تبدو فكرة عالمية حقوق الإنسان بارزة في خطاب السياسة العالمية في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين.

وعلى الرغم من أن الفكرة ذاتها ليست جديدة، فإن الصدمة الأخلاقية الناتجة عن فظائع النازية

والستالينية دفع بفكرة وقضية حقوق الإنسان في مقدمة الأفكار والقضايا التي هيمنت على التفكير السياسي والاجتماعي، فلقد بدأ الناس يتساءلون ويتشككون بالافتراضات السابقة حول طبيعة السيادة وحق الدول في معاملة مواطنيها كيفما تشاء.

فعلى سبيل المثال رفضت المحكمة. خلال محاكمات نورمبرج لجرائم الحرب، دفاع المتهمين عن أنفسهم بأن تصرفاتهم وأفعالهم كانت مشروعة وفقا للقوانين الشرعية لألمانيا النازية.

نتيجة لذلك، فإن الخطاب السياسي بعد الحرب العالمية الثانية أكد أن حقوق الإنسان تمثل اهتماما مشروعا للمجتمع الدولي بأسره، وليس حكرا حصريا على الحكومات الوطنية. ولقد أقر ميثاق الأمم المتحدة بهذا التحول المهم في مبادئ العلاقات الدولية من خلال وضع قضية حماية حقوق الإنسان في مركز نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد أن أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، اعتقد الكثيرون أن التحقيق العملي والفعلي لهذه الفكرة أصبح مسألة وقت لا غير. مع ذلك، وفي الوقت الذي حققت فيه فكرة عالمية حقوق الإنسان مكاناً مرموقا في خطاب السياسة الدولية، فإنها لم تتحقق في أرض الواقع بنفس الدرجة والانتشار، حيث يبدو أن الإدراك المتزايد بحقوق الإنسان لم يلمس بعد المبادئ التقليدية للمجتمع الدولي.

فعلى المستويين الوطني والدولي، ما تزال الدولة هي السلطة الأعلى لوضع وتنفيذ القواعد والمعايير، وما تزال تعمل بصورة جماعية ضمن مجتمع الدول لمقاومة محاولات الجماعات الأعلى أو الأدنى من الدولة بانتزاع هذه الحقوق والاختصاصات. بالتالي، فإن المبدأ الأساسي للعلاقات الدولية هو السيادة والتي تتضمن الاختصاص المحلي واستقلالية القرار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. لذلك، فإن المبادئ العالمية، مثل حقوق الإنسان، تمثل تحديا للأفكار التقليدية للمدرسة الواقعية حول العلاقات الدولية. ومن خلال مناشدتها لسلطة أعلى من الدولة، فإن فكرة عالمية حقوق الإنسان تهدد مبدأ السيادة وبالتالي تهدد أعضاء المجتمع الدولي، أي الدول.

إن التوترات بين دعاوى العولمة ودعاوى السيادة ما تزال تمثل حاجزا مهما أمام تحويل فكرة عالمية حقوق الإنسان إلى حقيقة واقعة. مع ذلك، ومع انتهاء الحرب الباردة وتسارع عمليات العولمة وهيمنة وانتشار الديمقراطية الليبرالية، اقترح بعض المفكرين والممارسين السياسيين أن احتمالات حماية حقوق الإنسان لم تكن في حالة أفضل مما عليه الآن. وأصبح الكثيرون يعتبرون أن الديمقراطية وحقوق الإنسان وجهان لعملة واحدة. مع ذلك، فإنه يجب التعامل مع هذه التأكيدات بشيء من الحذر لسببين:

يتعلق الأول بالتساؤل حول ما إذا كانت الديمقراطية الوطنية شرطا كافيا لضمان حماية حقوق الإنسان. ففي الوقت الذي تشتمل فيه جميع نظريات الديمقراطية على الاهتمام بالحقوق، فإن هذه الحقوق لا تشمل بالضرورة جميع الجماعات أو الأفراد. فعلى سبيل المثال، فإن ديمقراطية أثينا منحت حقوقا لجميع البالغين من الذكور المولودين في أثينا ولكنها استبعدت النساء والعبيد من المشاركة السياسية. في الواقع، فإن أية محاولة لشرعنة مجموعة من حقوق الإنسان العالمية قد تعتبر تهديدا لحق أي مجتمع ديمقراطي لأن يقرر نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الخاص به.

