شرح مفصل للعلاقة بين القضاء الإتحادي والقضاء المحلي – الإمارات

مقال حول: شرح مفصل للعلاقة بين القضاء الإتحادي والقضاء المحلي – الإمارات

العلاقة بين القضاء الاتحادي والقضاء المحلي
دراسة في القانون الإماراتي

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

دكتور
أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
الخبير القانوني لدى دائرة القضاء – أبو ظبي

تعد ثنائية النظام القضائي أحد خصائص المنظومة القضائية للدولة الفيدرالية. إذ تمتلك الدولة الفيدرالية، بالإضافة إلى منظومة الأجهزة الاتحادية، منظومة أخرى خاصة بالأطراف (الجمهوريات، الأقاليم، المقاطعات، المحافظات… الخ). وربما كان لثنائية أجهزة الدولة الفيدرالية أثر في وجود هذا التمايز، بحيث يسوغ القول بأن ثنائية النظام القضائي ترتبط بالشكل الفيدرالي للدولة. ولكن على الرغم من هذه الثنائية القضائية، فإن كلا من المحاكم الاتحادية ومحاكم الأطراف (الأقاليم) تقوم بتنفيذ القوانين الصادرة عن السلطات التشريعية المركزية، فيما يمكنها اعتماد التشريعات المحلية في حالة غياب التشريع المركزي.

وتمتد الثنائية القضائية في بعض الدول الفيدرالية إلى تحديد الجهات المنوط بها الفصل في المسائل الدستورية. بيان ذلك أن نظام القضاء الدستوري يختلف من دولة فيدرالية إلى أخرى. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، يمنح التشريع الأمريكي لجميع المحاكم (بما في ذلك محاكم الولايات) حق النظر واتخاذ القرار في دستورية القوانين، فيما أنيط اتخاذ القرارات النهائية في، حال الخلاف حول قضية ما، إلى المحكمة الفيدرالية العليا.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن اختصاص المحاكم العليا للولايات ينحصر في البت بدستورية التشريعات الصادرة عن أجهزة الولاية فقط. أما في روسيا وألمانيا الفيدرالية، فإن تنظيم القضاء الدستوري جاء معبرا عن مبدأ فيدرالية الدولة. فإضافة إلى المحكمة الدستورية الفيدرالية لروسيا، تمتلك كل جمهورية (أو إقليم) قضائها الدستوري الخاص. ففي حين تقوم المحكمة الدستورية الفيدرالية بالنظر في دستورية التشريعات الصادرة عن أجهزة الدولة المركزية، يختص القضاء الدستوري للأطراف بالنظر في دستورية التشريعات المحلية. وللقضاء الدستوري الألماني خصوصيته أيضا، حيث لا تعمل المحاكم الدستورية للمقاطعات (الأراضي كما تسمى في الأدبيات القانونية الألمانية) بصفة دائمة، ذلك أن أعضائها يتولون مناصب حكومية أو قضائية في مقاطعات أخرى. ويجتمعون عند الضرورة للنظر وحسم القضايا المتعلقة بدستورية التشريعات المحلية.

ويشكل النظام القضائي في الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا لثنائية المنظومة القضائية، حيث يتربع قمة الهرم فيها المحكمة الفيدرالية العليا والتي يتم تعيين رئيسها وأعضائها التسعة من قبل رئيس الدولة شريطة موافقة مجلس الشيوخ. وبذات الطريقة يتم تعيين القضاة الفيدراليين في دوائر قضائية خاصة ولا علاقة لها بالتقسيم الإداري للدولة. في ذات الوقت، تمتلك الولايات نظامها القضائي الخاص، حيث يتم اعتماد نفس أسلوب تعيين المحكمة الفيدرالية العليا لتعيين قضاة محاكم تلك الولايات. فيما تختلف أساليب تعيين قضاة المحاكم المحلية الدنيا والمحاكم الخاصة، بما في ذلك محاكم الصلح، إذ يتم تعيينهم من قبل المحافظين وعمد المدن ومدراء الوحدات الإدارية غيرهم. وتقوم المحاكم الفيدرالية بتطبيق التشريع الفيدرالي، فيما تطبق محاكم الولايات القانون الفيدرالي وقانون الولاية(1).

وباعتبارها إحدى الدول الاتحادية، تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة مبدأ ثنائية النظام القضائي، بحيث يضم الجهاز القضائي فيها كلا من القضاء الاتحادي والقضاء المحلي. وسيكون موضوع هذه الدراسة هو بيان وتحديد العلاقة بين المحكمة الاتحادية العليا وبين المحاكم العليا المحلية.

وحتى تكتمل الفائدة المرجوة من هذا البحث، نرى من الملائم تقسيم الدراسة إلى أربعة مباحث، كما يلي:

المبحث الأول: العلاقة بين القضاء الاتحادي والقضاء المحلي في ضوء النصوص التشريعية.
المبحث الثاني:نماذج للتضارب في الأحكام بين القضاء الاتحادي والقضاء المحلي.
المبحث الثالث: الوسائل القانونية لمنع التضارب في الأحكام.
المبحث الرابع: الفوائد العملية لتوحيد جهة النقض في دولة الإمارات العربية المتحدة.

