وتسري عليه تصرفات السلف السابقة، وكذلك الدائنون العاديون .
وقد اجازت الفقرة الثالثة من المادة 18 للقاضي ان لا يطبق حكم هذه المادة أي ثبوت التاريخ على الاوراق والمخالصات والسندات التجارية، ذلك ان المسائل التجارية جائز اثباتها من حيث الاصل بكافة طرق الاثبات، ويختلف حكم هذه الفقرة مع ما نص عليه قانون البينات الملغى، فبينما جعلت المادة 18/3 من قانون البينات الحالي الامر جوازي بالنسبة للقاضي فقد الزمته المادة 11 من القانون الملغى بعدم تطبيق هذا الحكم على الاوراق والسندات التجارية .

حجية صور المستندات العرفية

لم يرد نص في قانون البينات على قيمة صور السند العرفي كما فعل بالنسبة لصور السند الرسمي، والاصل ان لا حجية لصور السند العرفي الا بمقدار ما تهدي الى الاصل اذا كان موجودا فيرجع اليه، اما اذا لم يكن موجودا فلا قيمة للصورة، الا انه اذا لم ينازع الخصم حين ابراز الصورة في صحتها ولم يطلب تقديم اصلها للمراجعة عليه فان ذلك يعد تسليما منه بمطابقتها لاصلها وجاز للقاضي ان يعتمد عليها في الحكم، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية “صورة الاوراق العرفية، لا حجية لها في الاثبات الا بمقدار ما تهدي الى الاصل، عدم انكار المحجوج بالورقة مطابقة الصورة لاصلها، اثره اعتبارها حجة عليه في الاثبات .

المطلب الثاني: موقف القاضي من السندات غير المعدة للاثبات

الاوراق غير المعدة للاثبات هي تلك التي لا تعد مقدما لاثبات تصرفات قانونية معينة، وتكون لها رغم ذلك قيمة في الاثبات، قد تصل الى حد اعتبارها دليلا كاملا وقد يؤخذ بها على سبيل الاستئناس، وهي يمكن ان تكون موقعة ولكنها في الغالب ليست كذلك .
وهذه الاوراق يمكن اجمالها في الرسائل والبرقيات ودفاتر التجار والدفاتر والاوراق المنزلية.

الفرع الاول: موقف القاضي من الاثبات بالرسائل والبرقيات

تنص المادة 19 من قانون البينات رقم 4 لسنة 2001
1- تكون للرسائل الموقع عليها قيمة السند العرفي من حيث الاثبات ما لم يثبت موقعها انه لم يرسلها ولم يكلف احدا بارسالها.
2- تكون للبرقيات ومكاتبات التلكس والفاكس والبريد الالكتروني هذه القوة ايضا اذا كان اصلها المودع في مكتب التصدير موقعا عليه من مرسلها، وتعتبر البرقيات مطابقة لاصلها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك .

لقد اعطى القانون للرسالة قوة السند العرفي، فهي دليل اثبات كامل متى كانت موقعة من مرسلها الى ان ينكر توقيعه عليها اوان يطعن عليه بالتزوير، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية للرسائل الموقع عليها قوة الدليل الكتابي من حيث الاثبات فتكون حجة على المرسل بصحة المدون فيها الى ان يثبت هو العكس بالطرق المقررة قانونا للاثبات.
ويصح اعتبار الرسالة مبدأ ثبوت بالكتابة اذا كان من شأنها ان تجعل المدعى به قريب الاحتمال، كان تكون مكتوبة بخط يد المرسل، ولذلك كان على المشرع ان يستعيض عن كلمة موقعها الواردة في الفقرة الاولى بكلمة مرسلها لان الرسالة قد ترسل دون توقيع وتكون مبدأ ثبوت يمكن اكماله بالبينة.

ويختلف موقف القاضي من حجية الرسائل في الاثبات عنه في السندات العرفية من حيث ان طبيعة الرسالة تتيح لمن يحتج بها عليه ان ينكر انه ارسلها او كلف احدا بارسالها، وله اثبات ذلك بكافة طرق الاثبات، كونها واقعة مادية يمكن اثباتها بكافة طرق الاثبات، والا كان ما دون فيها حجة عليه فهي ذات حجية مؤقتة، وله طلب سحبها اذا تضمنت سرا له، والامر يعود للقاضي في تقدير هذه ا لسرية، واذا ناقش من نسبت اليه الرسالة موضوعها ليس له بعد ذلك ان ينكر انه ارسلها، وهناك من يرى ان الانكار يجب ان يكون صريحا واضيف الى ذلك انه في حالة السكوت يعتبر اقرارا بارسالها وذلك لان المشرع اعطى الرسالة قوة السند العرفي ومن باب اولى ان يطبق على الرسالة كل ما يتعلق بالسند العرفي سيما ما المادة 16/1 التي اعتبرت السكوت قرينة على صحة ما هو منسوب له، ويستثنى من ذلك كما اسلفنا ما يتعلق بطبيعة الرسالة.

والفقرة الثانية من المادة 19 لم يتضمنها قانون البينات الملغى بينما جاء في المادة 13/2 منه “تعتبر البرقيات مطابقة لاصلها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك”
وقد اعطى هذا النص للبرقيات قوة السند العرفي ويشترط في البرقية لكي تكون لها هذه القوة 1-ان لا يكون اصلها المودع في مكتب التصدير موقعا عليه من مرسلها وهذا يتطلب 2- ان يكون الاصل موجودا ولم يتلف، فاذا توافر الشرطان كان موقف القاضي منها ما ينطبق على موقفه من السند العرفي، واما اذا تخلف احد الشرطين المذكورين فلا يكون لها حجية في الاثبات الا لمجرد الاستئناس .

مكاتبات التلكس والفاكس والبريد الالكتروني

لقد اضيف الى الفقرة الثانية من المادة 19 وتقابلها الفقرة الثانية من المادة 16 من قانون الاثبات المصري مكاتبات التلكس والفاكس والبريد الالكتروني، وهو بذلك يواكب التطور الحاصل ويوسع دائرة الادلة التي يمكن ان تعتبر في معرض الاثبات، والتلكس يعني التبادل البرقي، وهو يختلف عن السند العرفي او الرسالة من حيث الشروط الواجب توافرها في كل منهما وهي الكتابة والتوقيع فالتوقيع لا يظهر على السندات المستخرجة من هذا الجهاز وكذلك فان الكتابة تتم فيه بطريقة الكترونية، وهو يختلف عن الاحكام المطبقة على البرقية لان النسخة الثانية لدى مكتب التصدير لا تتضمن توقيع المرسل، وان حجية التلكس غير الموقع عليه لا تتجاوز كونها قرينة قضائية خاضعة لتقدير القاضي، ويشترط في الفاكس لكي تكون له حجية السند العرفي ان يكون الاصل المودع لدى مكتب التصدير موقعا عليه وان يكون موجودا ولم يتلف، وان يتم ارساله عن طريق مكتب البريد، وان لا ينكره الخصم، والبريد الالكتروني عادة يتم ارساله عبر جهاز كمبيوتر خاص وهنا لا تكون له قيمة في الاثبات الا اذا كانت صورة السند الاصلي هي المرسلة عبر البريد الالكتروني، وفي هذه الحالة يمكن الزام الخصم بتقديم السند الاصلي وفقا لقواعد الالزام المنصوص عليها في قانون البينات، وهناك من يرى ان البريد الالكتروني يمكن ان يؤخذ به كدليل كتابي كامل، وانني ارى ان في ذلك تأويل لا اساس له وان كان يمكن اعتباره قرينة قضائية.

الفرع الثاني: موقف القاضي من الاثبات بالدفاتر التجارية

الاصل انه لا يجوز للخصم ان يصنع دليلا لنفسه ويحتج به على خصمه، الا ان هذا الاصل يمكن الخروج عليه في حالات معينة من بينها الدفاتر التجارية ، ذلك ان طبيعة الاعمال التجارية وما تقتضيه من سرعة وائتمان وما تتطلبه طبيعتها من يسر وسهولة في التعامل اوجبت على مختلف الانظمة القانونية ان تجعل للدفاتر التجارية حجية في الاثبات، مع فرضها قيودا تنظم مسك الدفاتر من قبل التجار وان تكون خالية من الفراغات او الكشط او التحشية، وان تكون مرقمة وموقعة لدى الجهة التجارية الرسمية وهي امور نظمها قانون التجارة رقم 12 لسنة 1966 وتختلف حجية الدفاتر التجارية بين التجار وفي كونها حجة لهم او عليهم او بين التجار وغير التجار.

اولا: حجيتها للتاجر:

تنص المادة 23 من قانون البينات على انه يجوز ان تكون دفاتر التجار حجة لصاحبها في المعاملات المختصة بتجارته اذا كانت منتظمة وكان الخلاف بينه وبين تاجر، وهذا يعد خروجا على الاصل من انه لا يجوز للشخص ان يصطنع الدليل لنفسه ولم يرد في قانون الاثبات المصري نص مماثل الا انه لا يوجد ما يمنع من ان تكون دفاتر التجار حجة لهم استنادا للقانون التجاري المصري شريطة 1- ان يكون طرفا الخصومة تاجرين 2- ان يكون النزاع متعلقا بعمل تجاري 3- ان تكون دفاتر التاجر منتظمة.

الا ان بعض القوانين كالقانون العراقي لم تعترف للدفاتر التجارية باية قوة في الاثبات لصالح صاحبها ضد خصمه سواء اكانت منتظمة اوغير منتظمة وسواء كان الخصم تاجرا او غير تاجر .

ثانيا: حجيتها ضده:

فقد نصت المادة 22/1 من قانون البينات الفلسطيني على “تكون دفاتر التجارحجة عليهم منتظمة كانت او غير منتظمة” وهي تقابل المادة 17 من قانون الاثبات المصري.
تعتبر دفاتر التاجر المنتظمة حجة عليه في ذاتها أي انها لا تخضع لتقدير القاضي، وهنا يجب التفرقة بين ما اذا كان النزاع بين تاجر وتاجر وبين ما اذا كان بين تاجر وغير تاجر، فاذا كان النزاع بين تاجر وتاجر تعتبر دفاتر التاجر المنتظمة حجة عليه في جميع الاحوال، وهي تصلح لان تكون دليلا كاملا كافيا ليقيم عليه القاضي حكمه، اما في مواجهة خصمه التاجر فلا تكون لها حجية الا اذا كانت متطابقة مع دفاتره المنتظمة، او اذا كانت دفاتر هذا الاخير غير منتظمة، اما اذا كانت دفاتر الطرفين منتظمة ولكنها غير متطابقة تهاترت الحجتان، وهنا يكون للقاضي سلطة تقديرية في ان يرجح دفاتر احدهما، اما دفاتر التاجر غير المنتظمة فانها لا تصلح بذاتها لان تكون دليلا كاملا باي حال من الاحوال، وان كانت تصلح لان تكون قرينة قضائية، واذا كان النزاع بين تاجر وغير تاجر حيث يجوز للقاضي ان يعتبر دفاتر التاجر حجة عليه سواء كانت منتظمة او غير منتظمة، ولا يجوز تجزئة ما ورد فيها ان كانت منتظمة، واما البيانات المثبتة فيها لما ورده التاجر تصلح اساسا يجيز للقاضي ان يوجه اليمين المتممة الى أي من الطرفين .
الا ان الحجية لما ورد في دفاتر التجار سواء لهم او عليهم، هي حجية قابلة لاثبات العكس بكافة طرق الاثبات.

