مقالة قانونية تعرف بقانون العمل

أ/ روان المستريحي

تسميات قانون العمل :

لما كان قانون العمل قانونا حديث النشأة ، فأن تسميته بذلك لم تكن بالأمر المسلم به ، فقد كان أراء عدة تتجاذب إطلاق تسمية معينة أو تفضل أخرى عليها .
ولعل أو تسمية أطلقت على هذا القانون كانت ( التشريع الصناعي ) حيث كان ذلك قبيل عصر الثورة الصناعية التي انتشرت على أثرها المشاريع الصناعية الضخمة ، والتي أظهرت بدورها الحاجة إلى إفراد قواعد خاصة ومستقلة عن القانون المدني ، تتولى تنظيم العلاقة بين طرفي الإنتاج ( العامل ورب العمل ) .
إلا أن هذه التسمية انتقدت لعدم دقتها وشموليتها ، فقانون العمل بات في الوقت الحاضر وفي الكثير من الدول ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل ، سواء أكان ذلك في مجالات الصناعة أم الزراعة أم الخدمات ، ومن ثم فإن استعمال مثل هذا المصطلح يعد أمرا غير جدير بالموافقة لقصوره .

لذلك فقد اتجه جانب أخر من الفقه إلى إطلاق تسمية ( التشريع العمالي ) على ذلك القانون ، وذلك نظرا للأهمية الكبرى التي يشكلها ذلك القانون بالنسبة للعمال ، فهو لا يضع العمال في مركز قانوني أفضل فحسب ، بل أنه يجعلهم غير بعيدين عن حماية المشرع المشددة في كثير من الأحيان .

ومع ذلك فأن هذه التسمية انتقدت وعدل عنها أيضا ، فهي على الرغم من إنها تؤكد على أهمية هذا القانون بالنسبة للعمال ، إلا أنها وفي الوقت ذاته قد لا تخلو من استبعاد لأهمية ذلك القانون بالنسبة لرب العمل الطرف الثاني في علاقات العمل .
وإزاء هذا النقد ، أطلق على هذا القانون تسمية أخرى هي ( التشريع الاجتماعي ) ، وذلك انطلاقا من الأهمية التي يتمتع بها هذا القانون في مجال تحقيق السلام الاجتماعي ووضع المبادئ والأسس التي تقيم التوازن بين أرباب العمل والعمال الذين يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع ، فالقواعد الخاصة بعلاقات العمل تهدف بدرجة كبيرة إلى تحقيق مصلحة المجتمع ، وذلك عبر محاولة الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من العدل الاجتماعي .

إلا أن هذه التسمية كانت عرضة للنقد أيضا ، ذلك أن جميع فروع القانون تعد اجتماعية ، فمثل هذه الصفة – أو التسمية – يمكن أن تطلق على كل قانون ولا يستأثر بها قانون العمل بمفرده ، ومن ثم فإن هذه التسمية غير جديرة بالتأييد أيضا .

لذلك فأن جانب كبير من الفقه ومن ورائه المشرع في مختلف الدول استقر في الوقت الحاضر على إطلاق تسمية
( قانونالعمل ) دون سواه على تلك القواعد المنظمة للعمل والعلاقات الناشئة بموجبه .

تعريف قانون العمل :

لقد أورد الفقه تعريفات كثيرة لقانون العمل ، بحيث بدا الاختلاف بينها واضحا غير ضيق النطاق ، وبما يشير إلى وجود تباين في إطار ما قد يتضمنه كل تعريف .
فقد عرف البعض قانون العمل على أنه : ( مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات الناشئة عن قيام شخص بالعمل لحساب شخص آخر وتحت سلطته وإشرافه مقابل اجر ) .

وعرف جانب آخر على أنه : ( مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات القانونية المتعلقة بالعمل التابع المأجور ) .
في حين عرفه جانب من الفقه على أنه : ( مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العمل الخاص التابع المأجور ، أيا كان نوعه ، وأيا كان الاسم الذي يطلق على القائم بالعمل : مستخدم ، عامل ، مدير أو موظف ، وأيا كان مقدار الأجر وطريقة حسابه وصورته )
إن مثل هذه التعريفات قد لا تكون دقيقة بالدرجة الكافية ، ذلك أن عنصري التبعية والأجر يعدان من عناصر عقد العمل ، دون أن يعتبران كذاك بالنسبة لقانون العمل ، فعقد العمل المعروف في جل القوانين المدنية وفي مفهوم الفقه القانوني يعني الاتفاق الذي يلتزم أحد طرفيه بأن يقوم بعمل لمصلحة الأخير وتحت إشرافه أو إدارته لقاء أجر ، وبالتالي فأن مدلول ونطاق المصطلحين بالضرورة مختلف ولا يعبر أحدهما عن مفهوم الآخر .

