الثقافة الحقوقية للمرأة في البيئة العدلية
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @
لا يمكن تحليل أي ظاهرة مجتمعية دون دراسة التأثير الجوهري للمرأة سيما في ظل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، فالمرأة السعودية اليوم على موعد مع استحقاقات متعددة ومسؤوليات قيادية لـملئ الشواغر الوطنية النوعية التي تنتظر الكفاءات النسائية في مختلف المهام والمحافل والمناسبات المحلية والإقليمية والعالمية، لتتبوأ الدور الريادي في تمثيل وطنها ومجتمعها والأخذ بزمام المبادرات في كافة التخصصات والمجالات، ومن محفزات هذه الاستحقاقات القيادية: مزيج الهوية الخاصة بالمرأة السعودية التي تتسق مع الثوابت والمنطلقات الدينية والوطنية والاجتماعية من جهة، وتمكين الكفاءات في ظل التحولات الاقتصادية والثقافية والتطورات النهضوية الشاملة التي اتسمت بها هذه المرحلة من جهة ثانية، وتلك هي النافذة الذهبية التي تنطلق منها جدارة الفتاة الطامحة لصناعة منجزٍ وطني ولتضع قدماً على بساط المستقبل القيادي والريادي للمملكة على مختلف الأصعدة.

وفي هذا السياق من المهم أن تواكب البيئة العدلية تعزيز الثقافة الحقوقية والقانونية للمرأة في المجتمع بشكل عام وفي المرافق والإجراءات القضائية بشكل خاص، إذ لا تزال الثقافة القانونية في بداية نموها وفي أولى أطوار تشكلها لكافة شرائح المجتمع بعامة، وللمرأة على نحو ملحوظ، ويعود السبب في ذلك -علاوةً على بطئ نمو الثقافة الحقوقية والمفاهيم القانونية بشكل عام في المجتمع- إلى عدة أسباب أخرى يمكننا إيجاز أهمها فيما يلي:

1- عدم تقنين القضايا الموضوعية والعُرفية التي يكثر النزاع حولها، والتوسع في منح السلطة التقديرية للقاضي خصوصاً في القضايا ذات الأبعاد الاجتماعية أو العرفية، حيث إن مما ساهم في ضبابية الرؤية الحقوقية لدى المجتمع بشكل عام ولدى المرأة بشكل خاص هو تفاوت الاجتهادات القضائية في كثير من القضايا والمسائل الحقوقية ما أدي بطبيعة الحال إلى جهالة المرأة بحقها قبل لجوئها إلى المرفق القضائي.

2- آلية تنظيم عمل المحامين والمحاميات وجهات الاستشارات القانونية، التي لا تزال بنظري دون المستوى المطلوب لمواكبة مستجدات التنمية، وهو ما يؤدي إلى حدوث الفجوات العميقة بين المستفيدات من جهة ومقدمي المعلومات اللازمة والخدمات القانونية من جهة أخرى.

3- السبب الذاتي والاجتماعي الذي يعود إلى تردد المرأة أو عدم تشجيع البيئة المحيطة بها على المطالبة بحقوقها بالطرق الصحيحة نظامياً وإجرائياً، أو تنمية ثقافتها بجوانب الحماية القانونية وطرق الترافع وإجراءات التقاضي أو طلب الخدمات القانونية.
4- قصور المناهج التعليمية ومؤسسات التعليم في تبني استراتيجية واضحة ودقيقة وذات مؤشرات أداء قياسي لنشر الثقافة القانونية وتطويرها ومعالجة جوانب قصورها.

5- الفجوة بين النظرية والتطبيق، فمما يلاحظ أن القراءة في المراجع والمصادر والمنشورات القانونية قد لا تفي بالغرض وحدها لأن الجانب المعرفـي المجرد من التطبيقات والنماذج والسوابق القضائية لا يؤدي إلى إكساب المرأة المهارات الكافية لممارسة الإجراءات القانونية في المرافق العدلية والجهات الحقوقية.

وإزاء ذلك نجد أن من أهم العوامل التي تساعد على تعزيز الثقافة الحقوقية للمرأة في المرافق العدلية ما يلي:
أولاً: سن الأنظمة واللوائح والمدونات والتعاميم والقرارات المزيلة للالتباس في القضايا التي يتكرر النزاع حيالها، وإذ يعد هذا العامل بشكله العام محل عناية وتطوير وتحديث في الآونة الأخيرة، إلا أن المقصود هنا هو سن أنظمة ولوائح خاصة بحقوق المرأة والتزاماتها التي تنفرد بها بوصفها امرأة، فالملاحظ أن النصوص والمواد والقرارات والتعاميم المنظمة لحياة المرأة وإجراءات عملها وحقوقها والتزاماتها والأحكام والقواعد المبنية على ذلك وحالات الظروف المشددة والمخففة والأوصاف المؤثرة في النص النظامي ونحوها عادةً ما تكون متناثرة في الأنظمة واللوائح التنفيذية وتعاميم الإدارات والأجهزة الحكومية؛ مما يصعب على المتخصصة في المجال القانوني معرفتها بشكل كامل فضلاً عن غيرها.

