بواسطة dorra ben mohammed

المقدمـــــــــة:

التاريخ 10 ديسمبر 1996 ، الحدث الذكرى الثامنة والأربعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والكلمة لسيادة رئيس الجمهورية « إن نبل رسالة الإنسان في الكون تجعل منه هدف كل إصلاح وغاية كل بناء ، لذلك أولينا حقوق الإنسان ببعيديها الكوني والشامل مكانة رفيعة في سلم اهتماماتنا منذ فجر التغيير وعملنا على تكريسها دون مفاضلة بين أصنافها ، وقناعتنا راسخة أن تأمين الحقوق السياسية والمدنية لا ينفصل عن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولا يكتمل بدونها، وأنه سعينا متواصل للارتقاء بحقوق الإنسان في ضوء هذه المبادئ بعزم وإيمان وإرادة لا تنثني ، وقد أذنا خلال السنة الحالية بعديد الإجراءات لدفع مسار الديمقراطية . كما شملنا بتلك المبادرات تطوير سبل حماية حقوق المتقاضيين وتقريب القضاء منهم بما يراعي مصالحهم ويجسد قيم دولة القانون والمؤسسات وتحقيق العدالة والإنصاف»
كما أن الحماية الحقيقية والصحيحة لحقوق الإنسان ، تفترض الاعتراف بحق التقاضي لكل الأفراد أمام المحاكم العدلية والإدارية . وهو حق قد عوض القصاص الفردي الذي كان يخول للفرد أن يستفي حقه من الأخر دون أي رادع ولاراد .
فهو السبيل لإقامة العدل في المجتمع وتحقيق المساواة بين المواطنيين وهو المكرس لسيادة الدولة الضامنة لتطبيق القانون بواسطة إحدى سلطاتها والمتمثلة في السلطة القضائية .
ولكن إقرار الحقوق والاعتراف بها للانسان لم يكن بالأمر السهل وإنما شهدت فكرة حقوق الإنسان عبر التاريخ محطات كثيرة مضيئة تارة ومظلمة تارة أخرى ، إلى أن شهد التاريخ الإنساني مولد عصر جديد يقوم على إحترام الذات البشرية وتقديس الحريات الأساسية والذود عنها .
ويمكن تعريف هذه الحقوق بكونها « مجموعة الحقوق الطبيعية والمرتبطة ارتباطا وثيقا بطبيعة الإنسان الآدمية البشرية والمضمنة بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان والدساتير والقوانين »
فالحق لغة كما عرفه إبن منظور في مؤلفه لسان العربّ هو نقيض الباطل ويقال حاقه في الأمر أي إدعى أنه أولى بالحق منه . أما التقاضي فأصلها مشتقة من قضى أي قطع وفصل والقضاء هو القطع والفصل والحكم في الأمر ويقال إقتضيت مالي أي قبضته وأخذته .
أما اصطلاحا فحق التقاضي ، هو حق الشخص أو المجموعة أو الدولة في اللجوء إلى القضاء أي المحاكم المختصة المنتصبة في الدولة أو خارجها للفصل في القضايا والنزاعات التي يمكن أن تنشأ بين المواطنين. ولئن كان هذا الحق يشمل في الواقع كل الأشخاص طبيعية كانت أو معنوية كالشريكات والجمعيات والدول طالبين كانوا أو مطلوبين ، فإنه من واجبنا الاقتصار على الصنف الثاني من الأشخاص والتعرض لحق التقاضي بالنسبة للأفراد في إطار حقوق الإنسان.
فالحق في التقاضي يقوم مقام الحريات المضمنة قانونا ولا يمكن الحرمان منها . فهو حق اختياري يمكن ممارسته أو عدم ممارسته بإعتبار أن الدعوى المدنية إنما تحمي حقوقا قابلة للترك والتنازل رغم أن بعض الفقهاء و منهم الفقيه الألماني IHRING اعتبر أن الحق في التقاضي ليس حقا اختياريا وإنما هو من الواجبات المحمولة على الفرد .
إضافة إلى ذلك فالحق في التقاضي لا يعني اللجوء إلى المحاكم عند وجود نزاع فقط بل حتى في غيابه مثل الأعمال الولائية للقضاء و الأذون على العرائض والإجراءات الخاصة بالتسجيل العقاري.