ويتعلق السبب الثاني بأنه حتى وإن كان من الممكن الاعتماد على الديمقراطيات الوطنية ذاتها لتحقيق حقوق الإنسان، فإن الدول تعيش الآن في عالم مُعولم. وتتمثل أحد المضامين والنتائج المهمة للعولمة في أنه لم يعد من الممكن فهم قضايا التنمية والأمن والبيئة وحقوق الإنسان باعتبارها قضايا ومشاكل وطنية محض. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من غير المتوقع أن توفر مؤسسات الديمقراطية الوطنية بمفردها إطاراً شعبيا للمشاركة في البحث عن حلول لهذه القضايا والمشاكل. فإذا كنا جادين فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان، فإنه لن يكون كافيا تعزيز مؤسسات وممارسات الديمقراطية على المستوى الوطني. ففي الوقت الذي ينبغي فيه تدعيم الديمقراطية عن طريق تقوية المؤسسات الوطنية وضمان أن الجماعات المحرومة والمهمشة والمنسية تستطيع أن تمارس حقها في المشاركة، فإن ذلك لن يحقق إلا القليل ما لم تتم دمقرطة النظام والمجتمع العالمي ذاته.

المنظمات غير الحكومية وحقوق الإنسان
يبدو الربط بين المنظومات الرسمية لحقوق الإنسان ودعوات ومطالب حقوق الإنسان أكثر وضوحا في أنشطة المنظمات غير الحكومية فالعدد المتزايد من المنظمات غير الحكومية المهتمة بحقوق الإنسان يوحي بنمو مجتمع مدني عالمي وباحتمالات نظام عالمي أكثر ديمقراطية. بعبارة أخرى، فإن فكرة عالمية حقوق الإنسان تؤكد على القواسم المشتركة بين جميع شعوب العالم، وتساعد على تعزيز الارتباطات عبر القومية التي تسعى للتعبير عن هذه الحقوق ضمن مؤسسات ومنظمات تتجاوز حدود الدولة الوطنية. وفي الوقت الذي تبرز فيه المنظومات الرسمية لحقوق الإنسان آليات تطبيق ضعيفة جدا، فإن عولمة شبكة معقدة من الاتصالات ساعدت المنظمات غير الحكومية على ممارسة قوة الإحراج، أي إحراج الدول التي تنتهك حقوق الإنسان عن طريق رصد هذه الانتهاكات ونشرها.

إن تزايد عدد المنظمات غير الحكومية وطبيعة الأنشطة التي تمارسها يعطي مؤشرات مبدئية على تزايد الارتباطات والتفاعلات بين المنظومات الرسمية لحقوق الإنسان والدعوات والمطالب العالمية لحقوق الإنسان ونمو مجتمع مدني عالمي. وتلقى حملات حقوق الإنسان دعما كبيرا على مستوى تزايد مستوى انخراط ومشاركة الأفراد في هذه الحملات وعلى مستوى تأييد الرأي العام ما يدل على وضع ومكانة حركة حقوق الإنسان كحركة اجتماعية مهمة على طريق دمقرطة النظام العالمي.

من الواضح أن هناك عدداً كبيراً من قواعد القانون الدولي المتعلقة بحقوق الإنسان التي طورتها الأمم المتحدة والمنظومات الإقليمية المختلفة، هذا إلى جانب انتشار فكرة ومبدأ عالمية حقوق الإنسان، إلا أن المشكلة الأساسية التي تواجه قضية حقوق الإنسان هي كيفية تفعيل هذه القواعد والاتفاقيات، وكيفية فرض تطبيقها والالتزام بها. ففي كثير من الأحيان يحدث الخلط بين الاتفاقيات الرسمية التي تصنف نظاما معياريا معينا وبين وجود ذلك النظام فعليا.

