الاهتمامات والنصوص الدولية بشأن العدالة الجنائية
مما لا شك فيه أن الأمم المتحدة خطت خطوات هامة في ميدان حقوق الانسان استهدفت تعزيز حماية هذه الحقوق والعمل على وضع ترتيبات على المستوى الاقليمي والدولي لإصدار وتنفيذ الصكوك الدولية الصادرة في هذا الشأن.

وإذا كانت مشكلة ضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة قد أثارت اهتمامات متزايدة في السنوات الأخيرة، فإن اهتمامات المتخصصين في علم ضحايا الجريمة جذب انتباه المجتمع الدولي لهذه المشكلة ولزوم استحداث الوسائل لتوفير سبل الانتصاف.

وقد رؤي عند إدراج موضوع (ضحايا الجريمة) في جدول أعمال مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، لزوم الاهتمام في سياق أوسع عماك ان عليه سابقاً بحالة ضحايا الجريمة التي اتفقت الآراء إجمالاً على أن أي مشروع إعلان يعتمده المؤتمر، ينبغي أن يشمل على الأقل (الضحايا) الذين ينبغي تعريفهم بالرجوع حصراً إلى القوانين الجنائية الوطنية السائد.

وقد أكد الإعلان الصادر عام 1985م بالقرار 40/34 عن الجمعية العمومية على لزوم اتخاذ تدابير وطنية ودولية من أجل ضمان الاعتراف العالمي والفعال بحقوق ضحايا الجريمة وضحايا إساءة استعمال السلطة، واحترام هذه الحقوق. وطلبت إلى الدول الأعضاء اتخاذ الخطوات اللازمة لإنفاذ الأحكام الواردة في الإعلان الذي ينقسم إلى جزئين، يتعلق أولهما بضحايا الجريمة، الذين يعرفهم بأنهم الأشخاص الذين أصيبوا بشكل فردي أو جماعي، بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية أو الخسارة الاقتصادية،

أو الحرمان بدرجة كبيرة من التمتع بحقوقهم الأساسية، عن طريق أفعال أو حالات إهمال تشكل انتهاكاً للقوانين الجنائية النافذة في الدول الأعضاء، بما فيها القوانين التي تحرم الإساءة الجنائية لاستعمال السلطة، ويتعلق الجزء الثاني من الإعلان، بضحايا إساءة استعمال السلطة، ويعرفهم بالأشخاص الذين أصيبوا بضرر فردياً أو جماعياً بما في ذلك الضرر البدني أو العقلي أو المعاناة النفسية، أو الخسارة الاقتصادية، أو الحرمان، بدرجة كبيرة من التمتع بحقوقهم الأساسية عن طريق أفعال أو حالات إهمال لا تشكل حتى الآن انتهاكاً للقوانين الجنائية الوطنية، ولكنها تشكل انتهاكات للمعايير الدولية المعترف بها والمتعلقة بحقوق الانسان.

وينص هذا الجزء على دعوة الدول إلى أن تنظر في إمكانية إدراج قواعد في قوانينها الوطنية لتحريم إساءة استعمال السلطة والنص على سبل الانتصاف لضحاياها، وأن تستعرض بصفة دورية التشريعات والممارسات القائمة لضمان استجابتها للظروف المتغيرة وأن تقوم عند الاقتضاء بسن وتنفيذ تشريعات تحرم الأفعال التي تشكل إساءات خطيرة لاستعمال السلطة السياسية والاقتصادية.