ومن نتائج ممارسة هذا الحق إلتزام السلطة القضائية بالنظر في الدعوى المرفوعة أمامها والبت فيها . هكذا يعد الحق في التقاضي حقا عاما يعترف به قانونا لكافة المواطنين بما يجعله سلطة قانونية دائمة تضمن إقامة العدل والمساواة.
لذا وبوصفه حقا من حقوق الإنسان التي حازت على إهتمام المجموعة الدولية منذ زمن ، يمكن التساؤل عن تجليات حق التقاضي في التشاريع القانونية وعلى المستوى التطبيقي. و للإجابة عن هذا الإشكال وجب التعرض في:

الجزء الأول التكريس التشريعي للحق في التقاضي
الجزء الثاني التكريس التطبيقي للحق في التقاضي
I الجزء الأول: التكريس التشريعي للحق في التقاضي
لئن أكّد ابن خلدون في مقدمته على أنّه ” مهمة القضاء هي الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع” فإنّ إدراك هذه الغاية يكون بإقرار حق التقاضي . ومن البديهي أن تهتم به الصكوك الدولية وتعطيه مكانة هامة (فقرة أولى) و تعزز على المستوى الوطني (فقرة ثانية).
فقرة أولى: تكريس الحق في التقاضي في الصكوك الدولية
إنّ تكريس هذا الحق على المستوى الدولي يتضح من خلال المواثيق والمعاهدات الدولية والإفريقية وكذلك العربية وسنتناول ذلك في عنصرين: المشهد العالمي (1) والمشهد الإقليمي (2).
1) المشهد العالمي
تعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان المرجع الأول لكل الحقوق ،حيث يتفرع عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948و العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية.
– فبالنسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد نصت المادة 8 منه على أنه “لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون”.
وهو نص يضمن -لكل إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو انتماؤه لأثنى الحق في رفع دعواه أمام المحاكم قصد إنصافه والحصول على ما يرتضيه من حقوق.
أمّا في ما يخصّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بما هو تتمة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فقد نصّت المادّة الثانية فقرة ثالثة أن “كل فرد من حقه الالتجاء للأجهزة القضائية…» كما نصت المادة الثامنة على أنه «تتعهد كلّ الأطراف في هذا العهد بأن تكفل توفير سبيل فعّال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه وحرياته المعترف بها في هذا العهد”.[1]
– الاتفاقيات الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادرة في 22/12/1965. والتي نصت المادة السادسة منها على أن “تكفل الدول الأطراف لكل إنسان داخل في ولايتها حق الرجوع إلى المحاكم الوطنية وغيرها من مؤسسات الدولة المختصة لحماية ورفع الحيف عنه على نحو فعّال وكذلك حقّ الرجوع إلى المحاكم المذكورة التماسا لتعويض عادل مناسب أو ترضية عادلة مناسبة من أي ضرر لحقه كنتيجة لهذا التمييز”.
2) المشهد الإقليمي
يتضمن العديد من اتفاقيات التي ينحصر تطبيقها في إقليم معيين والتي تكرس بدورها حق التقاضي من بينها:

– الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
اقتضت المادة السادسة منها أنّه: ” لكل شخص الحق في أن يجد محكمة مستقلة وغير متميزة وذلك للفصل في دعواه بطريقة عادلة وعلنية وخلال مدّة معقولة وهذه المحكمة تفصل في المنازعات الخاصة بالحقوق والامتيازات المدنية”.[2] يمكن أن نستنتج من هذا الفصل بان كل محكمة ملزمة بالنظر والبت في كل نزاع يعرض عليها.
– الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان:
اعتمد الميثاق من طرف مؤتمر القمة لرؤساء الدول والحكومات الإفريقية وذلك بمدينة نيروبي في جوان 1981 في نطاق منظمة الوحدة الإفريقية والتي أصبحت تسمى اليوم الإتحاد الإفريقي .أكد هذا الميثاق على الحق في التقاضي واللجوء إلى المحاكم ذات الإختصاص .
– اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول إتحاد المغرب العربي:
تم توقيعيها برأس الأنوف بالجماهيرية الليبية في المدة الفاصلة بين 2 إلى 10 مارس 1991 وقد صادقت عليها تونس بمقتضى القانون عـدد 3 لسنة 1991 المؤرخ في 29 نوفمبر 1991. اقتضى الفصل 9 من القسم الثاني تحت عنوان “ضمان حق التقاضي” إنّ “مواطني كلّ طرف متعاقد يتمتعون بحق التقاضي أمام الهيئات القضائية ببلدان الأطراف الأخرى للمطالبة بحقوقهم والدفاع عنها”.كما ورد أيضا بالفصل11أنه “يتمتع مواطنوا الأطراف المتعاقدة ببلد كل منهما بالحق في الحصول على المساعدة القضائية”.
الفقرة الثانية: التكريس الوطني لحق التقاضي
لئن كان حق التقاضي مكرسا على مستوى المواثيق الدولية فمن الطبيعي جدا أن يكون لهذا الحق أهمية جد بالغة على المستوى الوطني وخاصة من دولة صادقت على أغلب الصكوك. لذا فانه من واجبنا بمناسبة هذه المحاولة التعرض إلى تكريس هذا الحق على مستوى الدستور من جهة (1) والقانون الجزائي من جهة أخرى (2) وبقية المجلات القانونية الأخرى (3).
1) الدستور
ينص الدستور التونسي في توطئته وتحديدا صلب الفقرة قبل الأخيرة منها “ونعلن أن النظام الجمهوري هو خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهة”. و قد كرس الدستور التونسي صراحة حق التقاضي صلب بعض فصوله مثال ذلك الفصل 6 منه والذي ينص على أن “كل المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون”. وكذلك الفصل 12 أن “كل متهم يعد بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه”.
عموما أنّ حق التقاضي مبدأ آمنت به تونس وعملت على تأكيده و على مزيد تفعيله على مستوى بقية النصوص الوطنية الأخرى.
2) في القانون الجزائي
بما أنّ القانون هو الضامن لإقامة العدل والمساواة والضامن للحقوق والحريات وأهم مقوم من مقومات سيادة الدولة التونسية فقد عملت دواتنا على تكريس الحق في التقاضي على مستوى المجلات القانونية ولعل أهم هذه المجلات المجلة الجزائية. التي كرست مبدأ وحدة القضاء و استقلاليته و ألغت محكمة أمن الدولة و وفرت الضمانات اللازمة للمتقاضين و راجعت مسالة الإحتفاظ و الإيقاف التحفظي
كما أنه لا بدّ من الإشارة إلى مزيد تفعيل هذا الحق على مستوى القانون الجزائي التونسي وخاصة من خلال إقرار مبدأ هام وجدّ أساسي وهو مبدأ التقاضي على درجتين في المادة الجنائية وذلك بموجب القانون عدد 43 لسنة 2000 المؤرخ في 17/04/2000. إنّ هذا المبدأ هو مبدأ جد هام وله تداعيات جد مهمة على أرض الواقع من خلال منح فرصة جديدة للمتقاضي في الدفاع عن حقوقه والطعن في الحكم الأول قبل الوصول إلى محكمة القانون. هذا على مستوى القانون الجزائي أمّا تكريس حق التقاضي على مستوى القانون المدني وغيره فهو ما سيكون موضوع الفرع الأخير من هذا العنصر.
3) في القانون المدني و القوانين الأخرى
لقد نص الفصل 19 م م م ت على أنّ “حق القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة وأهلية تخوّل له حق القيام بطلب ما له من حق وأن تكون للقائم مصلحة للقيام”. وهو فصل أقر بصورة صريحة حق التقاضي لكل شخص دون أي تميّز ولكن بشرط توفر الصفة والمصلحة و الأهلية في القيام و هو ما أكدته محكمة التعقيب في قرارها عدد13432 المؤرخ في 6 جوان1986 أن” حق القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة و أهلية تخولانه حق القيام في طلب ما له من حق و أن يكون للقائم مصلحة في القيام” .
أمّا مجلة الالتزامات والعقود فقد كرست هذا الحق بصورة صريحة صلب بعض فصولها من ذلك الفصل 99، الذي أكد أنه “للمجاورين حق القيام على أصحاب الأماكن المضرة بالصحة أو المكدرة لراحتهم”. كما نص الفصل 306 من نفس المجلة أنه “إذا لم يتيسر لأرباب الديون الخلاص فيما لهم على المدين وكانت له حقوق على الغير كان لهم عرض قضيتهم على المحكمة”.