إن هذا لا يعني أن القانون الدولي ليس له دور في حماية حقوق الإنسان، فالاتفاقيات الدولية حول معايير حقوق الإنسان تعكس المطالب العالمية لحقوق الإنسان وتوفر للفاعلين والنشطاء من غير الدول مجالا وساحة لمتابعة هذه المطالب، إلا أنه ينبغي في ذات الوقت أن نفهم ذلك في سياق استمرار عمليات التعذيب الإبادة الجماعية وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء كثيرة من العالم. إن إشكالية تطبيق وفرض قواعد القانون الدولي في مجال حقوق الإنسان تتطلب النظر في مجموعة من القضايا.

القضية الأولى تتعلق بالتمييز بين القانون المحلي (الداخلي) وبين القانون الدولي. فخصائص ووظائف القانون الداخلي متمايزة عن القانون الدولي. فالقانون الداخلي قسري وقابل للفرض، حيث أنه يعتمد على إجراءات وآليات فرض وتطبيق تضمن الامتثال والخضوع. من ناحية أخرى، فإن القانون الدولي يعتمد على المعاملة بالمثل تحت ظروف متشابهة، كما أن مبدأ السيادة يعني أن الفرض ضعيف في أحسن الأحوال وغير موجود في أسوأ الحالات.

كذلك، فإن من الصعب تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل في مجال حقوق الإنسان، نظراً لأن كيفية معاملة دولة ما لمواطنيها له نتائج ومضامين محدودة وغير واضحة على الدول الأخرى.

ويستثنى من ذلك التحركات الضخمة للاجئين عبر الحدود الدولية هربا من الاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان داخل دولهم، حيث أنها تمثل المجال الوحيد من حقوق الإنسان التي تثير اهتمام وقلق الدول المختلفة لأنها تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي لهذه الدول.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أشخاص القانون الدول يتكونون من دول وليس من مواطنين أفراد. والدول ذات السيادة تقرر الجوانب التي تقبلها أو لا تقبلها من قواعد القانون الدولي، بعكس المواطنين الذين يخضعون لقانون الدولة حتى وان كانوا لا يوافقون عليه.

وإذا كان يمكن القول ان القانون الدولي العرفي يعتبر ملزما لجميع الدول، بغض النظر عن تصديقها عليه من عدمه، فإن التطورات الحديثة للقانون الدولي تشير إلى ضرورة الموافقة الصريحة والقبول الرسمي من قبل الدول على القانون الدولي. كذلك، حتى وإن صادقت الدولة على اتفاقيات أو معاهدات دولية معينة، فإنها تستطيع التحفظ على بعض موادها وأحكامها التي لا تروق لها. وفي الواقع ، فإن ذلك يعني أن الدولة تستطيع أن تختار ما تقبله وما ترفضه من أية معاهدة أو اتفاقية دولية. ولقد تم انتقاد الولايات المتحدة الأمريكية لقيامها بذلك عند تصديقها على اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية.

كذلك، فإن القانون يتم سنه في المجتمع الداخلي عن طريق هيئة تشريعية مركزية، إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة للقانون الدولي، حيث لا توجد سلطة مركزية لسن وفرض القانون. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة قد أخذت على عاتقها القيام بذلك الدور من حيث كونها الهيئة التي يتم فيها إيداع جميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فإنه من الواضح أن تلك ليست هي نفس الوظيفة التي تقوم بها الهيئة التشريعية داخل الدول المختلفة. هذا إلى جانب أن الأمم المتحدة لا تملك آليات لفرض وتطبيق قواعد القانون الدولي.

يتضح من ذلك كله أن عدم وجود آليات فرض وتطبيق قواعد القانون الدولي يمثل إشكالية كبيرة أمام تحويل فكرة عالمية حقوق الإنسان إلى حقيقة واقعة، الأمر الذي يتطلب مدخلا وفعلا وحلا سياسيا بالإضافة إلى النصوص القانونية حتى يمكن التقليل ومن ثم إزالة انتهاكات حقوق الإنسان.