المبحث الأول
العلاقة بين القضاء الاتحادي والقضاء المحلي
في ضوء النصوص التشريعية

أفرد الدستور الإماراتي الفصل الخامس من الباب الرابع لموضوع «القضاء في الاتحاد الإماراتي»، وذلك في المواد من 94 إلى 109. وينظم الدستور في هذه المواد القضاء الاتحادي الذي أنشأه وقصره على محكمتين أولاهما: هي المحكمة الاتحادية العليا وهي محكمة عليا ذات طبيعة خاصة وقد حددت المادة 99 من الدستور المؤقت اختصاصها بالفصل في المنازعات المختلفة التي تثور بين الإمارات الأعضاء في الاتحاد، أو بين أية إمارة أو أكثر وبين حكومة الاتحاد، وبحث دستورية القوانين، وتفسير أحكام الدستور، وتنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية المحلية في الإمارات فضلا عن مساءلة الوزراء وكبار موظفي الاتحاد ثم النظر في الجرائم التي لها مساس مباشر بمصالح الاتحاد.

وثانيهما: المحاكم الاتحادية الابتدائية التي تنعقد في عاصمة الاتحاد الدائمة، أو في بعض عواصم الإمارات لممارسة الولاية القضائية في دوائر اختصاصها في المنازعات المدنية والتجارية والإدارية بين الاتحاد والأفراد، والجرائم التي ترتكب ضمن حدود العاصمة الاتحادية الدائمة باستثناء ما تختص به المحكمة الاتحادية العليا، وقضايا الأحوال الشخصية والقضايا المدنية والتجارية وغيرها بين الأفراد التي تنشأ في العاصمة الاتحادية الدائمة (مادة 102 من الدستور المؤقت).
ولم يرد بالدستور نصا بشأن المحاكم الاتحادية الاستئنافية إلا أنه أجاز من ناحية أخرى استئناف أحكام المحاكم الاتحادية الابتدائية أمام إحدى دوائر المحكمة الاتحادية العليا في الحالات وبالإجراءات التي يحددها القانون (م 103 من الدستور). وهو ما قد يوحى بأن المشرع قد استغنى عن إنشاء محاكم اتحادية استئنافية اكتفاء بالدور الذي تقوم به المحكمة الاتحادية العليا في ذلك. إلا أن المحكمة الاتحادية العليا أجازت في تفسير دستوري لها يحمل رقم (1) للسنة الرابعة (قضائية) بجلسة 7 مارس سنة 1976 إنشاء هذه المحاكم.

ثم استطرد الدستور بعد أن نظم القضاء الاتحادي الذي أنشأه إلى تناول وضع المحاكم المحلية بالإمارات والتي كانت تقوم بمهمة القضاء قبل إنشاء الاتحاد فنص في المادة 104 منه على إن تتولى الهيئات القضائية المحلية في كل إمارة جميع المسائل القضائية التي لم يعهد بها للقضاء الاتحادي بمقتضى أحكام هذا الدستور وبذلك أصبح للدولة الجديدة جهتان للقضاء، القضاء الاتحادي الذي أنشأه الدستور المؤقت ونص على اختصاصاته، والقضاء المحلي الخاص بكل إمارة والذي كان قائما وقت نشأة الاتحاد ويعتبر صاحب الاختصاص العام في كل ما لم يعهد به إلى القضاء الاتحادي(2).

المادة 95

يكون للاتحاد محكمة اتحادية عليا، ومحاكم اتحادية ابتدائية، وذلك على الوجه المبين في المواد التالية.

المادة 99

تختص المحكمة الاتحادية العليا بالفصل في الأمور التالية:
المنازعات المختلفة بين الإمارات الأعضاء في الاتحاد، أو بين أية إمارة أو أكثر وبين حكومة الاتحاد، متى أحيلت هذه المنازعات إلى المحكمة بناء على طلب أي طرف من الأطراف المعنية.

بحث دستورية القوانين الاتحادية، إذا ما طعن فيها من قبل إمارة أو أكثر لمخالفتها لدستور الاتحاد.
وبحث دستورية التشريعات الصادرة عن إحدى الإمارات، إذا ما طعن فيها من قبل إحدى السلطات الاتحادية، لمخالفتها لدستور الاتحاد، أو للقوانين الاتحادية.

بحث دستورية القوانين والتشريعات واللوائح عموما، إذا ما أحيل إليها هذا الطلب من أية محكمة من محاكم البلاد أثناء دعوى منظورة أمامها وعلى المحكمة المذكورة أن تلتزم بقرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر بهذا الصدد.
تفسير أحكام الدستور إذا ما طلبت إليها ذلك إحدى سلطات الاتحاد، أو حكومة إحدى الإمارات، ويعتبر هذا التفسير ملزما للكافة.
مساءلة الوزراء وكبار موظفي الاتحاد المعينين بمرسوم، عما يقع منهم من أفعال في أداء وظائفهم الرسمية بناء على طلب المجلس الأعلى ووفقا للقانون الخاص بذلك.

الجرائم التي لها مساس مباشر بمصالح الاتحاد، كالجرائم المتعلقة بأمنه في الداخل أو الخارج، وجرائم تزوير المحررات أو الأختام الرسمية لأحدى السلطات الاتحادية، وجرائم تزييف العملة.
تنازع الاختصاص بين هيئة قضائية في إمارة وهيئة قضائية في إمارة أخرى وتنظم القواعد الخاصة بذلك بقانون اتحادي.
أية اختصاصات أخرى منصوص عليها في هذا الدستور أو يمكن أن تحال إليها بموجب قانون اتحادي.

المادة 100

تعقد المحكمة الاتحادية العليا جلساتها بمقر عاصمة الاتحاد. ويجوز لها استثناء أن تنعقد عند الاقتضاء في أية عاصمة من عواصم الإمارات.