كما أنّ مجلة الحقوق العينية نصت صلب الفصل 110 على أنّ “حق القيام بالشفعة يمتد إلى ورثة الشفيع”.
وفي جميع الأحوال فإن الحق في التقاضي قد ورد التنصيص عليه صراحة أو ضمنيا صلب أغلب المجلات القانونية الأخرى كالمجلة التجارية ومجلة التهيئة الترابية، ومجلة التأمين ومجلة التجارة البحرية وكذلك مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية. وهي نصوص تقيم الدليل على التكريس التشريعي للحق في التقاضي في تونس.
إضافة إلى هذه المجلات القانونية فإنه استكمالا لتركيز دعائم حقوق الإنسان عامة والحق في التقاضي خاصة، فإنّه قد تمّ إقرار عديد القوانين والأوامر الترتيبية الداعمة لهذا التوجه٠ لكنه قد يتعذر علينا في محاولتنا هذه الإلمام بها جميعا لذلك من الواجب التعرض لبعضها على سبيل الذكر لا الحصر مثال الأمر المحدث لدوائر الشغل بالمحاكم الإبتدائية في 20/10/1994 في إطار تدعيم حق العامل في التقاضي[3].
كما أعلن رئيس الجمهورية في 07/11/1995[4] عن إصلاحات هامة تتعلق بالقضاء الإداري معتدا مبدأ التقاضي على درجتين لدى المحكمة الإدارية وتقريب القضاء الإداري من المتقاضين من خلال تنظيم جلسات دورية بالجهات.
ومن هنا تتضح مدى أهمية حق التقاضي كأحد أهم حقوق الإنسان ، فما هي أهم تجليات هذا الحق على المستوى التطبيقي؟

ΙΙ الجزء الثاني : التكريس التطبيقي للحق في التقاضي

قد تكون الفائدة غير مجدية من بيان أن حق التقاضي هو حق مكرس في كل الصكوك الدولية و القوانين الداخلية ما لم نبين انعكاس هذا الاعتراف النظري لحق التقاضي على المستوى التطبيقي من خلال ( أولا ) الممارسة التطبيقية لحق التقاضي في تونس و(ثانيا) علاقة حق التقاضي بعدالة التنفيذ
الفقرة الأولى: الممارسة التطبيقية للحق في التقاضي في تونس
من أهم تداعيات مبدأ المساواة بين الأشخاص أمام القانون مبدأ المساواة بين المتقاضين، ذلك أنّ حق التقاضي هو حق مشروع مخوّل لجميع الناس على قدم المساواة٠ لذلك مكّن المشرع من القيام به في نطاق مشروع من خلال وضع ضوابط و شروط للقيام حسب الفصل 19 م م م ت وإتباع الإجراءات الشكلية في آجال معيّنة و هو ما أكده القرار لتعقيبي المدني عـ13432دد المؤرخ في 6 جوان 1985 ” أن القيام لدى المحاكم يكون لكل شخص له صفة و أهلية تخولانه حق القيام بطلب ما له من حق و أن تكون للقائم مصلحة في القيام”.
وقد أحاط المشرع حق التقاضي بجملة من الضمانات عند القيام بالدعوى وما بعد القيام بها.
1) الضمانات عند القيام
تتمثل هذه الضمانات عند القيام في حق اللجوء إلى المحاكم باعتباره حقا اختياريا، حيث يتساوى جميع المواطنين حسب الفصل
2 م م م ت في اللجوء إلى محكمة واحدة بلا تمييز أو تفرقة بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو اللغة أو العقيدة.
كما أنّ المواطنين متساوين من حيث الإجراءات في اللجوء إلى محكمة مستقلة، ويتدعم هذا الضمان من خلال تكريس استقلالية القضاة من خلال تكوينهم وتسميتهم وترقيتهم والتزامهم بمبدأ الحياد حسب الفصل 12 م م م ت.
ولتحقيق مبدأ المساواة أمام القضاء كرّس المشرع مبدأ مجانية التقاضي تيسيرا لممارسة حق التقاضي كما مكّن المتقاضين المعوزين من الإعانة العدلية حسب الشروط الواجب توفرها .