المبحث الثاني: موقف القاضي من الادلة الاخرى في الاثبات (غير المعدة مقدما)

المقصود بالادلة الاخرى هي تلك التي لم يعدها الخصوم مسبقا والتي تطرأ اثناء سير الدعوى، وهي تشمل شهادة الشهود والاقرار والاستجواب واليمين والقرائن.

المطلب الاول: موقف القاضي من شهادة الشهود

عرفتها مجلة الاكام العدلية في المادة 1684 بانها “الاخبار بلفظ الشهادة والاخبار أي القول الصادر عن علم حاصل بالمشاهدة وهو ما يفيد العلم والاطلاع على الموضوع الذي تنصب عليه، الا ان جانب من الفقه الاسلامي يذهب الى انه لم يرد في الكتاب او السنة او القياس ما يفيد اشتراط ان يكون الاداء بلفظ الشهادة، وانما اذا وجد لفظ يفيد تأكيد علم الشاهد بما يدلي به بلا شك او تردد فلا باس في استخدامه ، ويشترط في الشهادة 1- ان يكون الشاهد من الغير 2- ان يكون اهلا للشهادة 3- الا يكون الشاهد ممنوعا من الشهادةكان يكون المطلوب الاستماع لشهادته هو المدعي، وهو ما توجهت اليه الانظمة القانونية الحديثة وما كان مستقرا بموجب مجلة الاحكام العدلية 4- ان يكون الشاهد قد حصل على المعلومات التي يخبر عنها بحواسه وبالتالي لا تجوز الشهادة على السماع اوشيوع الخبر واما الوقائع المراد اثباتها بالشهادة فيجب ان تكون متعلقة بالدعوى وان تكون منتجة فيها وان يكون القانون يجيز اثبات هذه الوقائع بشهادة الشهود والا كان للقاضي ان يرفض الاثبات بشهادة الشهود .

على القاضي ان لا يقبل الاثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب اثباته بالكتابة اذا اعترض الخصم اذ لا يجوز الاثبات بالشهود فيما تجاوز قيمته مائتي دينار في غير المواد التجارية كما لا يجوز الاثبات بشهادة الشهود فيما يخالف او يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي، او اذا كان المطلوب هو جزء من حق لا يجوز اثباته الا بالكتابة او اذا طالب الخصوم بما تزيد قيمته عن مائتي دينار ثم عدلوا الى ما لا تزيد قيمته عن ذلك وان اعمال نص المادة 68 من قانون البينات ليس على اطلاقه، اذ ان اعمال هذه المادة يجري في حالة الديون والمسؤولية التعاقدية الشفوية والكتابية، اما المصاريف الناشئة عن مخالفة مدنية فلا يشملها حكم هذه المادة وفي ذلك تقول محكمة النقض الفلسطينية “لا مجال لاعمال نص المادة 68 من قانون البينات رقم 4 لسنة 2001 في اثبات المبلغ المقدر مصاريف للجنازة والقبر والعزاء لان اعمال هذه المادة يجري في حالة الديون والمسؤولية العقدية الشفوية والكتابية، اما هذه المصاريف فهي ناتجة عن مخالفة مدنية لا يمكن ان تنظم بشأنها سندات طبقا لما استقر عليه العرف والعادة .
وقد نص قانون البينات في المادة 71 على استثناءات تجيز الاثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب اثباته بالكتابة وهي:

1- اذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة كالكتابة الصادرة من الخصم دون توقيعه او الايصالات الموقعة بقبض الاجرة كمبدأ ثبوت بالكتابة تسمح اثبات الايجارة بالبينة 2- اذا وجد مانع ادبي او مادي كالازواج او بين الوالد وابنه 3- اذا فقد الدائن سنده لسبب لا يد له فيه 4- اذا طعن في العقد انه ممنوع بالقانون او مخالف للنظام العام 5- اذا طعن في العقد ان الظروف التي احاطت بتنظيمه قد شابها غش او تدليس او اكراه…الخ .
الا ان المشرع منح القاضي سلطة تقديرية تجاه الاثبات بالشهود، حيث نص بما يوحي الالزام في المادة 73 ان الاذن لاحد الخصوم بالاثبات بشهادة الشهود يقتضي دائما ان يكون للخصم الاخر الحق في نفيها بذات الطريق، وهو استثناء على الاصل الوارد في المادة 70 الا انه استثناء لا يجوز التوسع فيه او القياس عليه، كما واجاز القانون للقاضي ان يامر من تلقاء نفسه الاثبات بشهادة الشهود في الاحوال التي يجوز فيها الاثبات بالشهود متى وجد في ذلك فائدة للحقيقة، واستدعاء من يرى لزوما لسماع شهادته م (80)، كذلك منحه القانون سلطة في تغريم الشاهد اذا امتنع عن الحضور او امتنع عن الاجابة عن الاسئلة الموجهة اليه، واصدار مذكرة احضار اذا كان قد تبلغ اكثر من مرة ولم يحضر لاداء الشهادة.
وللقاضي سلطة واسعة في السماح بالاثبات بشهادة الشهود، فقد يكون في وقائع الدعوى ما يغني عن الشهادة في تكوين قناعته، وقد تكون الوقائع المراد اثباتها بالشهادة بعيدة الاحتمال ولا مجال لاقتناع القاضي بالشهادة في اثباتها، وبالتالي فان طلب الاثبات بالشهادة ليس طلبا ملزما للمحكمة، وانما يخضع لتقدير القاضي لا رقابة فيه لمحكمة النقض، كما وان له سلطة في تقدير قيمة الشهادة وكفايتها فله تقدير اقوال الشهود واستخلاص الواقع منها دون تقيد بعدد الشهود فقد يقتنع القاضي بشهادة شاهد واحد في مواجهة شاهدين او اكثر .
الا ان قاعدة عدم جواز الاثبات بشهادة الشهود في الاحوال التي يجب الاثبات فيها بالكتابة ليست من النظام العام، وليس للمحكمة التعرض لها من تلقاء نفسها وانما يجب على الخصم الذي له مصلحة ان يتمسك بها قبل البدء فيها، حتى يصار الى اعمالها .