المادة 101

أحكام المحكمة الاتحادية العليا نهائية، وملزمة للكافة.

وإذا ما قررت المحكمة عند فصلها في دستورية القوانين والتشريعات واللوائح، إن تشريعا اتحاديا ما جاء مخالفا لدستور الاتحاد، أو أن التشريع أو اللائحة المحلية موضوع النظر يتضمنان مخالفة لدستور الاتحاد أو لقانون اتحادي، تعين على السلطة المعنية في الاتحاد أو في الإمارات بحسب الأحوال، المبادرة إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير لإزالة المخالفة الدستورية، أو لتصحيحها.

المادة 102

يكون للاتحاد محكمة اتحادية ابتدائية أو أكثر، تنعقد في عاصمة الاتحاد الدائمة، أو في بعض عواصم الإمارات، لممارسة الولاية القضائية في دائرة اختصاصها في القضايا التالية:
المنازعات المدنية والتجارية والإدارية بين الاتحاد والأفراد، سواء كان الاتحاد مدعيا أو مدعي عليه فيها.
الجرائم التي ترتكب ضمن حدود العاصمة الاتحادية الدائمة باستثناء ما تختص بنظره المحكمة الاتحادية العليا بموجب المادة (99) من هذا الدستور.
قضايا الأحوال الشخصية والقضايا المدنية والتجارية وغيرها بين الأفراد التي تنشأ في العاصمة الاتحادية الدائمة.
المادة 104

تتولى الهيئات القضائية المحلية في كل إمارة جميع المسائل القضائية التي لم يعهد بها للقضاء الاتحادي بمقتضى أحكام هذا الدستور.

المادة 105

يجوز بقانون اتحادي يصدر بناء على طلب الإمارة المعنية. نقل كل أو بعض الاختصاصات التي تتولاها هيئاتها القضائية المحلية بموجب المادة السابقة إلى المحاكم الاتحادية الابتدائية.
كما يحدد بقانون اتحادي الحالات التي يجوز فيها استئناف أحكام الهيئات القضائية المحلية في القضايا الجزائية والمدنية والتجارية وغيرها، أمام المحاكم الاتحادية على أن يكون قضاؤها عند الفصل في هذا الاستئناف نهائيا.

قضت محكمة تمييز دبي بأن «من المقرر أنه إذا كانت المحكمة المختصة بنظر الدعوى محكمة أجنبية فإنه لا يجوز الإحالة إليها، كما لا يجوز الإحالة إلى أية محكمة من محاكم الإمارات الأخرى التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، لأن النظام القضائي في إمارة دبي هو نظام مستقل»(3).

المبحث الثاني
نماذج للتضارب في الأحكام
بين القضاء الاتحادي والقضاء المحلي

تمهيد وتقسيم:
إن التعارض في الاجتهاد القضائي يمكن أن يثور في داخل الهيئة القضائية الواحدة. ولذلك، تعرف الأنظمة القانونية المقارنة ما يمكن أن يطلق عليه «حكم الدوائر المجتمعة لمحكمة النقض».

وإذا كان ذلك هو الحال في داخل الهيئة القضائية الواحدة، فما بالنا بالهيئات القضائية المختلفة. لذا، يمكن أن نقول – من واقع دراسة أحكام المحكمة الاتحادية العليا وأحكام محكمة تمييز دبي – أن واقع تعدد جهات النقض في الدولة والتعارض في الاجتهاد القضائي قد أدي بالفعل ومن شأنه أن يؤدي في المستقبل إلى التضارب في الأحكام القضائية. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نضرب مثالا باختلاف القضاء الاتحادي والقضاء المحلي بشأن مدى جواز إبعاد عديمي الجنسية.

وعديم الجنسية (Apatride) – كما هو واضح من اسمه – هو «الشخص الذي لا تعتبره أية دولة مواطنا فيها بمقتضى تشريعها». وقد ورد هذا التعريف في المادة الأولى من اتفاقية نيويورك في شأن وضع عديمي الجنسية.

ويعد عديم الجنسية أجنبيا، على الرغم من كونه لا يحمل جنسية دولة أخرى. ولعل ذلك يبدو جليا من تحديد المقصود بمصطلح الأجنبي في القانون المقارن. إذ تكتفي التشريعات عادة ببيان من هو الوطني، دون أن تعني بتحديد المارد بلفظ الأجنبي، بحيث يعتبر أجنبيا كل من ليس وطنيا. وبذلك يكون «الأجنبي» وصفا سلبيا يتصف به كل من لا يحمل جنسية الدولة وفقا لقانونها الوطني. فعلى سبيل المثال، تنص المادة الأولى من القانون المصري رقم 89 لسنة 1960 بشأن دخول وإقامة الأجانب على أن «يعتبر أجنبيا في حكم هذا القانون كل من لا يتمتع بجنسية جمهورية مصر العربية».

وطبقا للمادة الأولى من القانون الاتحادي الإماراتي رقم (6) لسنة 1973 في شأن دخول وإقامة الأجانب، يعتبر أجنبيا «كل من لا يتمتع بجنسية دولة الإمارات العربية المتحدة». وتنص المادة (75/2) من قانون المعاملات المدنية الاتحادي على أن «يقصد بالمواطن حيثما ورد في قانون المعاملات المدنية كل من تثبت له جنسية دولة الإمارات. ويقصد بالأجنبي كل من لم تثبت له تلك الجنسية». ويستفاد من هذين النصين أن المشرع الإماراتي يعرف مصطلح «الأجنبي» بطريقة سلبية بحيث يصدق هذا الوصف على كل من لا يتمتع بالجنسية الإماراتية، يستوي في ذلك أن يكون الشخص متمتعا بجنسية دولة أخرى أو لم يكن متمتعا بأية جنسية على الإطلاق. فالمعيار إذن لاعتبار الشخص أجنبيا هو ثبوت عدم تمتعه بجنسية دولة الإمارات العربية المتحدة.

