تكريم المزورين.. باسم النظام
تقادم الأنظمة.. مكافحة التزوير أنموذجاً
محمد عبدالعزيز المحمود

تسعى الأمم والشعوب للنهوض بأنظمتها وقوانينها الإجرائية والعقابية للتماشي مع التطور السريع الذي يعيشه العالم اليوم، وبلادنا المباركة المملكة العربية السعودية سعت بخطى ثابتة لمواكبة هذا التطور، وأقرب مثال لذلك صدور نظامي القضاء وديوان المظالم في شهر رمضان الماضي، هذان النظامان اللذان يعدان نقلة نوعية هائلة في المجال الحقوقي.

وبصدور هذين النظامين كان لا بد وأن يتماشى معهما تطوير بقية الأنظمة التي مضى عليها سنين كثيرة، وخصوصاً تلك الأنظمة الجنائية التي لها ارتباط وثيق بحياة الناس وتصرفاتهم.

ولقد حزنّا كثيراً في الأسبوع الماضي حين طالعتنا صحيفة الرياض بذلك الخبر الذي يعده القارئ – ولأول وهلة – دعاية مجانية لارتكاب جريمة من أشنع الجرائم وأشدها ضرراً وفتكاً بالمجتمعات.

تلكم جريمة التزوير؛ تزوير المحررات الرسمية والشهادات الدراسية التي ضاعت بسببها الحقوق، وضعفت لأجلها الهمم، ودب الشك في أذهان الناس فيمن حولهم من الأساتذة والأطباء وغيرهم.

بل إن المصيبة حين يتقلد هؤلاء المجرمون المزورون زمام التربية والتعليم في أعلى مؤسساتنا التعليمية؛ في التدريس في الجامعات وكليات البنات.

فما الذي نرجوه من مزورٍ ومزورة أن يقدموه لأبنائنا وبناتنا؟؟..

بل إن الأدهى من ذلك والأمرّ حين يتم تكريم هؤلاء المزورون باسم النظام !

فلقد تفاجأنا بما أوردته جريدة الرياض من نشر ذلك الحكم الصادر من الدائرة الجزائية بديوان المظالم بمنطقة عسير ضد إحدى المحاضرات وذلك اثر إدانتها بتزوير شهادتي الليسانس والماجستير في تخصص اللغة الانجليزية المنسوبة لإحدى الجامعات العربية وتم التعاقد معها بموجبه كمعلمة للغة الانجليزية.

وبعد أن اعترفت – تلك المحاضرة المزوِرة – أمام هيئة الرقابة والتحقيق بتزوير الشهادتين من خلال مبالغ مالية دفعتها لأشخاص ساعدوها في عملية التزوير؛ أقامت هيئة الرقابة والتحقيق دعواها أمام الدائرة الجزائية بديوان المظالم الذي جاء حكمها الموقر كالتالي : تغريمها مبلغ وقدره ألف ريال سعودي ! وسجنها سنة كاملة مع وقف عقوبة السجن تقديراً لظروفها العائلية ورعاية أطفالها إضافة إلى ما قدمتّه أمام الدائرة من ندم وأسف.. !! (هكذا نص الخبر).

وفي الحقيقة أني لا استطيع التعليق على ذلك الحكم لأنه يعبّر عن نفسه !! بل ومهما علقنا عليه فلن يكون تعليقنا أفضل مما ينقدح في ذهن القارئ من استهجانٍ وتسخط بعد قراءته الخبر مباشرة..

وليس لي إلا أن أقف وقفات يسيرة حول هذه الجريمة المؤرقة؛ إذ كنت سأفرد نظام مكافحة التزوير بمقال، وهذه القضية وما وراءها من إخفاقٍ إداري من لجان التعاقد بمقالٍ آخر، إلا أني آثرت أن أشير إلى كلا الموضوعين بمقالنا اليوم لا رتباطهما الوثيق..

إذ أن نظام مكافحة التزوير في المملكة العربية السعودية نظامٌ قديم صدر بموجب المرسوم الملكي رقم 114وتاريخ 1380/11/26ه ولم يواكب بقية الأنظمة التي تتطور تباعاً بالرغم من إضافة مادتين جديدتين إليه؛ وهما المادة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والمختصتين في تجريم التزوير في الصور الضوئية أو المنسوخة بالحاسب الآلي، إلا أن بقية المواد بقيت كما هي من غير تعديل؛ كالمادتين الخامسة والسادسة واللتين تجرّمان تزوير الشهادات الدراسية وتعاقب على تزويرها بالسجن من سنة إلى خمس سنوات، وتنص أيضاً على معاقبة الأشخاص العاديين الذين يستعملون الوثائق والأوراق المزورة – كتلك المحاضِرة والتي استخدمت شهادتين مزورتين – وهم على علم من حقيقتها بعقوبة السجن من سنة إلى خمس سنوات، وبغرامة مالية من ألف إلى عشرة آلاف ريال.

وفي اعتقادي أنه لا بد من مراجعة الغرامة المالية في هاتين المادتين، ورفع سقفها الأعلى وجعلها مواكبة للتطور الحاصل اليوم، وكذلك في غيرها من المواد من ذلك النظام القديم الذي أُقرّ قبل ثمانٍ وأربعين سنة، حين كان الألف ريال مبلغاً له تأثير كبير في النفوس لا كما هو الحاصل اليوم.

بل إن النظام نص في المادة التاسعة منه على أن من زور في وثيقة رسمية أو في حفيظة نفوس أو جواز سفر أو رخصة إقامة أو تأشيرة من التأشيرات الرسمية للدخول أو المرور أو الإقامة أو الخروج من المملكة العربية السعودية فإنه يعاقب بغرامةٍ مالية من مائة ريال إلى ألف ريال !! وبالسجن من ستة أشهر إلى سنتين.

وأرى أنه لا بد وأن يعطى القاضي صلاحية أوسع في العقوبة السالبة للحرية؛ بأن يخفض حدها الأدنى من سنة إلى شهر واحد حتى لا نلجأ لوقف العقوبة !

ثم إنه ولا بد حين الحكم بقضايا التزوير من النظر في آثار ذلك التزوير على المجتمع؛ وعلى ما جناه المزوّر من ذلك التزوير من مكاسب ماديةٍ أو معنوية؛ فمثلاً ليس من المعقول أن يتساوى في العقوبة من يزوّر الشهادات الدراسية ويتم التعاقد معه لتدريس الطلاب أو الطالبات في مراحل التعليم العليا ويتقاضى رواتب شهرية تصل إلى سبعة الآف ريال شهرياً، وتذاكر سفر سنوية، وبدل سكنٍ يقدّر بخمسة وعشرين ألف ريال، ويظلّ أعواماً على هذا الحال؛ يسمم أفكار طلابنا وطالباتنا، ويضعف مخرجات التعليم في بلادنا – مع أننا نجزم أن منء زوّر شهادته وتجرأ وأقدم على هذه الجريمة فإنه لا مانع لديه من تزوير نتائج الطلاب والطالبات بسببٍ أو بآخر – فليس من المعقول أن تكون عقوبته وعقوبة الطالب الجامعي الذي يزوّر عذراً طبياً لكي لا يحرم من دخول أحد الامتحانات.. واحدة..!!

أو أن تتساوى عقوبة مزوّر الشهادات الدراسية التي بموجبها يتم التعاقد معه للتدريس، بعقوبة ولي أمر الفتاة المتخرجة من الجامعة ولم تجد عملاً – بسبب إحلال تلك المزورات محلها – وقام ولي أمرها بتزوير شهادة الخبرة أو الخدمة.. فهل يستويان مثلاً؟؟..

فكلاهما تزوير يعاقب عليه النظام، لكن لا بد من النظر في نتيجة ومآل ذلك التزوير، ودوافعه، وما جناه المزوّر من تزويره، ومدى تسبب ذلك التزوير في إلحاق الضرر بالفرد والمجتمع..

وإني والله لأتعجب من حكم ديوان المظالم على تلك المحاضرِة المزورة.. كيف لم يراع الديوان مصلحة المجتمع حين نطق القاضي بذلك الحكم؟؟.

ألم يدرك حجم الضرر الواقع على عشرات الآلاف من الطالبات وأولياء أمورهن الذين وثقوا بوكالة كليات البنات وائتمنوهم على فلذات أكبادهم ثم تفاجأن بأنهن يستمعن كل يوم إلى محاضراتٍ خاوية تلقيها نساءٌ مزورات عاطلات، مرتكباتٍ لجرائم تخل بالشرف والأمانة لا يفقهن في تخصصهن شيئاً..!!

ألم يراع الحكم ما تسببت به تلك المزوِرة من إضعاف مخرجات التعليم في بلادنا واهتزاز صورة التعليم الجامعي في نفوس بناتنا !!..