ثانياً: نشر الشروحات والأبحاث المتخصصة، إذ تعد مسألة (تفسير النصوص) وبيان مقصود المنظم ومراده من أبرز المشكلات الأزلية للنصوص القانونية، وإذا كان المتخصص يلوك النص ويتعارك معه جيئةً وذهاباً حتى يتمكن من فهم مراد المنظم على وجه الدقة؛ فإن من الضرورة الأولوية –لتعريف المرأة بحقوقها- عناية المرافق العدلية بنشر الشروحات والأبحاث والمؤلفات التي توضح حقوق المرأة وتشرح النصوص الخاصة بها وإجراءات مطالباتها الحقوقية وطرق تقديم دفوعها وإجراءات التوكيل والتوثيق والمدد اللازمة للتظلم من القرارات الإدارية وغير ذلك من المسائل والأساليب الإجرائية والموضوعية التي يظل النص فيها قاصراً عن الوصول إلى أفهام غير المتخصصين.

ثالثاً: دعم وتوفير الكوادر المتخصصة من الكفاءات النسائية الممارِسة للأنشطة القانونية للتدريس والتدريب في الجامعات ومراكز التدريب والتأهيل المتخصصة، حتى نسهم في تقليص الفجوة بين النظرية والتطبيق خاصة لطالبات الأقسام القانونية سيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار صعوبة التطبيق العملي لخريجات التخصصات القانونية التي تبدأ معاناتهن منذ المستويات الأخيرة في الكليات والأقسام القانونية وعجز القدرة الكمية والكيفية لمكاتب المحاماة عن استيعاب المخرجات ومنحها فرصة التدريب العملي، ومالم تتعزز شراكة الجامعات مع المرافق العدلية لإتاحة التدريب الميداني للطالبات، ولاستقطاب الكفاءات النسائية في المجالات القانونية للتدريس لتقريب الطرق التطبيقية العملية، فستظل الفجوة بين الدراسة النظرية والتطبيقات العملية عميقةً ولن تفي بحاجة المرأة إلى المعرفة التامة والمُكنة المهارية في تعزيز وحماية حقوقها.

رابعاً: تمكين سهولة الوصول وتطوير الخدمات الالكترونية والتعاملات التقنية والتطبيقات الحديثة، كمقترح (الترافع/التحاكم عن بعد) الذي يعد مثالاُ حياً وملائماً خصوصاً في ظل اتساع رقعة المملكة الممتدة من طريف شمالاً إلى شرورة جنوباً وصعوبة التنقلات للمرأة على وجه الخصوص، ولقاطنات القرى والمحافظات الصغيرة على وجه أخص.

خامساً: تطوير الإعلام العدلي الذي يجب أن تمارس الجهات العدلية من خلاله دوراً بارزاً وحيوياً، والخروج من عباءة الدور التقليدي المتمثل بعناوين الصحف والأخبار العامة كالترقيات والتعيينات إلى تطويع التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد في نشر الثقافة الحقوقية للمرأة وإجراءات تعاملاتها الرسمية وطريقة تواصلها وتوعيتها بما لها وما عليها وتسهيل انتشار المعلومة القانونية بأبسط قدر ممكن.

سادساً: رفع مستوى تمكين المرأة في شغل الأقسام والإدارات النوعية والاستشارية والقيادية، وإشراك المرأة في رسم الاستراتيجيات والسياسات العدلية، لتعزيز حضورها في تطبيق ما يتبلور عنها من خطط واستراتيجيات، ومن أهمها: استراتيجية نشر الوعي الحقوقي في المجتمع النسائي، ومما تجدر الإشارة له في هذا الجانب ما وجّه به وزير العدل مؤخراً بفتح مجال التوظيف أمام السعوديات في وزارة العدل في أربع مجالات وظيفية للمرة الأولى في تاريخ الوزارة تحت مسمى (باحثة اجتماعية، وباحثة شرعية، وباحثة قانونية، ومساعدة إدارية)، على الرغم من الأمل برفع مستوى الوظائف النوعية للكفاءات النسائية.

إلى غير ذلك من العوامل التي تسهم في تعزيز الثقافة الحقوقية والقانونية للمرأة في بيئاتنا العدلية، كإقامة الفعاليات المتخصصة والندوات “العلمية العملية” والمعارض والمؤتمرات الممكنة للكفاءات النسائية بفاعلية أكبر، وكالنمذجة التخطيطية للمحاكم والمباني الحكومية العدلية التي تتيح تبني التوعية الشاملة داخلها وتفعيل كاونترات الاستقبال، وشاشات العرض، ومنصات الخدمات التقنية، وقاعات التدريب وورش العمل، ونحو ذلك.

وعلى كل حال: فلم يعد الوقت كافياً أمام مرافقنا وجهاتنا العدلية والحقوقية للتكاسل عن إحداث نقلة نوعية حقيقية في هذا الملف المهم؛ فقد أفرز غياب الثقافة القانونية للنساء في مجتمعنا لعقود من الزمن ظلماً وتعسفاً بالحقوق المقررة لهن شرعاً ونظاماً، وأهدر أعماراً وشتت أسراً وفرّق بين محبين وباعد بين أبناء وأمهات، وسرق الفرحة من قلوب دفنتها قلة الحيلة، وأحرق بمرارة الظلم أجفاناً لا تجف من سيل الدموع المتحدرة على سفوح الأسى والحرمان، وقد أفرز ذلك الغياب فراغاً ملأته بطريقة عكسية “بعض الناشطات الحقوقيات” المنتشيات بالثورة على القيم والمرتكزات الوطنية والمجتمعية، وتبِع هذا النوع من الحضور الوهمي في فراغ الثقافة الحقوقية للمرأة شعوراً بغياب الحقوق ذاتها، متناسيات أن (غياب الثقافة الحقوقية لا يعني غياب الحقوق) وعلى طريقة الأصوليين (عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بالعدم)!

إعادة نشر بواسطة محاماة نت