وتجري غالبية التشريعات العربية على إتباع نفس النهج. ويتسق المنهج المتبع في القانون المقارن مع تعريف «الأجنبي» الوارد في المادة الأولى من الإعلان المتعلق بحقوق الإنسان للأفراد الذين ليسوا من مواطني البلد الذي يعيشون فيه، والتي تنص على أن مصطلح «الأجنبي» ينطبق على «أي فرد يوجد في دولة لا يكون من رعاياها». وقد آثر المشرع الفرنسي إتباع سبيل الإيضاح بحيث قرر صراحة انطباق وصف الأجنبي على عديم الجنسية. إذ أن المادة الأولى من قانون دخول وإقامة الأجانب الصادر سنة 1945 تعرف الأجنبي بأنه «الذي لا يحمل الجنسية الفرنسية سواء كان يحمل جنسية أخرى، أو كان عديم الجنسية».

وعلى هذا النحو فإن عديم الجنسية يعتبر أجنبيا، ويمكن – من الناحية النظرية – إنزال تدبير الإبعاد في مواجهته. غير أن الصعوبة تكمن في تنفيذ هذا الإجراء، إذ قد يتعذر وجود دولة تقبل بالشخص المبعد على أراضيها. ولذلك، نادى فريق من الفقه بضرورة عدم اللجوء إلى إجراء الإبعاد في مواجهة عديم الجنسية. وهكذا، يثور التساؤل عن مدى جواز إبعاد عديمي الجنسية. وقد اضطربت أحكام القضاء في الإجابة على هذا التساؤل، بحيث أجازت بعض الأحكام إبعاد عديم الجنسية (المطلب الأول)، بينما رفضت أحكام أخرى ذلك (المطلب الثاني).

المطلب الأول
جواز إبعاد عديم الجنسية
(اتجاه محكمة تمييز دبي)

قضت محكمة تمييز دبي بأن «إصدار أمر بإبعاد الأجنبي المدان في جناية واقعة على العرض وجوبي. مخالفة الحكم المطعون فيه ذلك وعدم إصداره أمر بإبعاد المتهمة التي أدينت بالمادة 365 عقوبات استنادا إلى أنها بدون جنسية ومقيمة على الدوام بالدولة خطأ في تطبيق القانون». وتتلخص وقائع هذا الحكم في أن النيابة العامة قدمت أربعة متهمات للمحاكمة ووجهت للمتهمة الأولى تهمة إدارة محل للفجور والدعارة وطلبت معاقبتها طبقا للمادة 365 من قانون العقوبات، كما وجهت للمتهمات الثلاث الأخريات تهمة الاعتياد على ممارسة الفجور والدعارة وطلبت معاقبتهن طبقا للمادة 368 من قانون العقوبات. أدانت محكمة أول درجة المتهمة الأولى وعاقبتها بالحبس لمدة ثلاثة أشهر، كما أدانت المتهمات الأخريات وعاقبت كل منهن بالحبس لمدة ثلاثة أشهر مع الأمر بإبعاد كل من المتهمة الثانية والرابعة فور تنفيذ وانقضاء مدة العقوبة. استأنفت المتهمة الأولى والثانية والثالثة هذا الحكم كما استأنفته النيابة العامة، ولوحدة الموضوع والقرار المستأنف تم ضم الاستئنافات الأربعة إلى بعضها البعض ليصدر فيها حكم واحد. وفي جلستها المنعقدة بتاريخ الثامن من يوليو سنة 1992، حكمت محكمة الاستئناف بقبول الاستئنافات الأربعة شكلا وفي الموضوع برفضها وتأييد الحكم المستأنف.

طعن مدعي عام محكمة التمييز في هذا الحكم بالتمييز رقم 40/1992 وطلب إعادة القضية إلى محكمة الاستئناف للفصل فيها من جديد وذلك لإصدار أمر بإبعاد المتهمة الأولى من البلاد. وينعى مدعي عام محكمة التمييز على الحكم المطعون فيه مخالفة القانون إذ قضى بعدم إبعاد المتهمة المميز ضدها وهي أجنبية حال أنها قد أدينت وحوكمت تحت طائلة المادة 365 من قانون العقوبات وقد نصت المادة 121 من قانون العقوبات على وجوب إبعاد الأجنبي في الجنايات الواقعة على العرض. وبعد نظر الطعن، أكدت محكمة التمييز أن هذا النعي في محله، إذ تنص المادة 121 من قانون العقوبات على أنه «إذا حكم على أجنبي بعقوبة مقيدة للحرية في جناية أو جنحة جاز للمحكمة أن تأمر في حكمها بإبعاده عن الدولة ويجب الأمر بالإبعاد في الجنايات الواقعة على العرض».

