رقابة الهيئات المستقلة

من الوسائل الجديدة التي اعتمدتها بعض الدول للرقابة على أعمال الإدارة، استحداث هيئات مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لتمارس وظيفة الرقابة على تصـرفات الإدارة والبحث في مدى موافقتها للقانون . ونبحث فيما يأتي نماذج من هذه الهيئات التي اعتمدتها بعض الدول ([1]).

المطلب الأول: نظام الامبودسمان Ombouds man أو المفوض البرلماني

والامبودسمان كلمة سويدية يراد بها المفوض أو الممثل . وهو شخص مكلف من البرلمان بمراقبة الإدارة والحكومة وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم ([2]).

وقد استحدثت السويد هذا النظام في دستورها لعام 1809 ليكون وسيلة لتحقيق التوازن بين سلطة البرلمان والسلطة التنفيذية وللحد من تعسف الأخيرة في استخدامها لامتيازاتها في مواجهة الأفراد .

وقد تطور هذا النظام حتى بات يطلق عليه اسم “حامي المواطن” فهو الشخـص الذي يلجأ إليه المواطن طالباً حمايته وتدخله إذ ما صادفته مشاكل أو صعوبات مع الحكومة أو الجهات الإدارية.([3])

وللمفوض البرلماني الحق في التدخل من تلقاء نفسه أو بناءً على شكوى يتلقاها من الأفراد أو بأي وسيلة أخرى يعلم من خلالها بوقوع مخالفة فيعمل على توجيه الإدارة إلي وجوب اتباع أسلوب معين في عملها لتتدارك أخطائها، وله استجواب أي موظف في هذا الشأن وله إقامة الدعوى على الموظفين المقصرين في أداء واجباتهم ومطالبتهم بالتعويـض لمن لحقه ضرر من جراء التصرف غير المشروع.([4])

هذا ويقدم الامبودسمان تقريراً سنوياً إلي البرلمان يتضمن ما قام به من أعمال خلال تلك السنة.

وبالنظر للنجاح الكبير لهذا النظام فقد أخذت العديد من الدول بأنظمة مشابهة له كما حصل في فنلندا التي أخذت به عام 1919 ثم الدانمارك بمقتضى دستورها لعام 1953 وتم انتخاب أول امبودسمان فيها عام 1955 كذلك أخذت به نيوزلندا والنرويج عام 1962 والمملكة المتحدة وكندا عام 1967.

المطلب الثاني : الوسيط الفرنسي Le mediateur

أخذت فرنسا بنظام مشابه لنظام الامبودسمان واسمته ” الوسيط” لأنه يتوسط البرلمان والحكومة أو لأنه وسطاً بين الرقابة البرلمانية والقضائية ([5]).

وبموجب القانون رقم “6” في 3/1/1973 يعين الوسيط لمدة ستة سنوات غير قابلة للتجديد من رئيس الجمهورية بمرسوم جمهوري ولا يمكن عزله خلال هذه المدة أو إنهاء ممارسة أعمال وظيفته. إلا عندما يتعذر عليه القيام بواجباته الوظيفية ويترك أمر تقرير ذلك إلي لجنة مكونة من نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس محكمة النقض ورئيس ديوان الرقابة المالية، ويتخذ القرار بالإجماع.([6])

ويتمتع الوسيط باستقلال تام فلا يتلقى أية تعليمات من أية سلطة ولا يمكن إلقاء القبض عليه أو ملاحقته أو توقيفه أو حجزه بسبب أعمال وظيفته أو الآراء التي يدلي بها ويلتزم الوسيط بان يقدم تقريراً سنوياً مفصلاً عن نشاطه في السنة السابقة إلي رئيس الجمهورية والبرلمان ([7]).

ويملك الوسيط حق توجيه الإدارة إلي ما هو كفيل بتحقيق أهدافها، وتسهيل حل الموضوعات محل للنزاع وتوجيه الإدارة إلي اتباع أسلوب معين في العمل ويحدد الوسـيط مدة معينة تجيب الإدارة على هذا التوجيه فإذا امتنعت عن الإجابة أو رفضت الرأي المقترح برفع الوسيط تقريراً بذلك إلي رئيس الجمهورية

هذا وقد أوجب القانون الفرنسي على المواطنين الإجابة على أسئلة واستفسارات الوسيط وله في ذلك أن يطلب من الوزراء تسليم المستندات والملفات التي تخـص الموضوعات التي بحثها ولا يجوز له الامتناع عن ذلك وان كانت الملفات سريه إلا إذا تعلق الأمر بالدفاع الوطني أو المصالح السياسية العليا ([8]).

ويخرج عن اختصاص الوسيط وفق نص المادة “8” من قانون سنة 1973 الرقابة على أعمال الإدارة فيما يتعلق بالمنازعات ذات الطابع الوظيفي بسبب إناطة الفصل بها إلي مجلس الدولة، وحسبه كفيلاً بتوفير الحماية اللازمة للموظفين .

وللأهمية التي يتمتع بها هذا النظام نجد انه كان قد تلقى في عام 1974 حـوالي 1659 شكوى بينما وصل عدد الشكاوى التي تلقاها عام 1991 إلي ما يقارب من 3000 شكوى بحسب آخر الإحصاءات ([9]).

المطلب الثالث: هيئة الادعاء العام السوفيتي

أنشأ الاتحاد السوفيتي السابق نظام هيئة الادعاء العام سنة 1922 وقد افرد له دستور عام 1936 خمس مواد لتحديد اختصاصاته ومن اختصاصاته الإشراف على تنفيذ الأنظمة والقوانين ومراقبة تقيد الإدارة بها وشرعية إجراءاتها في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم .

ويمكن أن يباشر وظيفته تلك بمراقبة الإدارة تلقائياً أو بناء على تظلم يقدم إليه، ويعمل على تصحيح الأعمال والقرارات غير الشرعية الصادرة عن الإدارة ([10]). ويقتصر عمل المدعي العام على التأكد من مطابقة العمل الإداري للقانون دون البحث في ملائمة الإجراء الإداري أو كفايته، على عكس الأسلوب الذي اتبعه الامبودسمان السويدي والوسيط الفرنسي حيث يبحثان في ملائمة التصرف الإداري بالإضافة إلي مشروعيته ([11]).

ويعد هذا النظام مساعداً للقضاء في الرقابة على أعمال الإدارة وحامياً لا يحرمها في مواجهتها، مما حمل المشرع الروسي على الإبقاء عليه بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على الرغم ما يكتنف عمله في بعض الأحيان من عدم التزام الإدارة بآرائه وعدم قدرته على تغيير مسلكها إذا ما أصرت على رأيها .

المطلب الرابع : تقدير رقابة الهيئات المستقلة

تتمتع هذه النظم بخصائص تميزها عن سائر وسائل الرقابة، فهي على عكس الرقابة القضائية لا تتطلب أي رسوم أو مصاريف، كما تتمتع بصفة السرعة التي تفتقر إليها الرقابة القضائية .

بالإضافة إلي عدم أشترطها أية شكلية في تقديم الشكاوى كذلك لا يشترط في الشكاوى توفر المصلحة لمقدمها على نقيض النزاع القضائي . ولو أن بعض النظم ذهب إلي اشتراط ذلك بعد ازدياد عدد الشكاوى المقدمة إليها .

وغالباً ما تراقب هذه الهيئات موضوع ملائمة قرارات الإدارة في مواجهة الأفراد وتستمد سلطتها تلك من مبادئ العدالة والقيم العليا في المجتمع وروح القانون . فضلاً عن إسهامها في اقتراح وتعديل التشريعات وفق ما يلائم التطبيق السليم لها بما يحقق الحفاظ على حقوق وحريات المواطنين.

ومما يؤخذ على هذه الهيئات أنها ليست ملزمة باتخاذ إجراء معين في الشكوى المقدمة إليها من جهة ولا تتمتع بسلطة إصدار قرارات ملزمة للإدارة من جهة أخرى فهو يوجهها إلي اتباع أسلوب معين في تعاملها مع الأفراد ومن خلال ذلك يطلب تعديل أو إلغاء أو تبديل قراراتها، فسلطته أدبية في هذا الشأن ([12]).

ويبدو ان المشرع الدستوري العراقي قد اخذ لاول مرة بهذا الاسلوب من الرقابة فقد ورد في نص المادة (102) منه ((تعد المفوضية العليا لحقوق الانسان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة هيئات مستقلة، تخضع لرقابة مجلس النواب، وتنظم اعمالها بقانون )).

و لا يسعنا إلا ان نرجو ان تعوض هذه الهيئات في اختصاصها الاستثناءات الخطيرة التي شابت ولاية القضاء على اعمال الادارة والعيوب الكثيرة التي اكتنفت الرقابة البرلمانية اذ ان الانسان العراقي بحاجة الى المزيد من الحماية وان في استحداث المفوضية العليا لحقوق الانسان الى جانب هيئة النزاهة الضمانة الاكيدة لتوفير ذلك.

[1]- د. مازن ليلو راضي، نظام الامبودسمان أو المفوض البرلماني ضمانه لحقوق الافراد وحرياتهم، مجلة القادسية – جامعة القادسية – المجلد 3 – العدد 2، 1999، العراق، ص249 .

[2]- د. حمدي عبد المنعم، نظام الامبودسمان، مجلة العدالة – ابو ظبي، العدد 23، ص61 .

[3]- د. ليلى تكلا، الامبودسمان، مكتبة الانجلو المصرية، 1991، ص1.

[4]- د. محمد انس قاسم، نظام الامبودسمان السويدي مقارناً بناظر المظالم والمحتسب في الاسلام – مجلة العلوم الادارية – القاهرة، عدد 1 لسنة 1975، ص77 .

[5]-د. محمد انس قاسم، المصدر السابق، ص77 .

[6] – استاذنا الدكتور علي محمد بدير – الوسيط في النظام القانوني الفرنسي لحماية الأفراد مجلة العلوم القانونية، كلية القانون – جامعة بغداد، المجلد 11 ع2، 1996، ص86 .

[7] -د. عبد القادر باينه، المصدر السابق، ص44 .

[8]- د . علي محمد بدير، المصدر السابق، ص96 .

[9]- د. مازن ليلو، المصدر السابق، ص251

[10]- د. عبد القادر باينه، المصدر السابق، ص43 .

[11]- د. حاتم علي لبيب، نظام المفوض البرلماني في اوربا، مجلة مصر المعاصرة 1971، ص9 .

[12]- من النظم المشابهة التي اهتمت بالحفاظ على حقوق الافراد وحرياتهم في التاريخ لاسلامي (نظام الحسبه) القائم على مبدأين هما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد يمارس هذا النظام المسلم بنفسه كما يملك ولي الامر ان يعين من يتولاه انطلاقاً من قوله تعالى “ ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” الآيه 104 آل عمران . الا ان ولاية المحتسب تختلف عن النظم السابقة في ان المحتسب لا يفصل الا في الامور الظاهرة من غير ادلة فلا يمارس حق الاستجواب أو سماع الشهود . للمزيد ينظر :. د. سعيد عبد المنعم الحكيم، الرقابة على اعمال الادارة في الشريعة الاسلامية والنظم الوضعيى ص71 . و ابي الحسن الماوردي : الاحكام السلطانية، الطبعة الثانية 1966 .

اعادة نشر بواسطة محاماة نت