حقوق الإنسان ودمقرطة النظام العالمي
استند النظام العالمي الى نظام الدول المستقلة ذات السيادة، ولقد أدى ذلك إلى وضع قواعد تحكم العلاقات بين الدول التي تم تقنينها ضمن المنظومات المختلفة للقانون الدولي. ولم تكن الدول تحتاج إلا إلى الإعلان عن التزامها بالمعايير التي يعبر عنها القانون الدولي لكي تكتسب الشرعية الدولية. إلا أن هذا لم يعد كافيا تحت ظروف العولمة. ففي الوقت الذي يمكن فيه قبول أن الشرعية قد تتضمن الحاجة للاعتراف الخارجي من قبل أعضاء المجتمع الدولي ، فإن هناك مصدرين مهمين آخرين للشرعية هما:

أولا : هناك إدراك وإقرار متزايد بأن الدول الشرعية هي تلك التي تنال تأييد مواطنيها، وأفضل طريقة لضمان هذا التأييد هو الديمقراطية. فالاعتراف الداخلي والخارجي يقدم مفهوما للشرعية يربط بين المواطن والدولة، ويربط بين الدولة والدول الأخرى في المجتمع الدولي.

ثانيا : أدى نمو المجتمع المدني العالمي إلى تغيير السياق السياسي لسلوكيات الدول. فحتى لو كانت الدول تفضل الاستمرار في السلوك بالطريقة التقليدية وفي تجاهل سلوكيات وانتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى، فإن المنظمات غير الحكومية والرأي العام يمكن أن تهدد بخلع الشرعية عن الحكومة.

إن وجود هذه المصادر للشرعية تدل على أن المجتمع أو الدول الشرعية هي تلك التي تستند على الحقوق، بما في ذلك حرية التعبير والحقوق الانتخابية في ظل نظام حكم ديمقراطي. ولقد أصبح الحق في الديمقراطية حقا مقبولا في القانون الدولي ويمكن ملاحظته بصورة متزايدة في سلوكيات الدول. ويستند هذا الحق على حق تقرير المصير الذي نصت عليه المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة.

منذ ذلك الوقت نال حق تقرير المصير قبولا وانتشارا عاما. على سبيل المثال، فإن المادة الأولى من الاتفاقيتين العالميتين تؤكد على حق تقرير المصير بالوسائل الديمقراطية. كذلك، فإن المادة 25 من اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية تنص على حق كل فرد في المشاركة في الأمور العامة مباشرة أو عن طريق ممثلين ينتخبهم بحرية، كما أن المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تمنح لكل فرد الحق في المشاركة في حكومة بلاده عن طريق انتخابات دورية وحقيقية يكون فيها للجميع حق التصويت السري أو عن طريق عمليات تصويت مماثلة وحرة. إلى جانب ذلك، فإن المنظومة الأوربية لحقوق الإنسان ( المادة 3 للبروتوكول) والمنظومة الأفريقية ( المادة 5 من الميثاق الأفريقي ) تقر بحق التمثيل الديمقراطي.

إلا أن كل ذلك يدور ضمن إطار وسياق الدولة الوطنية بحيث تكتسب الحكومات الوطنية المنتخبة ديمقراطيا الشرعية عن طريق قبولها للمعايير الدولية المعترف بها للديمقراطية ، ولكن في ظل العولمة قد لا يكون ذلك كافيا. فإذا كانت فرص الحياة والعمل والرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات تتأثر بقرارات وأفعال مؤسسات لا تخضع للسيطرة الديمقراطية، فإن الديمقراطية داخل إطار الدولة الوطنية بمفردها لها قيمة وتأثير محدود. إن الظروف التي تخلقها العولمة تتطلب حقا في الديمقراطية يتضمن المشاركة في صنع القرار الوطني والدولي، وعندها فقط يمكن تحقيق مبدأ تقرير المصير.

إن أنشطة الشركات العابرة للقومية والمصارف المتعدية للجنسية والمنظمات التجارية العالمية والإقليمية تلعب دورا مهما في تشكيل السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يتم في إطاره حماية حقوق الإنسان. حتى في الدول الديمقراطية الأكثر رسوخا، فإن أنشطة هذه المؤسسات والمنظمات لا تتوافق في الغالب مع الحركة تجاه خلق مساواة وعدالة وحقوق أكبر
__________________