وقامت الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة بدراسات هامة، واستقصاءات كثيرة حول حالة الضحايا، على ضوء الخبرات السابقة لاعتماد الإعلان والخبرة للاحقة لاعتماده، ووجدت أن العمل المستقبلي يتطلب ليس فقط الاهتمام بسن وتنفيذ تشريعات جديدة في هذا الشأن ولكنه يتطلب أيضاً الاستفادة من الخبرات السابقة وأوصت عند اعتماد الجمعية لقرارها 40/34 بشأن الإعلام بلزوم اتخاذ الخطوات الهامة لإنفاذ الأحكام الواردة فيه وبخاصة منها ما يتعلق بتنفيذ سياسات اجتماعية وصحية وتعليمية واقتصادية وسياسية مخصصة لمنع الجريمة وتشجيع جهود المجتمعات المحلية واشتراك الجمهور في منع الجريمة، واستعراض دوري لما لديها من قوانين وممارسات لضمان الاستجابة للظروف المتغيرة.

وتشجيع الكشف عن المعلومات المناسبة لإظهار سلوك الموظفين الرسميين وسلوك الشركات أمام الجمهور ليدقق فيه وتشجيع التقيد بمدونات قواعد السلوك والآداب ولا سيما المعايير الدولية من جانب موظفي الخدمة العامة. وحصر الممارسات والإجراءات التي تفضي إلى إساءة استعمال السلطة وتشجيع ورعاية الأنشطة التدريبية والأبحاث التعاونية ذات المنحى العلمي للحد من الإيذاء ومساعدة الضحايا واستحداث الطرق والوسائل لتوفير سبل الانتصاف للضحايا، وبإيلاء اهتمام مستمر لتنفيذ إعلان مبادئ العدل الأساسية المتعلقة بضحايا الإجرام والتعسف في استعمال السلطة.

وقد كنا أشرنا سابقاً إلى النصوص الواردة في صكوك ووثائق الشرعة الدولية لحقوق الانسان التي تؤكد على حق كل فرد في الحياة والحرية، وفي الأمان على شخصه، وتحريم التعذيب، وحق كل شخص باللجوء إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها الدستور والقانون الخ. وقد تكرر مضمون هذه النصوص اضافة إلى نصوص أخرى في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وأوجبت إبلاغ أي شخص يتم اعتقاله بأسباب هذا الاعتقال وإبلاغه بأية تهمة توجه إليه وتقديمه للقضاء على وجه السرعة.

ومع أن الاهتمام بدراسة حق كل شخص في عدم التعرض للاعتقال أو الاحتجاز بدأ في إطار لجنة حقوق الانسان منذ عام 1956م إلا أن مشروع صياغة مبادئ حول هذا الموضوع لم يتبلور إلا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين. وبناء على دراسات سابقة قامت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات في عام 1976م بتعيين مقرر خاص لإعداد مسودة أولى لمجموعة من المبادئ لحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن.. الخ.

وقد استمرت الجهود لإنجاز المشروع الذي لا يزال قيد البحث.. وهذا المشروع يتكون من 37 مبدأ تنطبق على جميع الأشخاص داخل إقليم أية دولة معنية دون تمييز من أي نوع وهو يشدد في أحكامه على وجوب المعاملة الانسانية لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، مع عدم تقييد أي حق من حقوق الانسان الأساسية. وحصر السجن والاحتجاز بالسلطة القضائية والتأكيد على منع التعذيب. والفصل بين المدان المحكوم عليه، والموقوف، وإعلام كل معتقل بسبب اعتقاله وإتاحة حق الدفاع له بسرعة.. إلى آخر ما هنالك من مبادئ متفرعة عن الأسس الواردة في شرعة الأمم المتحدة..

هذا، وقد قررت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات في عام 1972م أن تستعرض سنوياً التطورات المتعلقة بحقوق الانسان للأشخاص والمعرضين لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن آخذة في الاعتبار أي معلومات مشهود بصدقها ترد من الحكومات والوكالات المتخصصة، وقد أفادت منظمة العفو الدولية مثلاً أن أجهزة المراقبة فيها لازالت تتلقى شكاوى بشأن انتهاكات حقوق الانسان. وتضمنت التقارير والشكاوى الواردة، ادعاءات بانتهاكات خطيرة ومتكررة لحقوق المحتجزين في أكثر من1 28 بلداً.