كما سعى لتدعيم حق التقاضي بأن أعفى من دفع معاليم التسجيل لبعض الأحكام.و أوجب المشرع على المتقاضي دفع معلوم النشر ومعلوم المرافعة٠ وحتى يتم استعمال حق التقاضي في نطاقه المشروع، فقد سلط المشرع خطية في حالة ثبوت التعسف في استعمال الحق عند رفض الطعن بالاستئناف أو الاعتراض أو التماس إعادة النظر أو التعقيب وكذلك في صورة رفض الإشكال التنفيذي.
وتذليلا للعقبات المادية، سعى المشرع إلى جعل حق التقاضي في متناول المواطن وذلك بإحداث محاكم جديدة وتوسيع اختصاص قاضي الناحية إلى ما قيمته 7000د إضافة إلى اختصاصه الحكمي للنظر في مساءل لا تستدعي التأخير مثل قضايا حوادث الشغل وقضايا النفقة التي خوّل المشرع النظر فيها للمحكمة التي يوجد بدائرتها مقر الطالب.
وما فتئ المشرع يستنبط حلولا جديدة تجعل المواطن قريبا من مؤسسة القضاء فجاءت وظيفة الصلح التي اختصت بها محكمة الناحية ضمن نسق التحديث التشريعي و القانوني و ذلك لضمان أوفر الحظوظ للمتقاضين إذ أصبح الصلح وجوبيا أمام قاضي الناحية. وقد ثبت واقعا ايجابية هذا الإجراء الذي ساهم في تقليص ظاهرة النزاعات البسيطة والحد من ظاهرة نشر القضايا التي كانت سببا في تأخير إيصال الحقوق إلى أصحابها، إضافة إلى ذاك سعى المشرع إلى إرساء مؤسسة الإرشاد القضائي كما اعتمد التحكيم على أساس العدل
و الإنصاف مكرسا حق المواطن في قضاء محايد وفي محكمة منصفة كما غير ملامح السياسة العقابية في اتجاه إنساني .
كما سعى المشرع إلى تبسيط إجراءات اللجوء إلى القضاء ذلك بترك الخيار لتحديد مقر الدعوى كما أقر نظرية تصحيح الإجراءات إذ أن البطلان لا يمكن التمسك به إلا من طرف من تضررت مصالحه إضافة إلى اختصار آجال الحضور و عدم لزوم الاستظهار بعلامة البلوغ أمام القضاء الإستعجالي٠
2) الضمانات بعد القيام:
لتحقيق نجاعة حق التقاضي، فقد فعّله المشرع بجملة من الآليات٠ لعلّ أهمّها الحق في المساواة في اللجوء إلى القضاء ،هذا الحق هو مطلب إنساني غايته سامية تسعى إليها كل الشعوب والمجتمعات الديمقراطية قصد إشاعة الشعور بالعدل بين أفراد المجتمع وتدعيم ثقة العموم٠ من أوكد وابرز تداعيات الحق في التقاضي إقرار الحق في الدفاع الذي ترتب عنه جملة من المبادئ أهمها مبدأ المواجهة بين الخصوم والذي يفترض سلفا حضور المتقاضي أمام المحكمة. وتتمثل عناصر هذا المبدأ في عرض الحجج بإتباع نظام إثبات مقيد في ظل إحترام حرية تقديم الطلبات والمؤيدات والدفوعات تدعيما أو دحضا للدعوى٠ كما أن مبدأ المواجهة بين الخصوم يفترض تبادل التقارير والمؤيدات في الطور التحضيري حسب الفصل الرابع من مجلة المرافعات المدنية والتجارية .
وقد استوجب الفصل 69 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية أن يبلغ محامي الطالب نظيرا من عريضة الدعوى مصحوبا بنسخ من المؤيدات إلى المطلوب بواسطة عدل منفذ. كما أن المشرع بموجب التنقيح الأخير المؤرخ في 3/8 /2002 أضاف فصل جديد للمجلة وهو الفصل 11 مكرر والذي أقر قيام جريمة على كل من يتحيل لغاية عدم بلوغ الإستدعاء للمعني بالأمر.
أما في المادة الجزائية ، أوجب المشرع إعلام ذي الشبهة و أقاربه بوضعيته كمحتفظ به حسب الفصل 13 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية، و في إطار حسن سير الإجراءات فقد كرس المشرع مبدأ علنية الجلسات و ضمان شفافية المحاكمة وفقا لأحكام الفصل 117 م م م ت و الفصل 143 م ا ج .
