ذهب بعض الفقهاء(1) الفرنسيين إلى القول أن الأعمال العقلية (الأدبية والفنية والعلمية) لا يمكن أن تكون محلا للتعاقد ، وأن ما يربط أصحاب هذه الأعمال مع زبائنهم لا يمكن عده عقداً لأن العمل اليدوي لا يمكن وضعه على قدم المساواة مع العمل العقلي وحتى لا ينحط العلم فيكون وسيلة للتجارة. واستنادا إلى هذا الرأي فإن الوكالة بالخصومة لا يمكن عدها عقداً، لأن أعمال الوكيل بالخصومة هي أعمال عقلية قوامها ما يمتلكه الوكيل بالخصومة من ثقافة قانونية ودراية علمية كاملة بإجراءات التقاضي. إن أنصار هذا الرأي يعدون الوكيل بالخصومة ملزما تجاه موكله على سبيل المجاملة لا على سبيل الإلزام(2) وأنه في حالة تقصير الوكيل بالخصومة بواجباته تجاه الموكل فإن الأخير يستطيع الاستناد إلى أحكام المسؤولية التقصيرية وقواعدها لإقامة دعوى المطالبة بالتعويض دون أن يستند إلى أي عقد(3).

ويبرر أصحاب هذا الرأي(4) تلقي الوكيل بالخصومة الأتعاب من الموكل بالقول أن الموكل يدفع الأتعاب إلى الوكيل اعترافا بفضله وجميله وهي هدية للوكيل بالخصومة مقابلا للجهود التي يبذلها في خدمة الموكل. إن هذا الرأي -نجد جذوره في تقاليد القانون الروماني الذي كان يعد الأعمال اليدوية أعمالا وضيعة لا يقوم بها الا الأرقاء ، أما الأعمال العقلية فهي أعمال محترمة لا يمارسها إلا الأحرار- ، تعرض للنقد ، فلم يعد هناك أرقاء وأحرار ، واندثرت القيم والمفاهيم البالية التي تدعم هذا التقسيم ، وحلت محلها قيم ومفاهيم تقدمية جديدة ، وأن التمييز بين الأعمال العقلية والأعمال اليدوية منتقد لأن للعقل دوراً في جميع الأعمال وإن كان دوره ضئيلاً بالنسبة إلى الأعمال اليدوية، إلا أن هذا لا يؤدي إلى الحط من الأعمال اليدوية(5) ،

كما أن القول بأن الأعمال العقلية لا تكون محلا للتعاقد لا يجد له سنداً من القانون(6)، بل أصبح الآن من المسلم به أن التعاقد مع صاحب المهنة الحرة تعاقد ملزم للطرفين(7)، فالقوانين المقارنة تعطي للمحامي-وهو صاحب مهنة وأبرز وكلاء الخصومة-(8) الحق بالمطالبة بالأتعاب وفقا للعقد المبرم بينه وبين موكله ، وفي هذا دلالة واضحة وصريحة على إسناد الوكالة بالخصومة إلى رابطة عقدية. أما عن موقف القضاء إزاء هذا الرأي ، فإن هناك العديد من القرارات القضائية التي تؤكد على وجود رابطة عقدية بين الموكل والوكيل بالخصومة ، فقد قضت محكمة تمييز العراق بـ(9) (إن استحصال المحامي لقرار حكم مكتسب درجة البتات ملزم لموكله بدفع كامل الأجور المتفق عليها وعليه فإن دعوى المدعي – المميز–بطلب منع معارضة المدعى عليه له بالمبلغ موضوع الكمبيال المنفذ لدى دائرة التنفيذ لا سند لها من القانون

وقضت محكمة التمييز الأردنية بأن(10) (إن توكيل محاميين بعقد واحد يجعل من حق أي من الوكيلين أن يقدم التمييز وحده عملا بالفقرة الثانية من المادة 842 من القانون المدني …….) ، كما قضت محكمة النقض المصرية بأن(11) (للمحامي والموكل طريقان لطلب تقدير الأتعاب عند عدم وجود اتفاق كتابي هما اللجوء إلى القضاء أو إلى مجلس النقابة ……..)، وقضت محكمة النقض الفرنسية بأن (الأعمال الداخلة في نطاق المهن الحرة يصح أن تكون محلا للتعاقد ويلزم الجانب المستفيد منها بدفع المقابل)(12). مما تقدم نخلص إلى القول أن هذا الرأي الذي كان سائدا في حقبة من الزمن الماضي لايصح الاعتماد عليه في التكييف القانوني للوكالة بالخصومة ، إذ أن الذي يحكم أساس التعامل مع أصحاب المهن ومنهم الوكلاء بالخصومة العقد المنعقد بينهما والذي تستمد أحكامه من طبيعة المهنة وأعرافها، فلا يصح إنكار الصفة العقدية على الوكالة بالخصومة.

______________________

-Rebert Foose، Laresposabilite Civil Des Avocates ، Universite De Montpellier، These، 1986، P.36; Guilloard Traite Du Contract De Louage ، 1882 ، t.2، N696، P.217 .

2-جان ابلتون ، محيط المحاماة علما وعملا ، ترجمة محمود عاصم ، دار مجلة دنيا القانون ، القاهرة ، 1964 ، ص193 .

3- د. حسن محمد علوب ، استعانة المتهم بمحام في القانون المقارن ، دار النشر للجامعات المصرية ، القاهرة، 1970 ، ص83.

4- V. J. Homline et A. Damien، Les regles de Laprofession davocat’ed ، Dalloz ، 7’ed، 1992 ، N296 ، P.478 .

5- محمد جابر الدوري، مسؤولية المقاول والمهندس في مقاولات البناء والمنشآت الثابتة بعد إنجاز العمل وتسليمه، رسالة ماجستير مقدمة إلى مجلس كلية القانون والسياسة، جامعة بغداد ، 1975، ص27.

6- عبد الباقي محمود سوادي، مسؤولية المحامي المدنية عن أخطائه المهنية، ط1، دار الحرية للطباعة، بغداد ، 1979 ، ص128 .

7- د. عبد الرزاق السنهوري ، الوسيط ، ج7 ، مصدر سابق ، ص17.

8- لاحظ الفقرة اولا من المادة (56) من قانون المحاماة العراقي والفقرة اولا من المادة (46) من قانون نقابة المحامين النظاميين الأردني والفقرة ثالثا من المادة (82) من قانون المحاماة المصري.

9- رقم القرار (2450 /م1 /1997) في 25/3/1997، منشور في مجلة القضاء، تصدر عن نقابة المحامين في جمهورية العراق ، الاعداد 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، السنة الثانية والخمسون، بغداد، 1997، ص63 –64.

0- رقم القرار (409 / 95) ، مشار اليه عند المحامي جمال مدغمش ، مجموعة اجتهادات الهيئة العامة لمحكمة التمييز الأردنية في القضايا الحقوقية، دار المكتبة الوطنية ، عمان، 1996 ، الفقرة 396 .

1- رقم الطعن (399) لسنة 1965 ، مشار اليه عند معوض عبد التواب ، شرح قانون المحاماة الجديد رقم 17 لسنة 1982 ، منشأة المعارف ، الإسكندرية، 1983 ، ص106.

2- القرار مشار اليه عند:

Ph.Le Tournean ، Laresponsabilite Civil ، ‘ed Dalloz ، 3 ‘ed ، 1982 ، P.331.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .