جريمة الرشوة بين نظامي الوحدة والثنائية في ضوء القانون المقارن

كثرت حالات الفساد الاداري والمالي في مؤسسات الدولة المختلفة وقلما تتصفح صحيفة الا وتجد مقالات وارشادات عدة حول ظاهرة انتشار الفساد والرشوة في الدول المعنية ودور دائرة المفتش العام ومفوضية النزاهة بهذا الشأن ، هنا لابد للحقوقي الحاذق أن يستعرض للقارئ الكريم ولو بإيجاز تام طبيعة هذه الجريمة الخطرة التي باتت تستفحل في مؤسساتنا الخدمية والادارية وحتى العدلية أملا ان يستفيد منها الانسان المخلص الشريف ويتجنب عقباها.

فالرشوة لفظا أي لغة ما يعطي لقضاء مصلحة أو مايعطي لاحقاق باطل أو ابطال حق أو مايعطي بشرط الاعانة ، اما اصطلاحا هي الاتجار بالخدمة العامة .. واذا كانت لارشوة من الجرائم الخطرة التي تعبي الوظائف العامة فان ضررها أكثر جسامة وابعد اثرا فيكون من واجب السلطة أن تعمل كل ما في وسعها للحد من هذه الظاهرة لان انتشارها يؤدي وبشكل مباشر الى الاضرار بالصالح العام لان تفشيها يعني انعدام العدالة وشيوع التفرقة بين المواطنين فمن يدفع للمقابل تؤتي لمصلحته الاعمال الوظيفية بالشكل الذي يريده !!
ومن لايدفع تهدر مصلحته ويعجر عن تيسير اموره ..كما انها تعني استغلال الموظف لوظيفته واثرائه غير المشروع على حساب الاخرين .. كانت جريمة الرشوة ولاتزال مثارا لاشكالات قانونية متعددة مبعثها اختلاف القوانين في تجريمها لفعل الرشوة اذا انتهجت في ذلك نظامين مختلفين الاول يرى انهما جريمتان متميزتان احدهما يرتكبها المرتشي وتعرف بالرشوة السلبية والثانية من فعل الراشي وتدعى الايجابية والنظام الاخر يعتبر الرشوة جريمة واحدة يرتكبها المرتشي اما الراشي فهو مسهم فيها وتترتب على هذا النظام وهذا الاختلاف في الوصف نتائج مهمة تظهر عند تطبيق الاحكام العامة المتعلقة بالاشتراك والشروع.

نظام وحدة الجريمة :

يعتبر انصار هذا النظام ان الرشوة التامة جريمة واحدة يرتكبها الموظف المرتشي كفاعل اصلي لان جوهر الر شوة استغلال للوظيفة وهذا الفعل يقع من نصيب الموظف اما الراشي فهو شريك بالتحريض او بالاتفاق ويستعير اجرامه منه فهذا النظام يقوم على مبدأ وحدة الرشوة فهي جريمة واحدة ولا وجه للتفرقة بين رشوة سلبية او ايجابية فالعبرة دائما في جريمة الرشوة ليست سلوك صاحب الحاجة انما سلوك الموظف الذي يمارس الوظيفة او يؤدي خدمة ومن التشريعات التي اخذت بهذا النظام القانوني الايطالي والبولوني والدنماركي والتونسي والسوري واللبناني والبحريني والخ ..

نظام ثنائية الجريمة :

يرى انصار هذا النظام ان الرشوة تشتمل على جريمتين متميزتين احداهما يرتكبها المرتشي حين يأخذ او يطلب ثمن العمل الوظيفي او يقبل الوعدية وقد سميت بالرشوة السلبية اما الاخرى فيرتكبها الراشي حين يعطي المقابل للموظف او يعده به وتدعى بالرشوة الايجابية وبذلك يكون الفعل كل من الطرفين في الرشوة جريمة مستقلة عن جريمة الطرف الاخر ولا يعد الراشي شريكا للمرتشي ولا يلزم ان تتوفر الصلة بينهما سواء من ناحية التجريم او العقاب ، بمعنى انه قد تتوافر اركان احدى الجريمتين دور اركان الاخرى وتطبيقها لهذا النظام فان الموظف يُسأل عن الرشوة السلبية اذا طلب المقابل ولو رفض صاحب الحاجة الاستجابة الى طلبه فتقوم بذلك الرشوة السلبية دون الايجابية ويسأل صاحب الحاجة عن الرشوة الايجابية اذا عرض عطية على الموظف فرفض عرضه فتقوم بذلك الرشوة الايجابية دون السلبية وبالنظر لاستغلال تام لاجرام المرتشي عن الراشي فمن المتصور ان يكون لكل منهما شركاء في جريمته غير شركاء للطرف الاخر .. ومن التشريعات التي اخذت بهذا النظام القانون الفرنسي واليوغسلافي والالماني والسوداني والكويتي والسوفيتي السابق وقانون العقوبات البغدادي الملغي والعقوبات الحالي.

اهمية الخلاف :

تظهر اهمية اتباع احد المبدأين عند تطبيق الاحكام العامة في الاشتراك و الشروع فاذا اخذنا بمبدأ وحدة الجريمة فاننا نطبق على الراشي القواعد العامة المقررة في الاشتراك والشروع .. اما اذا ايدنا المبدأ الاخر فاننا نأخذ بفكرة ثنائية الجريمة فالامر يختلف ذلك لان فعل كل من الراشي والمرتشي يشكل جريمة مستقلة قائمة بذاتها ومنفصلة عن الاخر وبالتالي يخضع كل منهما لل احكام التي قررها المشروع لجريمته .

موقف القانون المقارن :

هنا لابد ان نتطرق الى موقف بعض القوانين العربية والاجنبية بالنسبة لجريمة الرشوة ولو باختصار شديد .. نبدأ من القانون الفرنسي : يفترض في الرشوة حسب القانون الفرنسي فعلين اساسيين متميزين احدهما الرشوة الايجابية (جريمة الراشي) والثانية السلبية (جريمة المرتشي) وقد انتقدت شرائح الفرنسيون هذا المسلك اذ يرون ان جريمة الرشوة تتكون من عنصرين اساسيين هما العرض والقبول والجريمة لاتتم الا اذا اكتمل العنصرين أي باتمام قبول العرض لذلك لايمكن القول بوجود جريمتين مستقلتين انما جر يمة واحدة لايتصور وقوعها الا باجماع شخصين وان هذا التقسيم لايتفق مع المنطق ولا مع المبادئ .
بند 2ـ القانون المصري : لم يحذ المشرع المصري حذو المشرع الفرنسي انما فصل جريمة المرتشي عن الراشي واعتبرهما جريمتين بل عرف الرشوة في مواد القانون وانقسم الفقه المصري الى فريقين بهذا الخصوص ففريق يؤيد ماذهب بهذا القضاء المصري في احكامه التي تؤكد ان المشرع عند معالجته للجريمة اخذ بنظام ازدواج الجريمة حسب المشرع الفرنسي والثاني ذهب الى ان المشرع اعتبر فعلي الراشي والمرتشي جريمة واحدة لمنع اللبس والخلاف بشأنها وخاصة عندما خالف القانون المصري مصدرها بعدم التفرقة بين الرشوة الايجابية والسلبية .. اما الراشي فقد اعتبره بعضهم انه شريك في الجريمة والبعض الاخر انه فاعل اصلي مع المرتشي وهكذا عرفنا الجريمة في تشريعين عربي واجنبي ..

موقف الشريعة الاسلامية :

تنقسم الجرائم بمقتضى احكام الشريعة الاسلامية الى جرائم الحدود المعاقب عليها بحد وهي العقوبة المقدرة حقا لله تعالى .. وجرائم القصاص والدية المعاقب عليها عقوبة مقدرة حقا للافراد وجرائم التعازير المعاقب عليها باحدى عقوبات التعازير التي يقدرها حسب جسامة وخطورة كل جريمة وظروف المجرم .. وجرائم التعازير غير محددة كجرائم الحدود والقصاص والدية وانها نصت على بعضها كالرشوة ودليل تحريمها مستمد من القرأن الكريم والسنة النبوية الشريفة ولارشوة حرام وهي جريمة من جرائم التعزير وهي عقوبة مفوضة لرأي القاضي يختار في كل حالة تعرض عليه العقوبة الكافية لزجر الجاني مع مراعاة ظروف الجريمة والجرم والمجني عليه والزمان والمكان علما ان العقوبات التعزيرية هي الاعدام والجلد ةوالحبس والنفي والغرامة والمصادرة والوعظ .

العقوبة الاصلية والتكميلية للرشوة :

لابد هنا ان نتطرق الى العقوبات المنصوص عليها في القوانين العراقية

بند 1 . قانون العقوبات البغدادي الملغى : اتبع المشرع العراقي في هذا القانون ذات النهج الذي اتبعه المشرع الفرنسي فاخذ بنظام ثنائية الجريمة وفصل جريمة المرتشي عن جريمة الراشي ووضع لكل جريمة احكاما خاصة بها وفصل جريمة تجريم المرتشي في المادة لاقانونية بمعاقبة كل شخص اعطى او اتفق على ان يعطي لموظف عمومي او مندوب عن الحكومة يطلب او يقبل لنفسه او لغيره هدية او وعدا او ايه فائدة اخرى لحمله او مكافاته عن اداء عمل من اعماله الوظيفية او الامتناع عنه حسب المادة 93 منه والمادة 94 على تجريم فعل الراشي ومعاقبته وتجريم فعل عارض الهدية او الفائدة عوقب عارض الرشوة على الشروع في ارتكابه احدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين اعلاه

بند .أ. قانون العقوبات الحالي قرر القانون جريمة الرشوة عقوبة اصلية وثلاث عقوبات تكميلية وجوبية وعقوبة تكميلية جوازية وهذه العقوبات المقررة للمرتشي (الفاعل الاصلي في الجريمة) مقررة كذلك للراشي والوسيط الشريكين في الجريمة ذاتها كما قضت بذلك المادة 310 من قانون العقوبات التي نصت على انه (يعاقب الراشي والوسيط العقوبة المقررة قانونا للمرتشي) هنا لابد ان نتطرق ولو بايجاز عن هذه العقوبات . .

اولا : العقوبة الاصلية : ميز القانون في العقوبة الاصلية ب ين الحالات الثلاث لجريمة الرشوة على النحو الاتي :

1. السجن مدة لاتزيد عن عشر سنين لكل موظف او مكلف بخدمة عامة طلب او قبل لنفسه او لغيره عطية او منفعة او ميزة او وعد بشيء من ذلك لاداء عمل من اعمال وظيفته او الامتناع عنه او الاخلال بواجبات الوظيفة م / 307.

2. السجن مدة لاتزيد عن سبع سنوات او بالحبس وهذا بعد اداء عمله بقصد لمكافأة على ما وقع من ذلك م2/ 307 . اما المادة 308 منه فالسجن لمدة لاتزيد عن سبع سنوات او الحبس لعمل لايدخل في اعمال وظيفته ولكنه زعم ذلك او اعتقده خطأ .

ثانيا : العقوبات التكميلية الوجوبية : هي الغرامة النسبية يحكم بها فضلا عن العقوبة الاصلية ب نسبة تتفق مع الضرر الناتج عن الجريمة او المصلحة التي حققها او اراد الجاني من الجريمة ويحكم بها على المتهمين في جريمة واحدة وعلى وجه التقاضي سواء كانوا فاعلين ام شركاء اما المصادرة فتحكم بمصادرة العطية التي قبلها الموظف ويستتبع الحكم بعقوبة في جريمة الرشوة عزل الموظف عن الخدمة وعدم جواز اعادة تعيينه في دوائر الدولة .

ثالثا : العقوبة التكميلية الجوازية : وعلى المحكمة عند الحكم بالعقوبة في جريمة الرشوة ان تقرر حرمان المحكوم عليه من حق او اكثر من الحقوق المبينة لمدة لاتزيد عن سنتين وهذا ما مبين في المادة 100 من قانون العقوبات .