و مبدأ علنية الجلسات هو مبدأ يضمن ثقة الناس في جهاز العدالة لممارسة حق التقاضي بطريقة ناجعة مع مراعاة الاستثناءات الخاصة€ مثال ذلك الإذن بإخلاء قاعة الجلسة لإجراء محاكمة سرية محافظة على الآداب العامة و الأخلاق الحميدة . و تدعيما لذلك فقد كرس المشرع مبدأ التقاضي على درجتين و مكن الطاعن من مباشرة طعنه بانتهاج طرق طعن عادية كالاستئناف مثلا أو طرق طعن غير عادية كالتعقيب و التماس إعادة النظر و الإعتراض.
الفقرة الثانية: عدالة التنفيذ والحق في التقاضي
العدل المنفذ مأمور عمومي ومساعد للقضاء وكل أعماله وسلوكه مندرجة ضمن أهداف المؤسسة القضائية ككل،و هو إشاعة الشعور بالعدل والأمن بين أفراد المجتمع وإعلاء قيم الحق من خلال نفاذ كلمة القضاء على ارض الواقع بتنفيذ الأحكام وإرجاع الحقوق إلى أصحابها. فطبيعي أن يكون هذا الهيكل بمثابة الآلية التي تدعم حق الفرد في التقاضي( الفقرة الأول ).
كما أن عدالة التنفيذ معرضة لعدة صعوبات في القيام بعملها لذلك خول لها المشرع حق مقاضاة كل من يتصدى لها ( الفقرة الثانية).
1. ضمان حق التقاضي للمواطن من قبل عدل التنفيذ من خلال ممارسته لمهامه
للعدل المنفذ دور هام في تفعيل حق الفرد في التقاضي على أرض الواقع وذلك من خلال الأعمال التحضيرية للتقاضي .
لقد نصت مجلة المرافعات المدنية والتجارية في فصلها الخامس على أن كل إستدعاء يتم عن طريق عدل منفذ ما لم ينص القانون بخلاف ذلك ، فعريضة الدعوى والمؤيدات و الأسانيد يتم تبليغها عن طريق عدل منفذ ٠ وهذا تكريس لمبدأ هام من المبادئ العامة للنظام القضائي وهو مبدأ المواجهة بين الخصوم، الذي يفترض أن يكون كل من الأطراف على علم بوقائع القضية ومؤيداتها كي يتمكن من الدفاع عن نفسه في أحسن الظروف و هو ما أكدته محكمة التعقيب[5] هذا على المستوى الجزائي.
أما على المستوى المدني، يمكن استدعاء المتهم بواسطة عدل منفذ وهو ما نص عليه الفصل 134 من مجلة الإجراءات الجزائية بتأكيده على أن ” الاستدعاء يكون بطريقة الإدارية أو بواسطة العدل المنفذ ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ” و هو ما أكدته محكمة التعقيب[6] أما على المستوى الجزائي.
وهو ضمان هام للمتهم كي يكون على علم بالتهمة التي موجهة إليه حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه . و إذا كان المشرع التونسي كرس الإعانة العدلية لبعض الأشخاص أثناء رفع دعواهم بهدف ضمان أوفر لحقهم في التقاضي، فقد تم تدعيم ذلك على مستوى التنفيذ والعدل مطالب بإجراء التنفيذ بدون التوقف على طلب التسبقة إذا تعلق التنفيذ بحكم صادر في قضية منح صاحبها الإعانة العدلية ( الفصل 27 من قانون عدد 29 لسنة 1995 مؤرخ في 13 مارس 1995) .
هذا من ناحية الأعمال التحضيرية للتقاضي، و للعدل المنفذ التدخل في مرحلة ما بعد صدور الحكم للقيام بتنفيذ الحكم وهي الغاية القصوى من حق التقاضي .
فعدالة التنفيذ تتدخل لنفاذ كلمة القضاء وتثبيت سلطانه من خلال تنفيذ الأحكام وإرجاع الحقوق إلى أصحابها وهو ما نص عليه الفصل 5م م م ت “أن كل إعلام بحكم أو تنفيذ يكون بواسطة عدل منفذ ما لم ينص القانون على خلال ذلك”.