المطلب الثاني: موقف القاضي من الاقرار والاستجواب

وهي من طرق الاثبات التي تطرأ بعد بدء الخصومة ولا تكون معدة مقدما، والارتباط القائم بين الاثنين يكمن في ان الاستجواب يكون في العادة للحصول على اقرار لذا ارتأيت دمجهما في مطلب واحد.

الفرع الاول: موقف القاضي من الاقرار

عرفت مجلة الاحكام العدلية الاقرار في المادة 1572 ” اخبار الانسان عن حق عليه لاخر ويقال لذلك مقر ولهذا مقر له وللحق مقر به” وقد جاء في المادة 115 من قانون البينات ان الاقرار هو اعتراف الخصم بواقعة او عمل قانوني مدعى باي منهما عليه، وبحسب المادة 116 من قانون البينات فان الاقرار اما ان يكون قضائيا او غير قضائي.

اولا: موقف القاضي من الاقرار القضائي

جاء في الفقرة الاولى من المادة 116 ان الاقرار يكون قضائيا اذا تم الاعتراف بالواقعة او العمل المدعى به امام القضاء اثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة او العمل، ومن هذا النص يتبين انه لا بد ان تتوافر شروط في الاقرار حتى يعتبر اقرارا قضائيا:

1- ان يكون الاقرار امام القاضي، فالاقرار خارج مجلس القضاء لا يعد اقرارا قضائيا، ويشمل ذلك كافة جهات القضاء المدني والشرعي والجزائي والاداري.
2- ان يصدرالاقرار من خصم خصم في الدعوى، فاذا صدر من غير خصم فهو بشهادة، ويشترط في الاقرار لكي يصدر عن وكيل ان يتم النص عليه على وجه الخصوص ولا يكفي في ذلك التوكيل العام.
3- ان ينصب الاقرار على واقعة او عمل قانوني معين مدعى باي منهما، فكل واقعة يمكن ان تكون محلا للاثبات يمكن ان تكون محلا للاقرار سواء اكانت تصرفا قانونيا او واقعة مادية.
4- ان يصدر الاقرار اثناء السير بالدعوى حتى وقت النطق بالحكم، اما الاقرار الصادر في دعوى اخرى فلا يعتد به الا باعتباره اقرار غير قضائي، والاقرار في الدعوى المستعجلة لا يعتبر اقرارا قضائيا في الدعوى المتفرع عنها وانما يعد اقرارا غير قضائي.

5- يجب ان يكون المقر مميزا اهلا للاقرار لان الاقرار تصرف قانوني، ويجب ان يكون تعبير المقر تعبيرا عن ارادة جدية لا يشوبها عيب من عيوب الرضا .
جاء في نص المادة 104 من قانون الاثبات المصري ان الاقرار حجة قاطعة على المقر، بينما جاء النص في قانون البينات الفلسطيني في المادة 117 الاقرار القضائي حجة على المقر ما لم يكذبه ظاهرا لحال، فهو حجة قاصرة على المقر ولا يتعدى الى غيره وان كان خلفه، الا انه يلاحظ ان القانون المصري اعتبر الاقرار بشكل عام حجة قاطعة بينما النص الفلسطيني اكتفى باعتباره حجة، ومرجع ذلك ان القانون المصري لم يفصل بنصوص تشريعية الاقرار القضائي والاقرار غير القضائي وانما اجمل احكامهما في نصوص عامة وترك للفقه التوسع في ذلك واحكام القضاء، بينما توسع القانون الفلسطيني في التعرض لاحكام الاقرار وفرق بين الاقرار القضائي وغير القضائي صراحة من خلال النصوص القانونية، اذ تقول محكمة النقض المصرية “الاقرار – قضائيا كان اوغير قضائي- يتضمن نزول المقر عن حقه في مطالبة خصمه باثبات ما يدعيه وهو بهذه المثابة ينطوي على تصرف قانوني من جانب واحد فيشترط لصحته ما يشترط لصحة سائر التصرفات القانونية”.

اعتقد ان القانون الفلسطيني عندما اعتبر الاقرار حجة دون ان يعتبر حجة قاطعة اراد من ذلك ان يترك للقاضي مجالا اوسع من التقدير بدليل اكمال النص بالقول ما لم يكذبه ظاهر الحال، ولا يصح القول بان الاقرار حجة قاطعة على المقر في ظل هذا النص دون تبيان الفارق بين نص يرد فيه بصراحة انه حجة قاطعة كالنص المصري ونص لا ترد فيه هذه الكلمة كالنص الفلسطيني، سيما وان للقاضي ان يطرح الاقراراذا كان ظاهر الحال يكذبه كان يقر شخص بالبنوة لشخص اكبر منه سنا، وللقاضي اهمال الاقرار اذا كانت الواقعة التي انصب عليها غير منتجة في الدعوى او كان المقر به غير مشروع او حقا لا يجوز النزول عنه او يمنع الاقرار به.

ثانيا: موقف القاضي من الاقرار غير القضائي

وكما عرفته المادة 116/2 من قانون البينات هو الاقرار الواقع في غير مجلس القضاء او بصدد نزاع اثير في دعوى اخرى، ولا يجوز اثباته بشهادة الشهود ما لم تسبقه قرائن قوية تدل على وقوعه.
واضح ان القانون الفلسطيني وعلى غير المعتاد في النصوص التشريعية قد اورد تعريفا للاقرار بنوعيه، ويعتبر الاقرار غير القضائي بمثابة التصرف القانوني فتتبع في شان اثباته القواعد العامة في الاثبات التي نصت عليها المواد 68-71 من قانون البينات، مع ملاحظة ما جاء في النص بالقول ولا يجوز اثباته بشهادة الشهود ما لم تسبقه قرائن قوية تدل علي دون ان يبين ما المقصود بالقرائن القوية، وهناك من يرى ان المقصود بها ووفق ما ذهبت اليه محكمة التمييز الاردنية بانها القرائن القضائية .