لذلك فقد اتجه جانب من الفقه إلى تعريفه على أنه : ( مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقة بين العامل ورب العمل) .
إلا أنه قد يؤخذ على هذا التعريف تضييقه لمفهوم قانون العمل بجعله قاصرا على تنظيم علاقات العمل الفردية التي تنشأ بين عامل واحد وصاحب العمل واحد ، الأمر الذي يمكن ملاحظة خلافه بالاطلاع على محتويات هذا القانون ، فقانون العملينظم إلى جانب علاقات العمل الفردية علاقات العمل الجماعية التي تنشأ بين طرفين أحدهما هو مجموعة من العمال أو من يمثلهم ونقصد يذلك النقابة التي ينتمون إليها ، والثاني هو صاحب عمل أو أكثر أو من يمثلهم كالنقابة أو الجمعية المنضمين إليها .
وعليه فإنه يمكن تعريف قانون العمل على أنه : ( مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقة بين رب العمل أو من يمثله من جهة والعامل أو من يمثله من جهة أخرى ) .

نشأة قانون العمل :

لقد مرت المجتمعات البشرية المختلفة بمراحل تاريخية كانت علاقات العمل فيها غالبا ما تنظم لصالح الطبقة الأقوى ، ففي المجتمعات القديمة كانت الحياة الاقتصادية تقوم على ( نظام الرق ) ، فقد كانت علاقة العبد بسيده علاقة ملكية خاصة ، يتاح بموجبها للسيد امتلاك شخص العبد وثمار عمله ، فيحق للسيد بيع عبده ونقل ملكيته لسيد أخر ، كما أن له تشغيل العبد في حراثة الأرض وزراعتها وجني الثمار ، ليس هذا فحسب ، بل أن على العبد بعد انتهاء عمله اليومي في الزراعة العودة إلى دار سيده للقيام بالخدمة فيها أو بأي عمل يكلفه به السيد ، كل هذا من دون أن يكون للعامل الحق في الحصول على مقابل سوى الطعام الذي يتناوله والحماية من المخاطر .

والوضع السابق استمر إلى حد ما في العصور الوسطى مع تطوير بسيط ، حيث ساد ( نظام الاقنان ) أي نظام تبعية الإنسان للأرض – والذي بمقتضاه انفصم شخص العبد عن سيده وارتبط بالأرض ، بحيث لم يعد للسيد الحق في التصرف بشخص العبد تصرف المالك في ملكه – كبيعه وتأجيره ورهنه – إلا مع الأرض ، فقد أصبح ألقن مرتبطا بالأرض شأنه في ذلك شأن العقار بالتخصيص المعروف في القوانين المدنية الحديثة .

وبالرغم من أن نظام الرق والأقنان هو الذي كان سائدا لدى الشعوب القديمة ، فقد عرفت بعض الشعوب أيضا – كالرومان – عقد إيجارات الخدمات الذي كان يبرمه الأحرار ، إلا أن هذا العقد ما كان ليستقبل بطابع خاص به يجعله شبيها بعقد العملالمعروف لدينا الآن ، بل تميز بطابع العبودية لأنه كان صورة من صور عقد إجارة العبيد الذي كان معروفا لديهم ، لذلك فقد كان هذا العقد أكثر شبه بعقد إجارة الأشياء .

وبعبارة أخرى فأن من كان يقوم بالعمل من الأشخاص في العصور القديمة والوسطى لم يكن ليخضع إلا لقوانين الأشياء لا الأشخاص ، فهو محلا للحق وليس طرفا فيه ، ومع ذلك فقد ظهر في الميدان الصناعي والتجاري في المراحل المتأخرة من العصور الوسطى ( نظام الطوائف الحرفية ) ، والذي تم بموجبه تنظيم العلاقة بين أطراف كل مهنة من خلال تحديد القيود والشروط الخاصة بها وبيان كيفية ممارستها ، وهو النظام الذي عرف العرب مثله ايضا ، حيث كان عندهم لكل حرفة سوقها الخاص ورئيسها المختار .

وفي مرحلة لاحقة قامت الثورة الفرنسية (عام1789م) ، إلا أنها لم تعر اهتماما بتنظيم علاقات العمل ، فقد آمن رجالاتها بالمذهب الفردي الحر ، الأمر الذي كان من نتائجه إحجام الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية ، حيث تركت علاقات
العمل للأفراد ينظمونها كيفما يشاءون ،فنشأت قاعدة حرية العمل القائمة على الاقتصاد الحر ومبدأ سلطان الإرادة .
وعليه ،فقد بات مبدأ حرية التعاقد على العمل هو مناط تنظيم العلاقة بين أطرافه ، فللعامل وأصحاب العمل إبرام عقود إجاراة الأشخاص وتنظيمها بالصيغة التي تلائمهم ودونما تدخل من أحد ، الأمر الذي نجم عنه تحكم أصحاب العملواستقلالهم في فرض شروط العمل وبما يلبي حاجاتهم ومصالحهم ، لاسيما بعد ظهور المشروعات الصناعية الضخمة وتدخل الآلة في عمليات الإنتاج ،فأصبح العمال عرضة لمخاطر جمة لا تقف عند حد العمل لساعات طويلة أو الحصول على أجور قليلة ، بل تتعدى ذلك لتصل إلى حد العمل في ظروف رديئة أو صعبة وتهديد أجسادهم وحياتهم بإصابات العملوأمراض المهنة دون حماية أو ضمان .