2. ضمان حق التقاضي لعدل التنفيذ أثناء ممارسته لمهامه
قد يتعرض العدل المنفذ لعدة صعوبات أثناء مباشرته لمهنته٠ خاصة في إطار التنفيذ كانتهاك حرمته بالقول أو الإشارة أو التهديد بالخلع أو الإيقاف عن العمل أو التوجه إليه بإشارات مزرية تنم عن احتقاره. هنا يمكن للعدل المنفذ أن يقاضي كل من ينتهك شرفه ٠ وقد تشدد المشرع في هذه المسألة فمثلا الاعتداء بالعنف على العدل المنفذ قد تصل عقوبته إلى عشرة سنوات سجن كذلك إذا ما تعرض إلى الثلب (أي نسبة شيء بصورة علنية فيه نيل من شرفه) فان العقاب قد يصل إلى ثلاثة سنوات سجن وهو ظرف تشديد نص عليه الفصلان 51و52 من مجلة الصحافة.
هذا بالإضافة إلى ما جاء بالفصل 27 من قانون عدد 29 لسنة 1995 المؤرخ في 13 مارس 1995 والمتعلق بتنظيم مهنة العدول المنفذين، من أن للعدل المنفذ الذي لم يتصل بكامل أجره بعد قيامه بعمله، أن يقاضي الطالب لدى رئيس المحكمة الابتدائية الراجع له بالنظر والذي يجبر الطالب على دفع أجرة العدل المنفذ وما تقتضيه من معاليم.
كذلك نذكر الحالة التي يكون فيها العدل المنفذ خاضعا لإجراء تأديبي، فإن المشرع كرس له عدة ضمانات للدفاع عن نفسه من ذلك استدعائه للأبحاث تتم عن طريق مكتوب مضمون الوصول مع الإعلام بالبلوغ كما مكنه من الإطلاع على ملفه وأخذ النسخ من الوثائق المظروفة ومنح له أجل معين لتقديم ماله من بيانات كما مكنه من الاستعانة بأحد زملائه أو بمحام للدفاع عنه . هذا كلها تعد ضمانات مخولة للعدل المنفذ تمكنه من الدفاع عن نفسه وإثبات براءته من خلال ممارسته لحق التقاضي كأي مواطن.

الجزء Ι : التكريس التشريعي للحق في التقاضي .
فقرة أولى: تكريس الحق في التقاضي في الصكوك الدولية.
1 – المشهد العالمي
§ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
§ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية و العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية.
2 – المشهد الإقليمي
§ الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان
§ الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
§ اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول إتحاد المغرب العربي

فقرة ثانية: التكريس الوطني للحق في التقاضي.
1 – الدستور.
2 – القانون الجزائي.
3 – القانون المدني و غيره .
الجزء ΙΙ : التكريس التطبيقي للحق في التقاضي .
فقرة أولى: الممارسة التطبيقية للحق في التقاضي – فقه القضاء – تامين الحق.
1 – الضمانات عند القيام
2 – الضمانات بعد القيام
فقرة ثانية: عدالة التنفيذ و الحق في التقاضي.
1 – ضمان حق التقاضي للمواطن من قبل عدل التنفيذ من خلال ممارسته لمهامه.
2 – ضمان حق التقاضي للعدل المنفذ أثناء ممارسته لمهامه.

المراجـــــــع

* العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( 1968 )
* ألمولدي ألرابحي ” حق التقاضي ” مذكرة لنيل شهادة ختم الدروس بالمعهد الأعلى للقضاء الفوج الثالث عشر السنة القضائية 2001 -2002 ص 29 .
* نشرية محكمة التعقيب 1985 (ص 67 ).
* نشرية محكمة التعقيب 1989 .* حقوق الإنسان في تونس .
[1] – العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، صادقت عليه تونس بموجب القانون عدد 30 لسنة 1968 بتاريخ 29 نوفمبر 1968.
[2] – ألمولدي ألرابحي: “حق التقاضي”، مذكرة لنيل شهادة ختم الدروس بالمعهد الأعلى للقضاء، الفوج الثالث عشر، السنة القضائية 2001 – 2002، ص 29.
[3] – حقوق الإنسان في تونس ص 31.
[4] – حقوق الإنسان في تونس ص 35.
[5] قرار تعقيبي مدني عدد 37891 المؤرخ في 15 مارس 1993 ن م ت 1993 ص81
[6] قرار تعقيبي جنائي عدد 7966 مؤرخ في 12 افريل 1971 ن.م.ت. 1972 ق.ج.ج

الأستاذ جمال شهلول