وقد اختلف الفقه في مدى حجية الاقرار غير القضائي، فهناك اتجاه يرى انه ليست له حجية ملزمة للقاضي، وله سلطة مطلقة في الاخذ به او طرحه بينما ذهب اتجاه اخر الى انه ليس للقاضي سوى ان يتحقق من ان ان الاقرار غير القضائي جديا وحقيقيا ومقصودا، فاذا تبين له ذلك كان له ذات الحجية في الاقرار القضائي واما الاتجاه الثالث فقد ذهب اللى المزج بين الاتجاهين والتفرقة بين نوعي الاقرار حيث اعطى للقاضي سلطة اوسع في الاخذ بالاقرار غير القضائي او عدم الاخذ به.

وعن موقف القضاء من ذلك تقول محكمة النقض المصرية “الاقرار غير القضائي خضوعه لتقدير قاضي الموضوع، جواز تجزئته او اعتباره دليلا كاملا او مبدأ ثبوت بالكتابة او مجرد قرينة، جواز عدم الاخذ به”

لقد نصت المادة 117 صراحة على حجية الاقرار القضائي، ولكنها لم تنص على مدى حجية الاقرار غير القضائي، وكما اسلفنا فانه ان كان للقاضي ان يطرح الاقرار القضائي اذا كان يخالف ظاهر الحال او انصب على واقعة غير منتجة في النزاع فان له من باب اولى هذه السلطة في الاقرار غير القضائي، وله في مجال الاقرار غير القضائي سلطة اوسع في الاخذ به او عدم الاخذ به مطلقا، دون رقابة محكمة النقض وفي ذلك تقول محكمة التمييز الاردنية “المحكمة في تقديرها لصحة الاقرار غيرالقضائي لا تخضع لرقابة محكمة التمييز” .

الفرع الثاني: موقف القاضي من استجواب الخصوم

عرفت محكمة النقض المصرية الاستجواب على انه “طريقة من طرق تحقيق الدعوى تستهدف به المحكمة تمكينها من تلمس الحقيقة الموصلة لاثبات الحق في الدعوى” ويؤخذ على هذا التعريف وكانه يقصر الاستجواب في كونه حق للمحكمة فقط بقوله تستهدف به المحكمة فهو قد يكون بناء على طلب احد الخصوم وقد يكون اكثر دقة القول يستهدف به المشرع .. او القول يهدف الى…
والاستجواب يمكن توجيهه من قبل المحكمة من تلقاء نفسها لاحد الخصوم او بطلب احد الخصوم استجواب خصمه الاخر، اذ تنص المادة 122 من قانون البينات على ان “للمحكمة ان تستجوب من يكون حاضرا من الخصوم اظهارا للحقيقة في الدعوى، ولكل منهم ان يطلب استجواب خصمه الحاضر” ولم يتضمن قانون البينات الملغى نصا مماثلا.
يتبين من النص المذكور انه يشترط في الاستجواب عدة شروط :

1- ان يوجه او يطلب اثناء السير في الدعوى وبالتالي فهو غير الجائز بعد اقفال باب المرافعة.
2- ان يوجه من المحكمة لاحد الخصوم او من احد الخصوم الى خصمه الاخر، فلا يجوز ان يوجه الاستجواب من مدعي الى مدعي اخر اومن مدعى عليه الى مدعى عليه اخر، او موجها للغير من خارج الخصومة .

3- ويشترط في الوقائع التي ينصب عليها الاستجواب ان تكون شخصية بالنسبة للخصم المطلوب استجوابه، وان تكون الواقعة التي يتناولها متعلقة بالدعوى ومنتجة فيها.
الا انه من غير الجائز الامر بالاستجواب في الحالات التالية:
1- اذا كان الغرض منه نفي حجية حكم لان هذه الحجية لايمكن نفيها باي دليل من ادلة الاثبات.
2- اذا كان الغرض منه المنازعة في وقائع تناولتها اليمين الحاسمة، او ورقة رسمية .
وللقاضي الرجوع عن الامر بالاستجواب اذا امر به من تلقاء نفسه، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية “استجواب الخصوم من اطلاقات محكمة الموضوع لها ان تعدل عن هذا الاجراء دون بيان اسباب العدول” .

الا انه وفي ظل المادة السادسة من قانون البينات الفلسطيني على القاضي ان يبين اسباب العدول ومن باب اولى اذا كان بناء على طلب احد الخصوم.
وحيث ان الهدف من الاستجواب هو استجلاء الحقيقة في الدعوى، والحصول على اقرار من الطرف المطلوب استجوابه فان الاستجواب اذا ادى الى تحقق ذلك فانه يأخذ حكم الاقرار القضائي وتكون له قوتة في الاثبات .

المطلب الثالث: موقف القاضي من اليمين والقرائن

اليمين والقرائن من طرق الاثبات غيرالعادية، وهي ايضا من ادلة الاثبات الغير معدة مقدما
الفرع الاول: موقف القاضي من اليمين في الاثبات
اليمين في الفقه الاسلامي هي الحلف بالله، وهي مشروعة لقوله عليه الصلاة والسلام البينة على من ادعى واليمين على من انكر وفي الاصطلاح القانوني هي اشهاد الله سبحانه على صدق ما يقوله الحالف او على صدق ما يقوله الخصم .

وقد نظم المشرع اليمين التي تحلف امام القضاء وهي نوعين يمين حاسمة ويمين متممة، وتلحق بالاولى يمين الاستيثاق ويمين عدم العلم وتلحق بالثانية يمين التقويم .

اولا: موقف القاضي من اليمين الحاسمة

نصت عليها المادة 131 من قانون البينات وهي التي يوجهها احد الخصوم الى خصمه في المسائل المتنازع عليها او في اية مسألة منها ليحسم بها نزاعا قائما.
يتضح من النص المذكور ان اليمين الحاسمة هي التي يوجهها احد الخصمين للاخر، فليس للمحكمة توجيهها لايهما، وانها قد تنصب على جميع المسائل المتنازع عليها او على على واقعة محددة، الا انه يشترط في الواقعة التي تنصب عليها اليمين ان لا تكون مخالفة للنظام العام او الاداب وان لا تنصب على واقعة قانونية، وان تكون الواقعة متعلقة بشخص من وجهت اليه، فاذا كانت غير شخصية انصبت على مجرد علمه بها كان يكون من يؤدي اليمين ممثل الشخص المعنوي، ويجب ان تكون الواقعة التي تنصب عليها اليمين متعلقة ومنتجة في الدعوى، ويشترط فيمن يحلف اليمين توافر اهلية التصرف في الحق الذي توجه بشانه اليمين، فلا يجوز للوكيل توجيهها الا بنص خاص.

ويجوز توجيه اليمين الحاسمة في اية حالة كانت عليها الدعوى وهذا يعني انه يجوز توجيهها حتى وان اقفل باب المرافعة، فيجوز لاحد الخصوم ان يطلب فتح باب المرافعة لهذا الغرض .
وللقاضي رقابة على الخصم في توجيه اليمين على الرغم من انها حق للخصوم فله سلطة التحقق من توافر شروطها، وله سلطة منعه من اساءة استعمالها، فله منع توجيهها اذا كان الخصم متعسفا في توجيهها كان يتضح ان القصد من توجيهها مجرد الكيد او تاخير الفصل في الدعوى، وهو ما لم يرد عليه نص في القانون الملغى، وله ان يمنع توجيهها اذا لم تكن متعلقة بشخص من وجهت اليه او انها ليست منتجة في الدعوى، ويجوز توجيه اليمين في جميع المواد المدنية سواء كانت مما يقبل الاثبات بشهادة الشهود او مما يجب اثباته بالكتابة، بل يجوز ان يكون موضوع اليمين امرا يخالف مما هو ثابت بدليل كتابي او يجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي، فيما عدا ما لا يجوز الطعن فيه الا بالتزوير وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية “اليمين الحاسمة ملك الخصم له ان يوجهها متى توافرت شروطها مهما كانت قيمة النزاع ولو كان اغرض منهااثبات ما يخالف عقدا مكتوبا ولو رسميا، الا فيما لا يجوز الطعن فيه من العقد الا بالتزوير، ومن ثم يكون متعينا على القاضي ان يجيب طلب توجيهها الا اذا بان له ان طالبها متعسف في طلبه” .

وللقاضي بعد ان يقترح طالب اليمين صيغتها ان يعدلها وذلك لازالة ما يعتريها من غموض وزيادة وضوحها دون ان يتناول مضمونها بالتعديل.
وقد تناول قانون البينات احكام رد اليمين وحلفها والنكول عن حلفها في المواد 134 138 وحتى 145 وللقاضي سلطة في رفض طلب الرد كما كما هو الحال في حالة توجيه اليمين، كان تكون الواقعة المطلوب الرد بشأنها غير مشتركة بين الخصوم او في حالة تعديل الخصم لصيغة اليمين، والنكول يعد بمثابة اقرار قضائي، فاذا نكل من وجهت اليه اليمين كسب من وجهها الدعوى .

ثانيا: دور القاضي في توجيه اليمين المتممة

تنص المادة 146/1 من قانون البينات على ان “اليمين المتممة هي التي توجهها المحكمة من تلقاء نفسها لاي من الخصمين لتبني على ذلك حكمها في موضوع الدعوى او قيمة ما تحكم به، وتنص الفقرة الثانية منها على انه يشترط لتوجيه هذه اليمين الا يكون في الدعوى دليل كامل، والا تكون الدعوى خالية من أي دليل”
ولم يتضمن قانون البينات تنظيما لاحكام اليمين المتممة كما هو الحال في قانون البينات الحالي، وهي مؤشر واضح على توجه المشرع والنظم القانونية الحديثة في منح القاضي سلطات ودورا اكبر في مجال الاثبات.

انه وان كان هناك من يرى فيها احد مظاهر الخروج على مبدأ حياد القاضي، الا انني ارى ان هذا القول مردود من عدة جوانب، فاليمين المتممة هي احد السبل لتكوين قناعة القاضي عن حقيقة الامر في الدعوى وهي احدى الوسائل التي يطمئن اليها في اصدار حكمة في موضوعها،ثم انه لا يلجأ اليها الا بعد تقدير جدواها، سيما في ظل الضمانات التي احاط ها القانون بتوجيهها .
يتبين من النص المذكر ان اليمين المتممة هي التي يوجهها القاضي من تلقاء نفسه ويشترط لتوجيهها:
1- ان لا يكون في الدعوى دليل كامل، أي ان لا تكون الدعوى ثابتة بدليل كامل كسند رسمي او عادي معد للاثبات، بينما يمكن توجيهها في حالة مبدأ الثبوت بالكتابة، أي في حالة الدليل الناقص الذي يمكن ان يصبح كاملا باليمين المتممة.

2- الا تكون الدعوى خالية تماما من أي دليل، فاليمين المتممة لا تقوم مقام الدليل وانما هي مكملة له، وبالتالي لايجوز توجيهها اذا كانت هي الدليل الوحيد في الدعوى وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية” اليمين المتممة اجراء يتخذه القاضي من تلقاء نفسه رغبة منه في تحري الحقيقة ليستكمل دليلا ناقصا في الدعوى .
وحيث ان اليمين المتممة من حق القاضي وحده، فهي اجراء من اجراءات الاثبات المكملة، وبالتالي ليس لمن وجهت اليه ان يردها على الخصم الاخر، كما ان حجيتها متروك امر تقديرها للقاضي، فقد يأخذ بها وقد يطرحها، عملا بالمادة السادسة من قانون البينات، واذا نكل الخصم عن حلفها فليس بالضرورة ان يحكم عليه بهذا النكول كما هو الحال في اليمين الحاسمة، وان كان يحكم ضده، وهي ليست حجة قاطعة في الدعوى، وبالتالي نقض دلالتها باثبات العكس، شأنها شأن أي دليل اخر في الدعوى .

