متى تتوحد سلطة الاتهام؟

الحكم عنوان الحقيقة… ولكن

ما الحقيقة التي يعتبر الحكم القضائي عنوانها؟ هي ما يطرح على القاضي من أدلة ودلائل وقرائن، يتجادل فيها أطراف الخصومة القضائية ويتبارون ليثبت كل خصم حقه وينفي حق الآخرين.

إن الحقوق الإجرائية الكاملة التي تكفلها الدساتير والقوانين، للمتهمين هي وحدها الضمان لإنصافهم ولتحقيق العدالة في محاكمتهم، وهي تبسط حمايتها على المتهم في كل مراحل الاتهام بما في ذلك المرحلة السابقة على مثوله أمام قاضيه الطبيعي.

ومن قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر وجوب أن يكون لكل من المتهم وسلطة الاتهام الأسلحة نفسها التي يتكافأ بها مركزهما في مجال دحض التهمة وإثباتها، بما يحول دون افتراض ركن في الجريمة يعتبر لازماً لوقوعها في الصورة التي أفرغها المشرع فيها (جلسة 3/1/1998- القضية رقم 29 لسنة 18ق).

وتبدو ضمانة الدفاع هذه أكثر أهمية كرادع لرجال السلطة العامة إذا ما عمدوا إلى مخالفة القانون مطمئنين إلى غياب الرقابة على أعمالهم أو غفوتها.

بل إنه مما يعزز هذه الضمانة ويمنحها قيمتها العملية- كما قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر- ألا يكون تطبيقها مقصوراً على مرحلة الفصل في الاتهام الجنائي، بل يتعداه إلى المراحل السابقة على توجيهه إلى المتهم، بما يكفل حق المتهمين في ألا تسترقهم السلطة بضغوطها، وألا تغويهم بما يقربهم منها أو ترهبهم ببأسها بما يدينهم، وعلى الأخص بعد انتزاعهم من محيطهم وإثارة الفزع في أعماقهم وتسلطها على إرادتهم، فلا يملكون غير الخضوع لها. ولا تكون محاكمتهم بعد ذلك غير خواء لا يرد عنهم ضررا ( ق 15 لسنة 17 ق جلسة 2/12/1995).

والنيابة العامة هي الجهة الأصيلة التي ناط بها الدستور تولي الدعوى العمومية باسم المجتمع في ما تنص عليه المادة (167) من الدستور في فقرتها الأولى من أن ‘تتولى النيابة العامة الدعوى العمومية باسم المجتمع، وتشرف على شؤون الضبط القضائي، وتسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام. ويرتب القانون هذه الهيئة وينظم اختصاصاتها ويعين الشروط والضمانات الخاصة بمن يولون وظائفها’.

إلا أن الدستور قنن في الفقرة الثانية من هذه المادة، ما كان ينص عليه قانون الإجراءات الجزائيةمن تولي رجال الشرطة التحقيق في قضايا الجنح وإقامة الدعوى العمومية فيها، فنصت المادة (167) في فقرتها الثانية على أنه: ‘ويجوز أن يعهد بقانون لجهات الأمن العام بتولي الدعوى العمومية في الجنح على سبيل الاستثناء، ووفقاً للأوضاع التي يبينها القانون’.

روح الدستور والمقاصد التشريعية

وقد أثار هذا النص نقاشاً في لجنة الدستور حيث أبدى بعض الأعضاء انتقادهم لقانون الإجراءات الجزائية المطبق لأنه يفرق بين الجنايات والجنح، في جهة التحقيق والتصرف، حيث يعطي الشرطة صلاحية التحقيق والتصرف في الجنح، وهو أمر في غاية الخطوة ويمس حريات الناس ويؤثر في عمل القضاء (رئيس المجلس التأسيسي) وأيده في ذلك الخبير الدستوري، مقرراً أن هناك جنحاً أخطر من الجنايات، مثل جنح الصحافة والرأي، ورد وزير الداخلية باستعداده للتنازل عن جميع السلطات المخولة لوزارة الداخلية وتركها للنيابة العامة، ولكن لن نكون مسؤولين عما يحدث في البلد من إخلال بالأمن، ورد وزير العدل بقوله نحن مستعدون لتحمل المسؤولية (الجلسة 15 ص 22).

وعندما تم الاتفاق على هذا النص بالصيغة التي ورد بها، طالبت المذكرة التفسيرية للدستور المشرع- ولها قوة الإلزام التي للدستور ذاته- بعدم التوسع في الرخصة التي خولها الدستور للمشرع في إعطاء جهات الأمن العام حق تولي الدعوى العمومية، حيث جاء بها:

‘مراعاة لواقع الكويت أجازت هذه المادة- على سبيل الاستثناء- (أن يعهد القانون لجهات الأمن العام في نطاق الجنح بتولي الدعوى العمومية بدلاً من النيابة العامة صاحبة الدعوى العمومية أصلاً)، وذلك (وفقاً للأوضاع التي يبينها القانون)، ومقتضى هذا النص عدم جواز التوسع في هذه الرخصة لأنها استثناء، والاستثناءات تجري في أضيق الحدود. كما يلزم أن يبين القانون (الأوضاع) المشار إليها في المادة الدستورية المذكورة، وأن يكفل للقائمين بالدعوى العمومية المنوطة بجهات الأمن ما تقتضيه هذه الأمانة الخطيرة من مؤهلات قانونية في القائمين بها، وتنظيم إداري يكفل لهم القدر الضروري من الحيدة والاستقلال، والبعد عن أصداء ما يلازم عمل جهاز الأمن العام من اتصال يومي بالجمهور واحتكاك بالكثيرين من الناس كل يوم. فبهذه الضمانات يحقق هذا الطريق الاستثنائي الفوائد المرجوة دون أن يكون ذلك على حساب العدالة أو الحقوق والحريات’.

إلا أن روح الدستور، وما عبرت عنه المذكرة التفسيرية من مقاصد المشرع الدستوري في التضييق من هذا الاستثناء، الذي أملاه واقع الكويت في عام 1962، وقد تغير هذا الواقع، وأصبح القضاء في الكويت والنيابة العامة كفرع منه، جزءاً من وجدان الأمة وضميرها.

ومع الاعتراف بما تحقق للإدارة العامة للتحقيقات من استقلال وضمانات وتأهيل، وبما أسهمت به في تخفيف العبء عن النيابة العامة، إلا أنه يظل الدور الذي تقوم به، يدخل في دائرة الاستثناء الذي نص عليه الدستور، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: متى يحين الوقت لتوحيد سلطة الاتهام في جهة واحدة هي النيابة العامة، الجهة الأصيلة بتولي الدعوى العمومية؟ ولكي يقول وزير العدل ما قاله في لجنة الدستور حمود زيد الخالد وزير العدل- وقتئذ- ‘نحن مستعدون لتحمل المسؤولية’.

وسيفيد أعضاء إدارة التحقيقات الذين يتم نقلهم إلى النيابة العامة، من خبرة أكبر هي تحقيق الجنايات، ومن فرصة تبوء منصة القضاء ذاتها والإفادة من الخبرة والتقاليد القضائية التي اكتسبتها النيابة العامة في المجالين.

-المستشار شفيق إمام-