وتشمل هذه الانتهاكات ممارسات متنوعة كالوفاة أثناء الاحتجاز، والإعدام بلا محاكمة، أو محاكمة مقتضبة، وعقوبة الإعدام وحالت الاختفاء القسري، والتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو المهينة واللاانسانية واحتجاز الكثيرين ممن هم أكثر عرضة للتضرر كالنساء، والأطفال، وأفراد الأقليات الإتنية، والبرلمانيين، والصحفيين، والكتاب والمدافعين عن حقوق المحتجزين واحتجاز الأشخاص الذين يسعون إلى ترك البلد أو العودة إليه، والحبس الانفرادي وعمليات التوقيف والاحتجاز لأسباب مبهمة أو بلا سبب على الاطلاق والاحتجاز الإداري بدون تهمة أو محاكمة.

ومن الحالات الكثيرة التي تشير إليها التقارير عن التعذيب وأنواعه وعن اختفاء المئات من الذين يجري احتجازهم، ومن حالات الاحتجاز الطويلة لعشرات السنين بدون محاكمة عادلة، يبدو جلياً أن حقوق الانسان تمر في أقصى امتحان في العديد من البلدان رغم جهود الأمم المتحدة ورغم الاتفاقيات والمواثيق لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاانسانية أو المهينة، ومن المؤسف جداً أن هذه الصورة الكالحة كما يبدو من التقارير توجد على الأخص في البلدان المتخلفة، وأن الدول العربية مصنفة بين البلدان التي تحصل فيها هذه الممارسات.

مع ذلك تستمر الجهود لترجمة المعايير والمبادئ التي وضعتها الأمم المتحدة عملياً، وفي هذا لابد من اتخاذ اجراءات مناسبة على الصعيدين الوطني والدولي.

وقد أشير في العديد من الاجتماعات التحضيرية لمؤتمرات الأمم المتحدة لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، إلى وجوب استحداث طرق وإجراءات أكثر فعالية لتنفيذ قواعد ومبادئ الأمم المتحدة في مجال القضاء الجنائي على المستوى الوطني. وكل ذلك يعتمد اعتماداً كبيراً على رغبة الدول الأعضاء في قبولها وتنفيذها. وإدماجها في التشريعات والممارسات الوطنية.

وعلى الصعيد الاقليمي تعتمد الأمم المتحدة في تنفيذ قواعدها ومبادئها التوجيهية في مجال العدالة الجنائية على معاهد الأمم المتحدة الاقليمية لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين وتعتبر شبكة معاهد الأمم المتحدة الاقليمية الهيكل الأساسي والرئيسي لأنشطة التعاون التقني على الصعيدي الاقليمي ودون الاقليمي، وهي تعقد على أساس دوري حلقات دراسية ودورات تدريبية وتقدم منحاً تستهدف بين جملة أمور، نشر قواعد الأمم المتحدة ومبادئها التوجيهية في مجال العدالة الجنائية وتبادل المعلومات والخبرات وتكييف تنفيذ الصكوك وفقاً للاحتجاجات والأولويات الخاصة ببلدان المنطقة.

وعلى الصعيد الدولي تعتمد فعالية الصكوك في مجال القضاء الجنائي على رغبة الدول في قبولها ووضعها موضع التطبيق

. وللمنظمات الحكومية الدولية أثرها الكبير في هذا الشأن ومثال ذلك قيام مجلس أوروبا بمساعدة الحكومات الأوروبية في تنسيق تشريعاتها المتعلقة بالقانون الجنائي وإجراءاته ولوائح السجون وفقاً لمعايير الأمم المتحدة. وقد كان ممكناً للجامعة العربية أن تقوم بنشاط فعال في هذا الشأن لكن السقم الذي تعانيه هذه الجامعة أبقى على دورها الهامشي منذ تأسيسها