الفرع الثاني: موقف القاضي من القرائن في الاثبات

القرائن وكما جاء في نص المادة 106 من قانون البينات، هي نتائج تستخلص بحكم القانون او تقدير القاضي، من واقعة ثابتة ومعروفة للاستدلال على واقعة غير معروفة وهي نوعان قرائن قانونية وقرائن قضائية، وتنص المادة 107 على ان القرينة القانونية هي التي ينص عليها القانون وهي تعفي من تقررت لمصلحته من اية طريقة من طرق الاثبات، على انه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي، ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك، فيما نصت المادة 108 على القرينة القضائية بانها التي لم ينص عليها القانون ويستنبطها القاضي من ظروف ووقائع الدعوى ومستنداتها بما له من سلطة تقديرية.

اولا: موقف القاضي من القرائن القانونية

وهي استنباط المشرع امر غير ثابت من امر ثابت، فهي من عمل المشرع وقد جاء في نص المادة 107 انه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك، وهذا يعني ان القرائن نوعين قاطعة وبسيطة.

القرينة القانونية القاطعة، ان القرائن القانونية من حيث الاصل تقبل اثبات العكس، الا ان المشرع في حالات خاصة يقرر وجود قرائن لا تقبل اثبات العكس، كمسؤولية حارس الحيوان ومسؤولية المستأجر عن الحريق، فهذه القرينة مقررة لصالح المتضرر فلا يستطيع الحارس نقض الدلالة المستفادة من هذه القرينة الا في حالة محددة وهي ان يثبت ان وقوع الضرر كان بسبب اجنبي لا يد له فيه، وهنا لا يجوز اثبات عكس هذا النوع من القرائن الا في حالة محددة بذاتها او وسيلة معينة بالذات الا انه لا يجوز ان تخرج القرائن عن طبيعتها باعتبارها من ادلة الاثبات، وبالتالي فانه يجوز اثبات عكس القرينة القانونية القاطعة بالاقرار واليمين فقط، أي باقرار او يمين من تقررت لمصلحته، الذي له دائما ان يتنازل عنها، الا ان القرينة القاطعة اذا تعلقت بالنظام العام فانه لا يجوز دحضها باي طريق كحجية الامر المضي به .
ويبدو ان الصيغة التي استخدمها المشرع في نص المادة 107 غير سليمة، اذ انها توحي بان القرينة القانونية تعفي من الاثبات كلية، وحقيقة ان على من يريد الاستناد الى هذه القرينة ان يثبت الواقعة التي تقوم عليها، ذلك ان الاثبات بالقرائن اثبات غير مباشر ينتقل فيه عبء الاثبات من الواقعة المتنازع عليها الى واقعة اخرى مرتبطة بها ، ومثالها القواعد الموضوعية التي تجعل سن التمييز سبع سنوات مثلا او سن البلوغ 13 سنه او تلك التي تجعل سن الرشد 18 سنة، فلا نستطيع ان نقول ان سن الرشد مثلا 15 عاما في ظل قانون يحدد سن الرشد بثمانية عشر عاما.

وهناك من يرى انه لا وجود لقرينة قانونية قاطعة تتعلق بالنظام العام وقرينة قانونية قاطعة لا تتعلق بالنظام العام، وانما هناك قاعدة موضوعية لا تقبل اثبات العكس كسن الرشد، وقرينة قانونية تقبل اثبات العكس، والمثال الواضح على ذلك حجية الامر المقضي فيه، والتي يسوقها الفقه على انها قرينة قانونية لا تقبل اثبات العكس لتعلقها بالنظام العام، والحقيقة كما يقول هذا الاتجاه ان هذه قاعدة موضوعية وليست قرينة قانونية والحقيقة ان هذه الوجهة من النظر مقنعة، ذلك ان حجية الامر المقضي فيه ورد النص عليها صراحة في القانون الفلسطيني وفي اغلب القوانين، وليس هناك محل لتسميتها بالقرينة، الا لمجرد اعتياد القه اعتبارها كذلك، سيما وان ما لا يجوز دحضه بالاقرار او اليمين هو من القواعد الموضوعية وليس من القرائن القانونية، كما يقول الدكتور السنهوري .
اما القرينة القانونية البسيطة، وهي التي قررها المشرع قاصدا بها اعفاء من تقررت لمصلحته من اثبات الواقعة المدعى بها ان هو استطاع اثبات الواقعة الاخرى البديلة التي قامت بقيامها القرينة، والاصل هو جواز اثبات عكس هذا النوع من القرائن بكافة طرق الاثبات، الا ان هناك رأي يذهب الى ان اثبات عكس القرينة القانونية البسيطة يجب التقيد فيه بقواعد الاثبات فاذا كانت القرينة قد استخدمت في اثبات تصرف قانوني تزيد قيمته عن الحد المسموح الاثبات فيه بالبينة فلا يجوز اثبات عكسها الا بالكتابة او الاقرار او اليمين فهي التي يجوز نقضها بالدليل العكسي ومن امثلتها اعتبار التاشير على سند بما يفيد براءة ذمة المدين لم يخرج من حيازة الدائن قرينة على هذه البراءة ، وكذلك قاعدة الحيازة في المنقول سند الملكية، فهي مجرد قرينة بسيطة يجوز اثبات عكسها .
ومتى اكتملت شروط القرينة القانونية قاطعة كانت او غير قاطعة وتم اثبات الواقعة البديلة، ولم يفلح من قامت القرينة في مواجهته من اثبات عكسها، كان للقرينة حجيتها الملزمة للقاضي والخصوم، وليس للقاضي سلطة تقديرية في مدى مطابقتها للحقيقة متى تمسك بها من تقررت لمصلحته .