ومع الوقت ، فإن الطبقة العاملة أخذت بالتوسع والازدياد ، وأصبح وجود ردود فعل إزاء هذه الشروط والظروف السيئة للعمل أمرا غير مستبعد أو مستغرب ، وهو ما أدى بالفعل إلى وجود تكتلات وجمعيات سرية للعمال ، ما لبث أن تحولت إلى نقابات مقر لها بالشرعية ،ومرهوبة الجانب لما تملك من وسائل في فرض إرادتها ، تتمثل بالدرجة الأولى في القيام بتنظيم عمليات الإضراب والاعتصام والاحتجاج ،إذ كان من أولى مهام هذه النقابات الدفاع عن العمال ومصالحهم في مواجهة أصحاب العمل وأطماعهم ، فضلا عن مطالبة الحكومات والبرلمانات بالتدخل لتنظيم بعض جوانب العلاقة بين أطراف العمل ، ليعقب ذلك المطالبة بإصدار تشريع واحد وشامل لتنظيم علاقات العمل ومعالجة جوانبها المختلفة ، فصدرت نزولا عند هذه المطالبات ولاعتبارات تتعلق بدعم الاقتصاد الوطني أيضا تشريعات العمل في بعض الدول كألمانيا وإنجلترا وفرنسا ،الأمر الذي عزز من تحققه وانتشاره مجموعة من العوامل التي من أبرزها ما يلي :

1- العامل الفكري متمثلا في ظهور المذهب الاجتماعي وانتقاده للمذهب الحر من الناحية السياسية والقانونية ،إذ نادى هذا المذهب بضرورة تركيز اهتمام القانون في الجماعة لا في الفرد .
2- العامل السياسي متمثلا في ظهور الصحافة الحرة وإقرار حق التصويت للعمال ،مما جعل من الطبقة العاملة قوة سياسية لها شأنها ولا يمكن إغفالها في مجال رسم وتحديد السياسات التشريعية في الدول المختلفة .
3- العامل الاقتصادي متمثلا في الأخذ بالاقتصاد الموجه ،فقد أصبح المشرع يأخذ في حساباته عند إصدار أي قانون متعلق بالعمل ظروف الاقتصاد الوطني .

أهمية قانون العمل :

إذا كان قانون العمل في مختلف الدول يكتسب أهمية مباشرة بالنسبة لأطراف علاقة العمل ( العامل ورب العمل ) ،فإنه لا ينكر حساسية دوره وأثره البالغ على المجتمع بأسره ومن نواح متعددة ،فهو لا يتمتع بأهمية خاصة على المستوى الاجتماعي فحسب ،بل وعلى المستوى الاقتصادي كذلك .

أولا : الأهمية الاجتماعية :-

يسري قانون العمل على شريحة واسعة من المجتمع ،ومن ثم فإن دوره في تحقيق السلام والوئام الاجتماعي يعد أحد الركائز التي ترمي الدول إلى تحقيقها عبر الوسائل المختلفة ،فهو يحكم علاقات العمل ويقيم التوازن فيها ،إذ يحدد هذا القانون بأدواته المختلفة نمط معيشة العامل ونشاطه ومصدر رزقه هو وأسرته التي يعيلها ،وهو في الوقت ذاته يحافظ
على آدمية العامل وكرامته ،فضلا عن حياته وصحته الجسدية والنفسية .
وقانون العمل يحمي من جانب أخر فئات اجتماعية قد تكون عرضة للاستغلال كالنساء والأطفال ،حيث يفرض القانون في كثير من الأحيان إجراءات مشددة على تشغيل هذه الفئات في بعض الأعمال أو الأوقات ،لما لهذه الفئات وتشغيلها من أثر على مستقبل المجتمع ونموه .

ثانيا : الأهمية الاقتصادية :-

يساعد قانون العمل على القضاء على البطالة وتوفير فرص عمل لأكبر قدر ممكن من الأفراد عبر تحديد ساعات العملوتخفيضها في بعض الأحيان .
وقانون العمل كذلك يعد أداة مهمة في إطار رسم السياسات والمخططات الاقتصادية العامة والشاملة ،فسياسة رفع أجور العمال – مثلا – تؤثر على القوة الشرائية وزيادة الطلب على المنتجات ,وبالتالي إلى زيادة الطلب في سوق العمل ؛ أما سياسة تثبيت الأجور فإنها تستخدم عادة للتخفيف من حدة التضخم ومحاربته .
وبتعبير آخر ،فإن قانون العمل يكتسب أهمية مباشرة في إطار تنظيم علاقة العمل ، وأهمية غير مباشرة عندما يستخدم للتأثير على السياسات الاجتماعية والاقتصادية في الدول المختلفة ،لاسيما تلك التي يشكل فيها العمال طبقة كبيرة من المجتمع