ومؤدى هذا النص أن إصدار أمر بإبعاد الأجنبي المدان في جناية واقعة على العرض وجوبي وليس أمرا متروكا لتقدير المحكمة، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وساير الحكم الابتدائي بعدم إصدار أمر بإبعاد المتهمة المميز ضدها حال أنها قد (قررت أنها في سبيلها للحصول على الجنسية… (والمراد بالأجنبي هو الشخص الذي يحمل جنسية دولة أخرى أما عن أولئك الذين اصطلح على القول عنهم أنهم بدون جنسية والمقيمون على الدوام بدولة الإمارات وارتبطوا بها ارتباطا وثيقا فانه لا يمكن اعتبارهم في حكم الأجنبي في مفهوم المادة 121 عقوبات)، وغذ كانت الأسباب التي ساقها الحكم المطعون فيه في هذا الشأن لا أساس لها في القانون فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون في هذا الصدد بما يوجب نقضه لهذا السبب وحده والحكم بإبعاد المميز ضدها من البلاد عملا بالمادة 121 من قانون العقوبات».

وفي حكم آخر، قضت محكمة تمييز دبي بأن «النص في المادة الأولى من القانون رقم 6 لسنة 1973 في شأن الهجرة والإقامة على إنه “يعتبر أجنبيا في حكم هذا القانون كل من لا يتمتع بجنسية دولة الإمارات العربية المتحدة” مؤداه – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن من لا جنسية له يعتبر أجنبيا لأنه لا يحمل جنسية دولة الإمارات ومن ثم فإن الطاعن إذ لم ينازع في أنه لا يتمتع بجنسية هذه الدولة فيكون الحكم المطعون فيه غذ قضى عليه بالإبعاد تطبيقا لنص المادة 63 من القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1995 في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية لا يكون قد خالف القانون أو أخطأ في تطبيقه ومن ثم يكون النعي عليه بأسباب الطعن على غير أساس». وتتلخص وقائع هذا الحكم في أن النيابة العامة قدمت المتهم إلى المحاكمة الجزائية في قضية الجناية رقم 370 لسنة 1996 متهمة إياه بتعاطي مواد مخدرة ومؤثرات عقلية هي المورفين والكوكايين ومركب حمض «التترا هيدرو كنا بينول» في غير الأحوال المرخص بها قانونا، وطلبت معاقبته بالمواد 1/1 و2 و6/1 و7 و34 و39 و63 من القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1995 في شأن مكافحة المواد المخدرة والمؤثرات العقلية والجداول أرقام(1) و(2) و(3) المرفقة بالقانون. وبتاريخ الثامن من يونيو 1996، قضت محكمة الجنايات بمعاقبة الطاعن بالسجن مدة أربع سنوات وبإبعاده من البلاد عن تعاطي مادة «التترا هيدرو كنا بينول» وببراءته من تعاطي مادتي المورفين والكوكايين.

استأنف المتهم هذا الحكم ولكن المحكمة قضت بتأييد الحكم المستأنف. طعن المتهم في الحكم بطريق التمييز ناعيا عليه مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه والقصور في التسبيب والفساد في الاستدلال. وقد ورد ضمن أسباب الطعن أن الحكم قد قضى بإبعاده عن البلاد باعتباره أجنبيا في حين أنه من مواليد دبي وقد أنجب أولاده بها وتقدموا بطلبات للحصول على جنسية الدولة ولو كان والدهم أجنبيا ما قبلت طلباتهم وهو وإن كان لا يحمل جنسية معينة إلا أنه لا يجوز إبعاده عن البلاد طالما لم يثبت أنه يعتبر أجنبيا وهو ما يعيب الحكم بما يستوجب نقضه. غير أن محكمة التمييز رفضت هذا النعي مؤكدة المبدأ السابق الإشارة إليه.

المطلب الثاني
حظر إبعاد عديم الجنسية
(اتجاه المحكمة الاتحادية العليا)

بدورها، قضت المحكمة الاتحادية العليا – في أحد أحكامها – بأن من لا جنسية له المقيم بالدولة يعتبر أجنبيا في حكم المادة الأولى من قانون تنظيم وإقامة الأجانب، ولا يغير من ذلك واقعة ميلاده بالدولة. وأكدت المحكمة عدم سريان الحكم الوارد في المادة (22) من قانون العقوبات بشأن مساواة من لا جنسية لهم بالمواطنين بالنسبة إلى الجرائم التي يرتكبونها خارج الدولة على ما يقع منهم من جرائم مما ينص عليه قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب.

وتتلخص وقائع هذا الحكم في أن النيابة العامة اتهمت المطعون ضده بصفته أجنبيا دخل البلاد بتاريخ السابع من سبتمبر سنة 1997 من غير الأماكن المحددة قانونا وفقا للائحة قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب ومن غير أن يكون بحيازته جواز سفر أو أية وثيقة أخرى صالحة أو إذن بالدخول وطلبت عقابه بالمواد 1، 2، 3، 31 من القانون رقم 6 لسنة 1973 المعدل بالقانون رقم 13 لسنة 1996 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب. وبتاريخ 7/9/1997، قضت محكمة البداية بحبسه شهرا وإبعاده عن البلاد. وإذ لم يرتض بالحكم فقد طعن عليه بالاستئناف أمام محكمة استئناف الشارقة التي أصدرت الحكم المطعون فيه الذي قضى بقبول الاستئناف شكلا وفي الموضوع ببراءة المستأنف من التهمتين المسندتين إليه، وضد هذا الحكم كان الطعن الماثل.