ألم يراع ناظر تلك القضية ما مرّت به تلك المعاملة من تعبٍ وجهد في سبيل الكشف عن تلك المزورة والتحقيق معها وإقامة الادعاء ضدها؟؟..

فلا بد من النظر إلى النتائج المترتبة على ذلك التزوير، وأثرها السيئ في المجتمع، ولا أظن أن ذلك يخفى.ثم ليعلم الجميع أن الإحالة لديوان المظالم في مثل هذه القضية (تزوير الشهادات) لا يكون إلا بعد تحقيق مستوفٍ من هيئة الرقابة والتحقيق والتي لا تحرك الدعوى من تلقاء نفسها إلا بعد أن يستفحل أمر هذه المزوِرة ويشتهر أمرها، ثم إن الاتهام لا يوجه لها من المدعي العام إلا بأدلةٍ واضحة وبعد مخاطبات ومكاتبات.. ثم بعد أن تمثل للقضاء تواجهُ بمثل تلك العقوبة الهزيلة التي تنسف الجهود، وتحطم الآمال، ويصبح الحليم أمامها حيران..

ثم إن لنا لوقفة مع المتسبب في استقدام تلك المزورات والتي أصبح الكلام عنهن حديث المجالس اليوم.. فمن هو المتسبب الأول في التعاقد معهن؟؟

ولماذا لايتم إعفاؤه – على أقل تقدير قبل محاكمته – من هذه المهمة التي أخفق بها؟؟..

هل سنرى تلك اللجان التي تعاقدت مع تلك المزوِرة وأشباهها هي نفس اللجان التي ستخرج للتعاقد في العام القادم؟؟..

ثم إن مسألة التأكد من صحة شهادة عضو هيئة التدريس أمرٌ ليس بالصعب إذا وجدت النية الصادقة من قبل المسؤول..

فما المانع من مراسلة الجامعة التي أحضر شهادته منها؟؟وما المانع أيضاً من طلب نتاجه العلمي وبحوثه المنهجية التي قدمها في بلاده وعرضها على أهل الخبرة والاختصاص كلٌ في مجاله؟؟..

لماذا لا تبدأ وكالة كليات البنات – واعتباراً من الغد – بفحص شهادات جميع منء تم التعاقد معهن من المحاضرات والأستاذات وذلك بمراسلة الجامعات التي يدعين الانتساب لها؟؟..

لماذا يظل بناتنا المتفوقات في المرحلة الجامعية رهينات البيوت ويتم التعاقد مع تلك المزورات بعقود ومبالغ ومزايا ترضى بنصفهن بناتنا؟؟..

بل لماذا تتجاهل وكالة كليات البنات توجهات بلادنا المباركة بإحلال السعوديات مكان الوافدات – وهذا في حالة التساوي – فما بالنا إذا تم التعاقد مع منء هنّ أقل مستوى وأضعف أمانة وأقل مروءة؟؟..

بل ولماذا يتكرر جلب تلك المزورات كل عام؟؟..

وهل فعلاً ما سمعناه من أن عميدة كلية القريات بعثت كتاباً لعميدة هيئة التدريس بوكالة كليات البنات طلبت فيه التأكد من صحة شهادة ماجستير تحملها إحدى المحاضرات المتعاقدات ولم يتم الرد عليها بل تم تجديد عقدها فرفعت العميدة الموضوع مباشرة لمحفاظ القريات فتم التحقيق مع المحاضرة في شرطة القريات واعترفت أن شهادتها مزورة وجرى تصديق اعترافاتها شرعاً؟؟..

فمن المسؤول عن ذلك كله؟ ولمصلحة منء تم تجاهل ذلك الكتاب؟؟..

أسئلةٌ حيرى.. لن نجيب عليها.. بل سندع أمرها للمسؤول ليبيّن لنا موقفه من تلك الجرائم التي ترتكب باسم العلم والتعليم في بلادنا..

اسأل الله العظيم بمنّه وكرمه أن يصلح أحوالنا، وأن يهيئ لتعليمنا أناساً صالحين مؤتمنين، يستشعرون تلك الأمانة الملقاة على عواتقهم، وأن ييسر لنا من أنظمة مكافحة التزوير ما يكون كفيلاً بردع المزورين والمزورات، موازياً للجهد المبذول في كشفهم وبيان جريمتهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

@ باحث قانوني

إعادة نشر بواسطة محاماة نت