ثانيا: دور القاضي في استنباط القرينة القضائية
وتسمى القرائن الموضوعية، كونها تلك التي يستنبطها القاضي من موضوع الدعوى وظروفها، وسميت بالقضائية لانها من استنباط القاضي، والقرائن القضائية تقوم على عنصرين احدهما مادي مستمد من وقائع الدعوى، فله ان يستخلصها من مناقشات الخصوم او من اقوال الشهود او من تقرير الخبير، او امتناع الخصم عن الحضور للاستجواب او اليمين او امتناعه عن تنفيذ ما امرت به المحكمة من اجراءات الاثبات ، كان تكلفه باتخاذ الاجراءات اللازمة للفصل في مسألة اولية خارجة عن اختصاصها، يتوقف عليها الفصل في موضوع الدعوى، فيهمل ولا يقوم بذلك، وهي لا حصر لها.
واما العنصر الثاني وهو استنباط الواقعة المراد اثباتها من الواقعة الثابتة، فيتخذ من الواقعة المعلومة قرينة على الواقعة المجهولة.
وللقاضي سلطة واسعة في استنباطها، ولا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك ما دام ان القرينة التي اعتبرها دليلا على ثبوت الواقعة تؤدي عقلا الى ثبوتها، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية “تقدير القرائن القضائية مما يستقل به قاضي الموضوع ولا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك متى كان الاستخلاص سائغا” .
وللقرائن القضائية خصائص ثلاث 1- ان دلالتها غير قاطعة فما يستنبط عن طريقها يسمح للخصم دائما دحضه بكافة وسائل الاثبات 2- ان ما يثبت بها يعتبر ان له حجية متعدية أي انه يعتبر ثابتا بالنسبة للكافة لان اساسها وقائع مادية ثابتة يتحقق منها القاضي ويبني عليها استنباطه 3- ان المشرع اعتبرها من الادلة المقيدة أي التي لا يجوز الاثبات بها في جميع الاحوال، حيث قدر احتمال وقوع القاضي في الخطأ، فحد من احتمال ذلك بقصر الاثبات بالقرائن على الاحوال التي يجوز فيها الاثبات بشهادة الشهود .

الخاتمة

لقد جاء قانون البينات رقم 4 لسنة 2001 ناسخا لكثير من السلبيات التي كانت تعتري ما اعتاد عليه المحامون والقضاة في فلسطين، مما اثار الارتباك والتخبط في بدايات تطبيقه وصدوره، وكان من الصعب على المشتغلين بالقانون في فلسطين تجاوز ما اعتادوا عليه من ممارسات في ظل القانون القديم والذي كان في جل احكامه، يلعب دورا في سلبية القاضي ووقوفه من مسألة الاثبات موقف المتفرج، حيث كانت القاعدة الراسخة في الاذهان ان البينات من حق الخصوم، الى ان جاء قانون البينات الحالي ونسف معظم السلبيات في نصوص، وان اخذت وقتا لتفعيلها الا انها بدأت تجد طريقها في الممارسة والواقع العملي، وان كان هناك من يزال حبيس ممارسات ساعد في تجسيدها توجه المشرع في القانون الملغى كما غيره من الانظمة القانونية.
الا ان المتتبع لواقع المحاكم الفلسطينية يجد ان هناك تحولا ملحوظا في السنوات الاخيره في تفهم السلطة الممنوحة للقاضي والدور الايجابي الذي اولاه اياه المشرع في عملية الاثبات، وان الامر لا زال بحاجة الى المزيد من التفهم لهذا الدور من قبل القضاة انفسهم، ومن كافة المشتغلين بالقانون.
لقد ساير قانون البينات الفلسطيني الانظمة القانونية الحديثة في منح القاضي دورا ايجابيا، وكان ذلك في كافة انواع الادلة وان كان هذا الدور يتسع احيانا كما هو الحال في شهادة الشهود او في توجيه اليمين المتممة او في الاستجواب، او يقيد في احيان اخرى كما هو الحال في السندات الرسمية.
ان من الواجب على القضاة في ظل احكام قانون البينات ان يطلعوا بالسلطات الممنوحة لهم في كل دليل يطرح امامهم او خولهم المشرع اتخاذه من تلقاء انفسهم، مستندين في ذلك الى ما اولي لهم في سبيل قطع دابر المماطلة، وتعجيل السير في الدعوى نحو الفصل فيها، فالعدالة المتاخرة هي الظلم بعينه.

قائمة المراجع

احمد سعد، مفهوم السلطة التقديرية للقاضي المدني، دار النهضة العربية، القاهرة، 1988، ص20.
ادم النداوي، شرح قانون البينات والاجراء، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص16.
داود الدرعاوي، موقف القاضي من الادلة الملزمة في الاثبات “دراسة مقارنة” جامعة القدس، 2005، ص22.
سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني، المنشورات الحقوقية صادر، بيروت، 1988، ص497.
عباس العبودي، شرح قانون الاثبات المدني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص123.
عثمان التكروري، الكافي في شرح قانون اصول المحاكمات المدنية والتجارية، (د.ن)، 2009، ص360.
عز الدين الديناصوري وحامد عكاز، التعليق على قانون الاثبات، (د.ن)، القاهرة، 1996، ص51.
محمود هاشم، القضاء ونظام الاثبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1988، ص196.
ناظم عويضة،احكام محكمة النقض “دراسة وتعليق”، مكتبة دار المنارة، غزة، 2005، ص15.
وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني “النظرية العامة للالتزام”، (د.ن)، دمشق، 1976، ص206.
علي حيدر، شرح مجلة الاحكام العدلية