وقد طعنت النيابة العامة في هذا الحكم، ناعية عليه القصور في التسبيب والفساد في الاستدلال ومخالفة الثابت في الأوراق، لأنه أقام قضاءه بالبراءة على أن المطعون ضده من مواليد دولة الإمارات العربية المتحدة استنادا إلى شهادة ميلاده التي جاء فيها أنه من مواليد الشارقة بما يكذب تهمة دخول البلاد بصورة غير مشروعة، إذ أن المولد بالدولة وليس له جواز سفر لا يمكنه الخروج من البلاد ومن ثم لا يتصور ارتكابه جريمة دخول البلاد بصورة غير مشروعة، إذ أنه داخل البلاد فعلا. وأن خطابا من الديوان الأميري بالشارقة يفيد أن المستأنف لا جنسية له، وهو بهذا الوصف يتساوى مع المواطن وفقا للمادة (22) من قانون العقوبات، ومن ثم لا يسري عليه أحكام قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب إلى جانب أنه لا يحمل جواز سفر دولة أخرى ليبعد إليها.

وطبقا لرأي النيابة العامة، فإن هذا الذي انتهى إليه الحكم المطعون فيه يخالف الثابت في محضر الشرطة من أن المطعون ضده سبق إدانته عن جرائم الزنا وهتك العرض بالإكراه وتم إبعاده من البلاد بتاريخ 29 يناير سنة 1997، وأنه اعترف بأنه حصل على بطاقة دخل بها إلى سلطنة عمان بعد إبعاده ثم دخل متسللا إلى الدولة عن طريق البريمي. وإذ تجاهل الحكم المطعون فيه هذه الوقائع ولم يرد في أسبابه ما يعارضها، فانه يكون معيبا بالفساد والقصور في التسبيب بما يستدعي نقضه.

وقد قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن نعي النيابة العامة في محله، مؤكدة أنه «لما كانت المادة الأولى من قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب نصت على أنه يعتبر أجنبيا في حكم هذا القانون كل من لا يتمتع بجنسية دولة الإمارات العربية، والثابت في الأوراق ووفقا لما جاء في أسباب الحكم المطعون فيه أن المطعون ضده لا جنسية له، ومن ثم يستحيل منطقا اعتباره مواطنا بل هو أجنبي في حكم قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب، إذ لا يحمل جنسية دولة الإمارات العربية، ولا ينال من ذلك أنه مولود في دولة الإمارات إذ واقعة الميلاد ليست هي معيار تحديد من هو الأجنبي إذ يولد الكثيرون من الأجانب في الدولة ويحتفظون بجنسياتهم إذ الحصول على جنسية الدولة يقتضي القيام بإجراءات معينة واردة في قانون الجنسية ولا يتمتع طالب الجنسية بصفة المواطن إلا بعد صدور المرسوم الرئاسي بمنحه الجنسية إذ هو الدليل الأوحد على تمتع حامله بجنسية الدولة.

ولا يبدل القول في ذلك بما ورد في المادة (22) من قانون العقوبات التي تتناول خضوع المواطن لأحكامها عند ارتكابه جريمة وهو خارج الدولة معاقب عليها بمقتضى أحكام هذا القانون أي قانون العقوبات ولا يمتد حكمها لقانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب إذ الجرائم الخاصة به لا ترتكب خارج الدولة وأن مساواة من لا جنسية لهم واعتبارهم في حكم المواطن إنما هو قاصر على الجرائم التي ترتكب خارج البلاد والتي تعد جريمة معاقبا عليها بقانون العقوبات وحده. هذا إلى جانب أن الحكم المطعون فيه لم يبد رأيه فيما جاء بالأوراق بأن المتهم سبق إبعاده لليمن وأنه اعترف بهذه الواقعة ثم عاد إلى البلاد عن طريق البريمي ومدينة العين التي ليست من المنافذ البرية لدخول الدولة وفقا للمادة الثانية فقرة (ﺠ) من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 6 لسنة 1973 المعدل بالقانون رقم 13 لسنة 96 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب الأمر الذي يعيب الحكم ويؤدي إلى نقضه».

ودون حاجة إلى الخوض في أسباب حكم المحكمة الاتحادية العليا السابق أو تقييم سنده القانوني، ينبغي الإشارة إلى أن أحكام القضاء الاتحادي قد اضطردت بعد ذلك على عدم جواز إبعاد من لا جنسية له المقيم بالدولة. ففي أحد أحكامها، قضت المحكمة الاتحادية العليا بأن «الثابت من تحقيقات النيابة العامة ومن محاضر الشرطة أن المطعون ضده الثاني… بدون جنسية وقد أحالته النيابة العامة إلى المحكمة بهذه الصفة فأوردت في أمر الإحالة أنه بدون جنسية كما أنه أثبت أمام المحكمة أنه ولد في هذا البلد فأتضح من ذلك كله أن ليس له بلد آخر يمكن إبعاده إليه. ومعلوم أن عقوبة الإبعاد المنصوص عليها في المادة 121 من قانون العقوبات إنما يتصور توقيعها على أجنبي له جنسية بلد معين يمكن إبعاده إليه، أما من لا يحمل جنسية دولة معينة فإنه يستحيل إبعاده إلى أي دولة أخرى ومن المقرر أنه لا تكليف بمستحيل. لما كان ذلك وكان الثابت من أوراق الملف أن المطعون ضده الثاني بدون جنسية فإن عقوبة الإبعاد في خصوص التهمة المنسوبة إليه تكون غير واردة بحقه وتكون المحكمة المطعون في حكمها بإسقاطها لهذه العقوبة عنه قد أصابت الصواب وحكمت طبقا لما هو ثابت بالأوراق. ومن ثم يكون الطعن برمته غير قائم على أساس ويجب لذلك رفضه».