خاتمة البحث :

وهكذا فالرشوة فعل يرتكبه موظف او مكلف بخدمة عامة عندما يتجر بوظيفته مستغلا السلطة المخولة بمقتضى هذه الوظيفة وذلك حين يطلب او يقبل لنفسه او لغيره عطية او منفعة او ميزة او وعدا بشيء من ذلك لاداء عمل من اعمال وظيفته او الامتناع عنه او الاخلال بواجبات وظيفته ، والرشوة ليست جريمة مستحدثة في مجتمعاتنا المعاصرة وانما وجدت في المجتمعات القديمة ونصت عليها قوانينها فقد نص قانون حمورابي في عام 1700 ق.م على ان الرجل الذي يقدم الحبوب والمال كرشوة تفرض عليه العقوبة المقررة .. وكذلك قانون الاواح الاثنى عشر الروماني المدون عام 560ق.م ، نص على عقاب القاضي المرتشي بالاعدام وفرق بين الرشوة في الدعوة المدنية عن الدعوى الجزائية فكانت عقوبتها في الاولى غرامة مساوية ثلاثة امثال الشيء المعطى او الموعود به مع العزل من الوظيفة اما الدعوى الجزائية فكانت عقوبة النفي ومصادرة الاموال .. واتبع القانون الفرنسي القديم الى حد كبير احكام القانون الروماني فكان يفرق بين الرشوة في الدعوتين فالرشوة جريمة واحدة لايصدق وصفها الا عند فعل المرتشي ذي صفة عمومية اما صاحب الحاجة فلا يعد فاعلا لها ولا شك ان حاجة الناس للخدمات التي يؤديها الموظف تحملهم لشهواته اذا ما اراد العبث بوظيفته واستغلالها لمىربه الشخصية فالمشرع اراد من تجريم الرشوة منع الموظف من ممارسة هذا العبث والاستغلال ، ولما كان العمل الوظيفي يقع في نصيب الموظف فالعبرة في وقوع الرشوة هي بسلوك المرتشي الذي يمارس اعمال وظيفته فيخل بواجب المحافظة على نزاهتها ويخون الثقة التي وضعت فيه حينما عهد اليه بامانة المنصب العام .. فالراشي لايستطيع ان يعبث بواجبات وظيفته وهي بيد الموظف العام واداؤها لايتم الا من قبله ولكنه يعتبر شريكا للموظف بالاتفاق او التحريض ، ولكننا نقول بوجوب ومعاقبة من يعرض رشوة على الموظف ولا تقبل منه كجريمة من نوع خاص ، وهذا ما لجأت اليه التشريعات الجنائية التي اخذت بنظام وحدة جريمة الرشوة كالقانون السوري والاردني والمصري واللبناني .. وهكذا تجرم التشريعات المعاصرة الرشوة وتحدد عقوبتها وهي على ما بينها من اوجه الاختلاف في التفصيلات تأخذ باحد النظامين هما نظام ازدواج الجريمة ونظام وحدة الجريمة فالازدواج يقوم على ان الجريمة تشمل جريمتين منفصلتين جريمة الراشي (الايجابية) وجريمة (المرتشي) السلبية ونظام وحدة الجريمة اساسية لاعتبار الرشوة جريمة واحدة جريمة موظف يتجر بوظيفته فهو الفاعل الاصلي وقد اخذ القانون العراقي بنظام وحدة الجريمة فاعتبر الرشوة واحدة واعتبر كلا من الراشي والمرتشي والوسيط شركاء..

المصادر :

1. عبد العزيز عامر _ التعزير في الشريعة الاسلامية .
2. عبد القادر عودة _ التشريع الاسلامي مقارنا بالقانون الوضعي .
3. د. محمود محمود مصطفى _ شرح قانون العقوبات / القسم الخاص .
4. علي السماك _ الموسوعة الجنائية في القضاء العراقي .
5. محمود نجيب حسني _ شرح قانون العقوبات .
6. رمسيس بهنام _ القسم الخاص في قانون العقوبات .
7. بطرس البستاني _ محيط المحيط .
8. د.احمد رفعت الخفاجي_ جرائم الرشوة في التشريع المصري والقانون المقارن.
9. د.عبد المهيمن بكر _ القسم الخاص من قانون العقوبات / الجرائم المضرة بالمصلحة العامة .
10. حبذل عبد الملل _ الموسوعة الجنائية.
11. د.سميرة الشنلوي _ الشروع في الجريمة .
12. اعداد من مجلة العدالة والحقوقي .