وفي حكم آخر، تؤكد المحكمة الاتحادية العليا أن «الذي استقر عليه قضاء هذه المحكمة أن عقوبة الإبعاد لا تسلط إلا على من له بلد آخر يمكن إبعاده إليه أما من لا يحمل جنسية أية دولة فانه يستحيل إبعاده إذ لا يوجد بلد يقبله. لما كان ذلك وكان الثابت من أوراق الملف أن النيابة العامة صرحت في أمر الإحالة الذي أحالت بموجبه المطعون ضدهما إلى المحكمة أنهما لا يحملان أوراقا لإثبات الشخصية (لا جنسية لهما) وثبت ذلك أيضا خلال مختلف التحقيقات معهما كما ثبت أنهما ولدا في هذه الدولة وظلا يقيمان فيها حتى الآن فإن الحكم المطعون فيه الذي قبل استئنافهما للحكم القاضي عليهما بالجلد والإبعاد وحذف عقوبة الإبعاد عنهما بسبب عدم وجود أوراق لإثبات الشخصية عندهما يكون قد أصاب في تطبيق القانون ولم يخطئ فيه ومن ثم يكون النعي بلا أساس ويتعين رفضه».

وفي حكم ثالث، تقول المحكمة الاتحادية العليا أنه «لما كانت المادة الأولى من القانون رقم 6 لسنة 73 المعدل بالقانون رقم 13 لسنة 96 بشأن تنظيم دخول وإقامة الأجانب نصت على أنه (يعتبر أجنبيا في حكم هذا القانون كل من لا يتمتع بجنسية دولة الإمارات العربية المتحدة) والثابت من الأوراق وما قرره الحكم في أسبابه من أن المطعون ضده بدون جنسية أي لا يحمل جنسية دولة الإمارات العربية المتحدة ومن ثم فهو أجنبيا وفقا لأحكام قانون تنظيم دخول وإقامة الأجانب وتسري في حقه جميع العقوبات والأوامر الواردة به ومن ثم يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تطبيق القانون إذ قضى ببراءة المتهم من الجرائم المسندة إليه.

أما عن أمر الإبعاد فإن المستقر في قضاء هذه المحكمة هو وجوب إصداره إلا إذا تبين للمحكمة من واقع الدعوى عدم انتماء الأجنبي إلى بلد معين يمكن إبعاده إليه وفي هذه الحالة يتعذر إصدار أمر بالإبعاد لاستحالة تنفيذه وإذ لم يرد في مدونات الحكم ما يشير إلى أن المطعون ضده ليس له بلد يبعد إليه فإنه يكون معيبا بالقصور في الأسباب بما يتعين معه نقضه».

المبحث الثالث
الوسائل القانونية لمنع التضارب في الأحكام

رأينا فيما سبق أن المحاكم الاتحادية تمارس اختصاصات القضاء الاتحادي، كما تمارس اختصاصات القضاء المحلي في بعض الإمارات. وقد رأينا أن احتفاظ بعض الإمارات بقضاء محلي مستقل من شأنه أن يؤدي إلى التضارب والتعارض بين الاجتهاد القضائي للمحكمة الاتحادية العليا والاجتهاد القضائي للمحاكم العليا المحلية الموجودة في بعض الإمارات (أبو ظبي – دبي – رأس الخيمة).

ونعتقد أن السبل القانونية لمنع التضارب في الأحكام تكمن في أمرين، هما: الجمع بين المنطق القضائي والمنهج القانوني في الرقابة على حسن تطبيق القانون (المطلب الأول)، وتخويل المحكمةالاتحادية العليا الاختصاص بتفسير نصوص القوانين الاتحادية (المطلب الثاني).

المطلب الأول
الجمع بين المنطق القضائي والمنهج القانوني
في الرقابة على حسن تطبيق القانون

لا يمكن للمحكمة الاتحادية العليا أن تضمن وحدة كلمة القانون في أحكام القضاء ما لم تضمن في الوقت ذاته سلامة المنطق القضائي الذي ينبني عليه استخلاص الواقع. فالمنطق المعوج في استخلاص واقع الدعوى يقود إلى تطبيق معوج للقانون، لأن التحكم في الواقع لابد أن يسفر عن خطأ في القانون.

وتبدو قواعد المنطق القضائي في مجال الرقابة على تسبيب الأحكام، بما يسمح بضمان سلامة هذا المنطق كخطوة لازمة نحو وحدة كلمة القضاء في حسن تطبيق القانون. ويتجلى ذلك واضحا في القواعد الحاكمة لسلطة المحكمة في استخلاص الدليل بطريق الاستنتاج والاستقراء وكافة الممكنات العقلية، أو القواعد المتعلقة بحق المحكمة في استنباط الحقيقة بطريق الاستنتاج والاستقراء وكافة الممكنات العقلية طالما اتفق ذلك مع العقل والمنطق. ومن خلال هذه القواعد، يمكن تحديد عيوب التسبيب التي تكشف عن اعوجاج منطق الحكم، واستجلاء عيوب القصور في البيان والفساد في الاستدلال والخطأ في الإسناد. فالأسس التي يقوم عليها المنطق القضائي هي المدخل نحو حسن تطبيق القانون.

ومن خلال رقابة المحكمة الاتحادية العليا على المنطق القضائي لمحكمة الموضوع، تساهم المحكمة في الاقتناع العام بعدالة الأحكام التي تتأبى ما لم تكن مبنية على منطق سليم، وتساهم بذلك في ضمان الأمن القانوني للحيلولة دون الخطأ في تطبيق القانون تحت تأثير الخطأ في الواقع الذي يعتبر مجرد هيكل عظمي يكسوه القانون، فإذا كان الهيكل معوجا أو مشوها انعكس ذلك على تطبيق القانون(4).

المطلب الثاني
تخويل الاتحادية العليا الاختصاص بتفسير نصوص القوانين الاتحادية

وطبقا للمادة (99) من الدستور الإماراتي، تختص المحكمة الاتحادية العليا بالفصل في بحث دستورية القوانين الاتحادية، إذا ما طعن فيها من قبل إمارة أو أكثر لمخالفتها لدستور الاتحاد، وبحث دستورية التشريعات الصادرة عن إحدى الإمارات، إذا ما طعن فيها من قبل إحدى السلطات الاتحادية، لمخالفتها لدستور الاتحاد، أو للقوانين الاتحادية، بحث دستورية القوانين والتشريعات واللوائح عموما، إذا ما أحيل إليها هذا الطلب من أية محكمة من محاكم البلاد أثناء دعوى منظورة أمامها وعلى المحكمة المذكورة أن تلتزم بقرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر بهذا الصدد، تفسير أحكام الدستور إذا ما طلبت إليها ذلك إحدى سلطات الاتحاد، أو حكومة إحدى الإمارات، ويعتبر هذا التفسير ملزما للكافة.

ويعني ذلك أن المحكمة الاتحادية العليا هي الجهة المنوط بها رقابة دستورية القوانين الاتحادية والمحلية وتفسير أحكام الدستور. ويعد تفسيرها لأحكام الدستور ملزما للكافة.

غير أن المشرع الدستوري الإماراتي لم ينص صراحة على سلطة المحكمة في تفسير نصوص القوانين الاتحادية، على خلاف الوضع المقرر في بعض التشريعات المقارنة التي تنص صراحة على تخويل جهة الرقابة على الدستورية سلطة تفسير نصوص القوانين إذا أثارت خلافا في التطبيق. فعلى سبيل المثال، تنص المادة (175) من الدستور المصري على أن «تتولى المحكمة الدستورية العليا دون غيرها الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح، وتتولى تفسير النصوص التشريعية وذلك كله على الوجه المبين في القانون ويعين القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة وينظم الإجراءات التي تتبع أمامها». وتضيف المادة (178) من الدستور المصري أنه «تنشر في الجريدة الرسمية الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية العليا في الدعاوى الدستورية والقرارات الصادرة بتفسير النصوص التشريعية…».

واتساقا مع هذه الأحكام الدستورية، تنص المادة (26) من قانون إنشاء المحكمة الدستورية العليا في مصر على أن «تتولى تفسير نصوص القوانين الصادرة من السلطة التشريعية والقرارات بقوانين الصادرة من رئيس الجمهورية وفقا لأحكام الدستور وذلك إذا أثارت خلافا في التطبيق وكان لها من الأهمية ما يقتضي توحيد تفسيرها». وتنص المادة (48) الفقرة الأولى من قانون المحكمة على أن «أحكام المحكمة في الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة». ومؤدى هذا النص أن التفسير القضائي الصادر عن المحكمة الدستورية العليا هو تفسير ملزم، على خلاف الأصل المقرر في شأن التفسير القضائي.

وقد كان المأمول أن يحذو المشرع الدستوري الإماراتي حذو الدستور المصري في هذا الشأن، وبحيث تغدو المحكمة الاتحادية العليا هي الأمينة على القوانين الاتحادية والسلطة الساهرة على التطبيق السليم لها.

المبحث الرابع
الفوائد العملية لتوحيد جهة النقض
في دولة الإمارات العربية المتحدة

ولما كان واضعو الدستور يحدوهم الأمل في تحقيق وحدة قضائية بين الإمارات الأعضاء فقد جاء نص المادة 105 من الدستور المؤقت والذي أجاز بقانون إتحادي يصدر بناء على طلب الإمارة المعنية، نقل كل أو بعض الاختصاصات التي تتولاها هيئاتها القضائية المحلية بموجب المادة 104 إلى المحاكم الاتحادية الابتدائية.

وقد تحقق هذا الأمل بصدور القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 1978م في شأن إنشاء محاكم اتحادية ونقل اختصاصات الهيئات القضائية المحلية في بعض الإمارات إليها، متضمنا في مادته الأولى أن (تكون محاكم البداية القائمة في عواصم إمارات أبو ظبي والشارقة وعجمان والفجيرة وقت العمل بهذا القانون محاكم اتحادية ابتدائية، كما تكون محاكم البداية القائمة في غير تلك العواصم من مدن ومناطق تلك الإمارات دوائر تابعة لتلك المحاكم الاتحادية الابتدائية.
وتكون المحاكم الاستئنافية القائمة في عواصم الإمارات سالفة الذكر محاكم استئنافية اتحادية).

كما نص في مادته الثانية على أن (ينقل إلى المحاكم الاتحادية المنصوص عليها في المادة السابقة الاختصاصات التي تتولاها الجهات القضائية المحلية القائمة في الإمارات المشار إليها) وبذلك أصبح القضاء في كل من إمارات أبو ظبي والشارقة وعجمان والفجيرة – ثم انضمت إليهم أخيرا إمارة أم القيوين – قضاء اتحادي وتلاشى فيهم الازدواج القضائي ولم يبق خارج القضاء الاتحادي سوى إمارتي دبي ورأس الخيمة. وهكذا يمكن القول أنه بصدور هذا القانون تحقق إلى حد كبير وحدة القضاء داخل دولة الإمارات العربية المتحدة(5).

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.